وقف الراقص و أمسك يدها عاليا و تحسس ذراعها الأملس و أدارها فى لفة كاملة و جسده النحيف يحاوطها. و غالبا ما تكون نهاية الرقصة هكذا , أن تلقى جسمها على يده الممتدة بجواره فيتلقفها و يحتضن خصرها اللين إلا أنها أندمجت مع الموسيقى , أغمضت عينيها و ألقت بجسدها على يده كى يتلقفها , و لكنه لم يتلقفها . سقطت على الأرض . ماتت .
انتهت الرقصة.
-2-
المحكمة مكتظة بالبشر بأشكالهم و ألوانهم المتباينة , جميعهم لا يسمعون التانجو , جميعهم ليسوا بلاتينيين . لا يوجد بينهم أرجنتينيون و لا حتى المحتلون الأسبان, لا يوجد بينهم من يرتدى أو يرفع علما ملونا بالأبيض و السماوى , لا يوجد بينهم إستور بياتزولا أو بورجوس أو مارادونا .
كان الرجل يقف خلف أسوار المحكمة الحديدية يتصبب عرقا , فالجو كان خانقا و رائحة العرق تعبئ المكان . البعض هنا لم يستحم منذ شهور , تستطيع أن تحدد آخر مرة تحمم فيها المرء من رائحته . دخل القاضى إلى القاعة , فقام الجلوس و سكت المتكلمون . لم يكن بأفضل حال منهم, رائحته نتنة هو الآخر , رأسه خالية من الشعر , تلمع من أثر غطائها العرقى , قامته معوجة و كرشه منتفخ كالبالون , يراودك شعور أنه قد ينفجر بمجرد شكة إبرة. كان واضحا من ملامحه و من تكوينه أنه لم يرقص التانجو أبدا , و كان يبدو من نظراته و تعبيرات وجهه أنه يمل تلك القضية التى اهتمت بها الصحافة و الإعلام و انتشرت بالبلاد كالنار بالهشيم . فراقص التانجو الذى تخلص من محبوبته أثناء رقصتهما الليلية الحميمة, كان هو محور الأحاديث بالمقاهى و الكافتيريات … الألسنة تبحث دائما عما يشغل فراغها.
الحياة لا تخلو أبدا من القتلة , و القتل ذاته أصبح فعلا عاديا فى العصور الحديثة , لا يفاجئ إلا الساذجين . أصبح اللافت فى أى جريمة قتل هو طريقة تنفيذها و مدى إبداعها و إتقانها … فالإبداع يعطى الجريمة طعما آخر .
-لماذا قتلتها ؟؟؟ هكذا نطق القاضى بعدما نشف عرقه المتصبب .
-أنا لم أقتلها يا سيدى , لقد سقطت فماتت .
-بل لقد ألقت بنفسها بين ذراعيك و لم تتلقفها .
-و هل تلك جريمتى ؟؟ هل هو خطأى ؟؟ أنا لم أطلب منها ذلك و لم أعدها أن اتلقفها , و حتى لو فعلت فهل هنالك من قانون يعاقب على القتل عن طريق عدم التلقف ؟؟ لو ألقيت باتجاه سيادتك الآن زجاجة و لم تتلقفها فسقطت و تكسرت , هل تصبح أنت كاسرها أم أنا ؟؟؟
-و لكن لابد من سبب لعدم تلقفك إياها !!
-لم تكن تجيد التانجو.
-أتعنى أنها لم تلق جسدها بالشكل الصحيح فسقطت رغما عنك ؟؟
-ليس بالضبط .
-وضح , و لا تطيل على المحكمة.
-التانجو ليس مجرد رقصة , فهو درب من دروب الحياة , مثل أى علاقة تجمع بين اثنين بتلك الحياة , أو مثل الحياة نفسها… هناك طرفان , لا يتلقف أحدهما الآخر إلا إذا أراد , و لا يلقى أحدهما بنفسه بين أحضان الآخر إلا إذا تأكد و أطمأن من أنه متلقفه , و أنا شعرت بتلك اللحظة أننى لا أريد أن أتلقفها . لم أردها أن تموت و لكنى لم أردها بين ذراعى أيضا , لم أردها جزءا من ملكوتى فسقطت , و ماتت .
-أنا لا أفهم شيئا مما تقول .
-لأنك لا تجيد التانجو .
-3-
نفس الحجرة الأولى , بنفس بياضها و نظافتها , لم تلوثها الدماء . نفس اللوحات و الصور تغطى الجدران , و نفس الكرسى و الكاسيت , الشئ الوحيد المتغير بالمشهد هو الفتاة … لقد ماتت الفتاة الأولى , أما الآن فهناك فتاة أخرى , شقراء, بالطبع ليست لاتينيه , عيونها الزرقاء و شعرها الذهبى ينطقون بذلك.
-إنها رقصتى الأولى , قالت له.
استمتعى بها , أجابها باقتضاب .
-هل ستعلمنى التانجو كما يجب أن يكون ؟؟
-إنه أمر يتعلق بقدرتك أن تعيشى الرقصة و تحييها .
-و لكنى لن ألقى بنفسى على ذراعك.
-لماذا ؟؟
-أخشى ألا تتلقفنى كما فعلت سابقا … لقد علمت عن فعلتك التى أفلت منها … هل صحيح أنك قتلتها ؟؟؟
-كلا , لم أفعل .
-هل كنت تكرهها ؟؟؟
-بالعكس تماما .
-لن ألقى بنفسى على أية حال .
-و لكن الرقصة لا تكتمل إلا بإلقائك جسدك على ذراعى , و لا تستقيم دون تلك النهاية .
-و كيف لى أن أعلم أنك لن تتركنى , لن أخاطر بعمرى.
-يجب أن تفعلى , المخاطرة جزء من الرقصة.
-هل تعدنى أن تتلقفنى ؟؟ لو وعدتنى , سأصدقك .
-لا أستطيع أن أعدك , فأنا شخصيا لا أعرف , هذا شعور لحظى , يتولد أثناء امتزاجنا فى الرقصة , إما أن أشعر أننى أريدك على ذراعى أو لا . تلك هى قواعد اللعبة , أو الرقصة , المخاطرة , الثقة بالآخر , الإحساس بالموسيقى , و الموت أحيانا … كلها أشياء يجب أن تحسيها أثناء رقصتك , مستعدة للرقص ؟؟؟
ترددت الفتاة و نظرت إلى عينيه لعلهما تبوحان لها بشئ ما , بشئ مما يضمر داخله , و لكنها لم تعطها أى إجابة على أسئلتها المتناثرة . إلأا أن إغواء ما دفعها أن تذهب سريعا و تدير الكاسيت لتبدأ الموسيقى فى الانبعاث بين أرجاء الحياة و تبدأ الرقصة , دون أن تعرف لها نهاية محددة , دون أن تعرف أى شئ سوى أنها ستستمتع بتلك الرقصة , ستستمتع بها حتى أخرها , ستستمتع سواء سقطت أو لم تسقط.
ـ
خاص الكتابة