رسائل كافكا إلى حبيبته الأولى: 7 شهور من العذاب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى ذكري

ظهرت أخيراً عن “دار الرافدين” الترجمة العربية لرسائل كافكا الكاملة، إلى خطيبته فليس باور، ترجمة نجاح الجبيلي. الكتاب “رسائل إلى فليس” يقع في أكثر من 800 صفحة، أي أنه الأثر الأدبي الأكثر طولا في أعمال كافكا، ويغطي خمس سنوات من كتابة كافكا للرسائل، من 1912 إلى 1917، مع ملاحظة أن كافكا ربما أتلف رسائل فليس إليه، فلا نعرف طوال الـ 800 صفحة سوى صوت كافكا، الأشبه بمونولوغ معذَّب طويل، يأخذ ضوء الاهتمام كله من صوت فليس القابع في الظلام، والقابل للتخمين. فهو صوت لا يخرج عن كونه صوتا طبيعيا، يُدرك بالكاد القليل من تعقيدات مونولوغ كافكا، وهو مونولوغ آلام لا ينتهي.

فليس، تلك الفتاة البرلينية المتواضعة التي ترغب في الزواج، وتأسيس أسرة، بينما يضع كافكا بينه وبينها عائق الكتابة، ويخونها كل يوم مع كتاباته، وهي لا تفهم هذا النوع من الخيانة. توفيت فليس باور في 1960، وقبل وفاتها بخمس سنوات في 1955 باعتْ، بروح عملية، رسائل كافكا لناشره. كان قد مضى على موت كافكا 31 عاما، وكانت قامته في الأدب العالمي تزداد ارتفاعا. هل فكّرت فليس باور قرب نهاية عمرها أن رسائلها لكافكا فُقِدَت؟ كان يقول لها في رسائله، إنه يحتفظ بأحدث رسالة أو رسالتين منها في جيبه لضمان قربها الدائم منه، وهذا التصريح ينفي أنه قد يتخّلص في المستقبل من كل رسائلها، ربما أنانية كتابته المريرة لا تسمح له باحتمال وجود كتابة أخرى تُعكّر صفو خلوده.

أول لقاء بين كافكا وفليس باور كان في 13 أغسطس/آب 1912 في شقة عائلة صديقه ماكس برود، ولم يرها مرة ثانية طوال الشهور السبعة التالية، ونصف رسائله تقريبا كُتب لها في تلك الشهور السبعة الأولى. ففي 20 سبتمبر/أيلول، أي بعد خمسة أسابيع فقط من لقائهما الأول،كتب لها أول رسالة، يقول فيها: “ربما لا تملكين عني ذكرى بعيدة، لذا أقدم لكِ نفسي مرة أخرى، اسمي فرانز كافكا، وأنا الشخص الذي رحّب بكِ للمرة الأولى في بيت ماكس برود، في براغ، والشخص نفسه الذي سلّمكِ لاحقا عبر المنضدة، واحدة تلو الأخرى،صورا فوتوغرافية لرحلة تاليا”.

يحذّر كافكا فليس باور، في رسالته الأولى أيضا، من أنه كاتب رسائل غريب الأطوار، والمحزن في هذا التحذير النزيه، أن فليس الفتاة العادية، ربما أدركتْ منذ اللقاء الأول، ودون الحاجة إلى كلمات، ومن مجرد هيئة كافكا، ومن مبادرته السريعة ببعث رسالة إليها، أنه غريب الأطوار. أقام كافكا بين براغ وبرلين جسرا غريبا، جسرا بين ضعفه الجسدي، وقوة جسد فليس. تتلاحق في الرسائل شكواه من قلّة النوم، ومعاناته من عدد ساعات عمله، وعصيان الكتابة عليه، وفي المقابل يندهش من حيوية فليس، وحركتها السلسة في شقة ماكس برود، فهو يُخزّن مئات الملاحظات من مجرد لقاء أول غير خارق بالمرة. يحسد فليس على حيويتها وصحتها الجسدية، وفي الوقت نفسه، يشعر بالنفور من جسدها القوي. جمع الحسد والنفور، والتعبير عنهما بكلمات ملتوية موحية، بعيد عن فهم فليس، فهي تصطدم دائما بغرابة أطوار مُراسلها.

كان كافكا يكتب لها رسالة، وأحيانا رسالتين، في اليوم الواحد، يسألها ماذا تأكل، عن ملابسها، عن أصدقائها في العمل، عن عائلتها، عن الأثاث في غرفتها، عن نافذتها، وعن المنظر الذي تُطل عليه. يناضل من أجل أن يُعْديها بهوسه، يطلب منها رسالة يومية، أو بطاقة بريدية بها كلمات قليلة، تستجيب لهوسه مرة، وتتجاهله مرات. يستعين بالصور الأدبية. يحدّثها بأنه “لو كنتُ أنا ساعي البريد الذي يحمل رسالتي، لطرقتُ باب بيتك، ودخلتُ مباشرةً، ولن أسمح لأحد بمنعي، وسأبحث في جميع الغرف، ثم أتوقّف عند باب غرفتك، وأنتظر قليلا من أجل سعادتي”.

ذرائع للكتابة

ربما كانت السعادة في نظر فليس، أن تتطوّر العلاقة إلى زواج وأبناء، وهذا بعيد عن كافكا الذي يريد إذكاء نار عذابه بالرسائل، لصالح الكتابة، ففي تلك الفترة أنجز قصة “الحكم” في عشر ساعات متواصلة من الكتابة، وفي أسبوعين ترك موقتا أربعة فصول من روايته “أميركا”، ليكتب عمله العظيم “التحول”، أو “المسخ”، ويتقدّم في “اليوميات” بشكل مذهل. تبعث فليس إلى كافكا، صورة فوتوغرافية تجمعها مع العائلة، وعلى الفور ينخرط في ردّ الرسالة، بتأويل حدسي للصورة الفوتوغرافية، حركات الأيدي، الابتسامات، الظلال، الإضاءة، الملابس، النظرات داخل إطار الصورة الفوتوغرافية، أو خارجها. ولكي يخفي قليلا حدسه الأدبي الجارف، يسأل فليس عن معلومات مباشرة بسيطة، ليس هو في حاجة إليها، تتعلّق بأشخاص الصورة الفوتوغرافية، وهذا يضمن له بقاء حدسه الأدبي عن الصورة الفوتوغرافية، بعيدا من تفكير فليس، فهو يخشى إدراكها أن أي مادة بين يديه، تتحوّل سريعا إلى مادة للكتابة، وستبدو عاطفته تجاهها موضع شك.

في11ديسمبر/كانون الأول 1912، خرج من المطبعة كتابه الأول “تأمّلات”، أرسله إلى فليس، وكتب لها: “كوني رفيقة بكتابي المسكين. أطلعي الكتاب على أقلّ عدد ممكن”. وفي 13 من الشهر نفسه ذكر كتابه مرة أخرى: “كم أنا سعيد للتفكير أن كتابي، على الرغم من قصوره، هو الآن في حوزتك”. في 23 من الشهر نفسه أيضا كتب: “آه… لو فقط علمت الآنسة لندنز، صديقة فليس، كم هو صعب كتابة القدر القليل مما أكتب”. يشير ردّ كافكا إلى عدم ارتياح صديقة فليس إلى مضمون الكتاب، وحجمه أيضاً، أو عدم فهمها إياه، أو استهانتها به، وكأنّ فليس تشارك ضمناً صديقتها الرأي.

في 1919 بعد خمسة عشر شهرا من فراق كافكا، تزوجت فليس باور رجل أعمال ثريا من برلين. وكان لها من هذا الزواج طفلان، ابن وابنة. نعرف أن أخبار فليس باور وصلت إلى كافكا من خلال رسائله إلى ميلينا، حبيبته الثانية التي فُقدت أيضا رسائلها إليه. في رسالة من كافكا إلى ميلينا، يصف نفسه في قارب مستلقيا على ظهره بثوب السباحة، وفي اتجاه مجرى النهر، ومن على الجسر، بدت نحافته، لمن يشاهدها، وكأنها مشهد ما قبل يوم الحساب، حين تُزاح أغطية التوابيت، ولا يزال الأموات هناك يقبعون دون حراك.  

 

Getty Images

في عمله الشهير “رسالة إلى الوالد”، كتب كافكا عن جسده الضئيل في حمّام السباحة مقارنة بجسد والده هيرمان، القوي العريض، وكان والده المعيار أو النموذج لقياس كل شيء، وفي الوقت نفسه كان يشعر بالنفور من شهية والده على مائدة الطعام، وهو ينثر فتات الخبز حوله. هل كان كافكا يستطيع تحقيق سمنة معقولة لجسده دون المرور بشهية للطعام، مشابهة لشهية والده؟ لم يتجاوز كافكا تلك المفارقة. 

………………

*نقلا عن “المجلة”

مقالات من نفس القسم