رماد

رماد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الفتاح

جلست أمامه مباشرة على نفس الطاولة، كانت الطاولة هي الوحيدة شبه المعزولة، وتقع فى ركن هادئ نسبيا، بينما تضج كافتيريا صالة السفر فى المطار بالمسافرين والحقائب.

 

وضعت حقيبتها الصغيرة بجوار الطاولة، استأذنت بهزة صغيرة من رأسها لم تنتظر الرد، ألقت بجسدها الذي يبدو عليه الإرهاق والتعب واضحا وضوح الشمس, لم ينظر إليها، فهو دائما ما يشعر بالخجل والارتباك فى اللحظات الأولى، خصوصا فى حضرة سيدة شابة جميلة كما يبدو عليها, ثم إنه كان يفضل أن يمضي الوقت المتبقى قبل الصعود الى الطائرة، فى الغوص بداخل نفسه ومراجعة ذكرياته، وترتيبها مثلما يرتب أوراقه وكتبه على أرفف المكتبة، بعناية فائقة وبتسلسل واضح وسهل.

أمسك بعلبة السجائر، أخرج سيجارة وقربها من فمه، لكنه وقف برهة ونظر إليها كي يطلب الإذن منها، إن لم تكن تمانع أن يدخن, مد كفه بالسيجارة أمامه ونظر إليها وفتح فمه، لكن لسانه لم ينطق، لم يتحرك من الأساس، فقط نظر إليها وتسمرت عيناه حين اصطدمت بفتحة قميصها، التى تكشف جزء كبيرا من صدرها، والذي تدلى عندما انحنت لتبحث عن شيئ فى الحقيبة, مما زاد من ارتباكه، أمسك بعلبة السجائر، لم يدر أيدخل السيجارة أم يخرج واحدة أخرى, جاءت أصابعها فى خفة النسيم، وسحبت من أصابعه السيجارة الأولى, نظر الى السيجارة وهي تسحب فى هدوء، كخط أبيض لا ينتهى ولا يريده أن ينتهى، خط أبيض يمتد ويستطيل وينسخ نفسه ملايين المستطيلات البيضاء، التى ترتفع الواحد تلو الاخر وتعزل الضجيج والمسافرين والحقائب والطاولات والألوان, خط أبيض يمتد من أصابعها الى أصابعه، تسحبه ببطء ومعه تسحب روحه من جسده، هكذا أحس عندما رفعت السيجارة الى فمها، وضمتها بشفتيها كأنها تحضنها لتمنحها الطمأنينة والسلام، قبل أن تشعل فيها النيران، وتمتص روحه دخانا محملا بالعذابات، وتخرجه دخانا أبيض من غير سوء، منطلقا فى الفضاء الواسع الخالي من الجدران والزنازين.

وضع يده على رخام الطاولة البارد، فسرت البرودة من الرخام الى جلده، وشعر براحة وهدوء يعرفهما جيدا، أحس بتنميل يسري فى عروقه، مثل التنميل المحبب الى قلبه، والذي كان يسري على ظهره الملتهب من أثر جروح، قد خطتها عصى الشرطة العسكرية فى الزنزانة الباردة، بعدما اعتقل ذات مرة عند خروجه من ميدان الاعتصام ضد حكم العسكر, تذكر كيف كانت برودة الجدران تمنح ظهره الممزق، بعض الراحة والتنميل، كأنها تمتص منه الألم, لم يكره جدران الزنزانة، بل على العكس تماما، كان يشفق عليها، إنما كان يكره هذا الفضاء المكعب الفارغ المعتم، الذي يبتلع الزنزانة ويبتلع روحه, روحه هى الآن تسري فى فضاء أكثر بهجة، بعدما امتصته شفتيها واطلقته للفراغ, انتبه الى أنه مازال ينظر اليها، فكر أن يبتسم فى ود، لكنه تراجع خوفا من أن تفهمه بشكل خاطئ، أو يزعجها فتغادر الطاولة. كانت جميلة، نعم جميلة كملاك فى ليلة من ليالي الصيف، والنسائم اللطيفة تتهادى، والقمر فى كامل بهائه، يرسل فضته لتداعب موجات البحيرة الصغيرة، والوردات تتمايل مسحورة من نور جمال هذا الملاك البرئ.

هكذا يراها هو، ولا يعنيه مطلقا أن يراها الآخرون كذلك أو غير ذلك، المهم أنها أمامه تجلس على نفس الطاولة، تشعل سيجارة أخذتها من بين أصابعه برفق ودون كلمة واحدة, لكنه أدرك أنها لم تشعل السيجارة قط، بل فقط تمررها وتلهو بها على شفتيها برقة، وتبللها بطرف لسانها بعسل مصفى, أمسك بعلبة الكبريت وحاول أن يشعل عود،ا فتطايرت الشظايا مشتعلة من حوله، وسقطت كتلة كبيرة نسبيا منها فى حجره، انتفض واقفا فى نفس اللحظة التى جائت المضيفة لتضع فنجان القهوة وكوبا من الماء على الطاولة، لكن المضيفة فوجئت به أمامها لتسقط الصينية على رأسه، وتنسكب القهوة على قميصه, تتلوى القهوة نازلة، ترسم خريطة على جسده كنهر يشق الأرض، ويرسم مدنا ويصنع حدودا لدولة من البدو والعسكر. تنطلق من شفتيها ضحكة كتغريدة لطائر من طيور الأساطير, ضحكة عابثة شقية، كطفل يقفز فى الحجرة بعدما ألقى كل مخدات الريش فى الهواء، فتناثر الريش وتساقط فى جو عبثي, ضحكة طرية كالماء الرغد فى جدول يشق الصحراء, ومن دون النظر إليها سأل عن الحمام، فأشارت المضيفة بالاتجاه الصحيح، ذهب مسرعا إليه, أمسك منديلا وأخذ ينظف نفسه وجلده من أثر القهوة والمدن المحتلة, نظر فى المرأة أمامه, كم أنت غبي أبله!! هكذا حدث نفسه لماذا تصر على إذلالي أمامها بهذا الشكل المذري؟ لماذا تهرب من عينيها وتفر منك الكلمات، وأنت الذي طالما سحرت النساء بعذب حديثك وأغويتهن؟ سترجع الى الطاولة وتسألها عن وجهتها؟ ستكون لطيفا, دع خجلك جانبا الآن, أنت تحسن التصرف عندما ترتدي قناع الوقاحة، كن وقحا, لكن هي ليست كالنساء، هي شيئ أخر لا أجيد التعامل معه.  نفض كفه من الماء وأغلق الصنبور، رجع إلى طاولته محاولا أن يرسم خطوات واثقة أكثر, سحب كرسيه وجلس دون أن ينظر إليها, وأخذ عود كبريت واشعله من دون كلام, قربه إليها لتشعل سيجارتها التي لم تشعلها بعد، نفخت فى العود وأطفأته, وضعت السيجارة بين أصبعيه, نهضت ممسكة بحقيبتها, اقتربت منه وأمالت رأسها بجوار أذنه، همست بكلمات لم يسمعها أحد غيره، وضعت قبلة صغيرة على خده ومضت، بعدما امتصت روحه دخانا محملا بالعذابات، وبعثرته فى الفراغ الواسع, نظر أمامه فوجد جسده متكوما كسيجارة فى المطفأة داستها الأقدام, أسند ظهره الملتهب الى جدار الزنزانة الباردة، وأغمض عينيه.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون