طه سويدي
دغدغت برودة مكيف هواء المترو شعوري بالزهو ولما أسندتُ ظهري على المقعد الصلب ثم وضعت ساقًا على ساق تمدد هذا الشعور حتى كاد يشمل العربات المجاورة. تخطيط دقيق وناجح أن أستيقظ مبكرًا لأستقل المترو في السادسة والنصف، وليس ذلك فحسب بل إني ابتعدت عن العربات القريبة من السلالم وأسرعت الخطى رغمًا عن الحذاء الجلدي الحاد حتى تكلل سعيي بهذا المكان الملائم لبذلتي السوداء لتحتفظ بهندامها قبل مقابلة العمل.
كان ذلك الجزء الأعظم من خطتي المحكمة للحفاظ على المظهر والهندام وتفادي أي أضرار، ولم يتبقَ سوى جزء بسيط هو الانتظار لساعة ونصف في المقهى القريب من الشركة حتى يحين الموعد، وبدا هذا الجزء سهلاً وقارب على التحقق بالفعل، ولكن ظهوره غيّر كل شيء. مهلاً، أغيّر أم أفسد؟ لا أعرف.
أمضيتُ أسبوعًا أتصفح الانترنت عن الأسئلة الشائعة في مقابلات العمل، والعيوب القاتلة، والإجابات النموذجية، وكيف أجلس وأتحدث، وأصمت وأفكر، وكيف أكون واثقًا رغم ضياع حرف الراء من لساني، والأهم أن أستجمع كل الطاقة الإيجابية بداخلي وأتنفس بهدوء حتى تنتقل هالتي بشكل ايجابي يسيطر على من يديرون المقابلة، وهذا طبقًا لأحد الفيديوهات التي شاهدتها قبل يومين.
على الرغم من أني لا أتذكر رقم هذه المقابلة في قائمة من سبقها إلا أنني كنت متحمسًا جدًا للوظيفة، بالرغم من أنها لا تمت لمؤهلي بصلة ولا تكفل مرتبًا ضخمًا، ولكنني كنت متحمسًا، ربما مللت اليأس، أو ربما ألوك الحماس لبعض الوقت.
أتناول كوب الشاي برشفات محسوبة حتى لا تتسلل أي قطرة للقميص، وأقرأ ببلاهة إجابات للسؤال الأهم “أين ترى نفسك خلال خمس سنوات” إجابات براقة من عينة ” أرى نفسي مديرًا/ رئيسًا للقسم/شخص ناجح…” في الحقيقة كانت إجابتي المفضلة هي ” وأنت مال أمك” ولكن لأني ألوك الحماس وأحلم بمكالمة أو رسالة القبول، فلم أفكر في إجابتي المفضلة طويًلا كالعادة، وعندئذ ظهر.
لم يكن يشبهه في أي شيء سوى صندوق تلميع الأحذية محمولاً على الكتف الأيمن. والإنصاف يقتضي القول بأنني لم أطلب منه تلميع حذائي، لا لأنه ذكرني بيوم تناسيته ولكن لأن حذائي اليوم لم تسحقه الأقدام بعد.
عبرتُ الشارع مسرعًا وتفاديتُ سيارتين سامعًا سباب آلات التنبيه، صعدت إلى مكتب الشركة الشاهق، استجوبتني فتاة جميلة، ثم جلست أنتظر دوري، لأن العدد كان كبيرًا في هذا الوقت المبكر، بصقت الحماس وجلست.
“تلمع يا بيه؟”
بادرني يومها بجملته هادئّا، وأتذكر أنني رفعت رأسي ببطء لمصدر الصوت، فحيتني ابتسامة يانعة، يُظلها شارب أبيض أشعث، بوجه شديد السمرة، كثير التجاعيد حول الفم والعينين ، وكان الشعر القليل المتبقي في رأسه يلمع ببياض شاهق.
نادت الجميلة اسمي، سرت لمسافة لا أتذكرها، استوقفتني قبل الباب ثم دخلتْ وهي تأمرني أن أنتظر حتى تخرج لي.
طلبتُ منه يومها أن يلمع حذائي. جلس الرجل عند قدمي قائلا ” أستأذن حضرتك ترفع رجليك لفوق”
خلعت حذائي، راقبته، يلمع الحذاء بحركة بطيئة، ورعشة تصاحب يديه طوال قيامه بعمله.
خرجت الجميلة، أمرتني أن أرافقها، ثم أخبرتني أن لجنة المقابلة ستأخذ راحة لبعض دقائق ثم يطلبونني، وشددت على أن أنتظر وألا أدخل إلا برفقتها، هممت بالعودة لمقعدي، فأخبرتني أن أنتظر في مكاني.
- اسم حضرتك ايه يا حاج.
- حمدان، خدامك حمدان يا بيه.
اعتراني الحرج أن رجل في سن جدي يخاطبني بهذا الأسلوب، أردت أن أتخلص من حرجي، فسألته: وأنت ازيك يا عم حمدان؟
رفع رأسه ببطء، وقد لمعت عيناه، وابتسم لتنكمش تجاعيده أكثر، وأجاب: الحمد لله يا بيه، فضل وستر.
لكزتني الجميلة بملف تحمله وتقدمتْ تجاه المكتب فرافقتُها، أوقفتني عند الباب مجددًا ودخلت ناظرةً لي أن أنتظر.
كنت أود يومها لو أكملتُ الحديث، لكن لم أجد كلمات، وددت لو أطلب له مشروبًا، أسأله لو يحتاج شيئا، أو ربما نتشارك بعض ساندوتشات الفول من تلك العربة على الناصية المجاورة.
فقط سكتُّ.
- خلاص كده يا بيه. قالها وخفض عينيه سريعا إلى صندوقه.
- متشكر جدا يا عم حمدان.
أعطيته خمس جنيهات
- مظبوط كده يا عم حمدان؟
- فضل ونعمة يا بيه، الله يكرمك.
دلفت إلى المكتب وجلست مواجهًا أعضاء اللجنة الثلاث، ظلوا يتطلعون إلي ثم يعاودون النظر إلى الورق لبرهة ثم سألوني عن سيرتي الذاتية.
سردتُ سيرتي الذاتية بترتيب غير الذي خططته وبصوت مهتز لأن عم حمدان وقف حاملا صندوقه الخشبي، ومضى في جولة بين رواد المقهى، منهم من رفض، منهم من أشاح بيده، والبعض لم يعره أي اهتمام.
لم أعد أتبين ملامح الثلاثة عندما سألني أوسطهم بصوته الجليدي ’’ليه عاوز تشتغل الشغلانة دي، وايه اللي هتقدر تقدمه ليها؟‘‘
سكتُّ لبرهة كما تدربت ثم تكلمت بهدوء عما أراه من مميزات في الوظيفة وما لدي من مهارات لأنميها من خلالها، وكان عم حمدان قد خرج من القهوة، تلفت حوله، توجه نحو الطريق، وقف ينتظر الأتوبيس القادم .
كنت أسيطر على كلامي بمهارة وتذكرتُ بعض نصائح لغة الجسد فطبقتها، وقبل أن أستعيد ملامح ثلاثي اللجنة، دوى صراخ أحدى السيدات: الحقوني يا ناس..حرامي.
شاهدت شابًا يحمل حقيبة نسائية، يركض سريعا، ولما اقترب من المقهى، تحرك عم حمدان، واعترض طريقه، ليوقفه، فما كان من الشاب إلا أن دفعه بعيدًا ليتخلص منه، تجاه الطريق، فصدمته إحدى السيارات، طار جسد الكهل في الهواء، فلم يكد يسقط حتى دهسته سيارة أخرى.
’’أنت يا أستاذ! كل ده بتفكر! قولي شايف نفسك فين كمان خمس سنين؟‘‘
تلاشى ثلاثتهم، وتلاشت الغرفة ولم يعد موجود سوى جسده الممدد على الأسفلت، تحطم صندوق الأحذية، وتبعثرت محتوياته، انطلق صراخ السيدات، وآلات التنبيه، توقف الطريق، هرعت إليه مع بعض المارة، كان مسجى على ظهره، وقد ارتخت يداه بجانبه، وتدفق الدم من أنفه،وفمه، وأحاط برأسه، صرخت عاليًا: إسعاف ..حد يطلب الإسعاف.
أجابوا: مات…إيديكم يا إخوانا نشيله علشان الطريق.
لم يصافحني الثلاثي، وقالوا لي باقتضاب أنهم سيتصلون بي لاحقًا. لم أستقل المصعد، خلعت معطف البذلة، حللتُ رابطة العنق، كنت أشعر ببعض من خفة وراحة، على الرغم من أني لم ألعب إصبعي الأوسط لأوسطهم المتعجرف، ولم أقل ’’وإنت مال أمك‘‘ لأصغرهم السخيف ولكنني شعرت في حقيقة الأمر أن ردي في النهاية قد أصابهم بالضجر وقد أشعرني هذا بالانتصار رغم أنني لم أقل سوى ’’في خلال خمس سنين …مش هبقى رقم.‘‘