مرآة الماء

عبد الوهاب عبد الرحمن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبدالوهاب عبدالرحمن*

“حين قالوا كالماء نحن أتينا.. وكريح أدراجها أنى مضينا”

الخيام

 

هل كانت الشاعرة جيهان عمر تحتاج إلى تعويذة تفصلها عن عوالمها لتكون في لحظة فاصلة مستحيلة وحرجة تجعل نصها “لا تعيد السمكات إلى البحر” ترياقا لفراغ وجودها تتمثله شعرا لشيء مجرد أو محسوس، يدعو إلى التأمل أكثر مما يدعو إلى التمثل.. وهي تبحث في فكرة الحلول لتجد وجودا بذاته لا يتكامل إلا مع قرين ترى فيه ضالتها الشعرية وهي تجترح حوارا يقف بين مفترق التجربة والتعبير تختزل فيه فنون المجاز والاستعارة والتشيبه بتفاعل تناصي يعكس آثار صدمة التخييل في لحظة انعكاس تصويري يتشكل بمادة هلامية عصية على التشكل اللغوي الدارج لبناء نسق نصي يبدأ بفرضية “أشبه الماء” كمن يمنحها قدرة التحقق “لو كنت أشبه الماء” عزاء لوجود عقيم تريد الشاعرة إبدال جفافه بالتشبه بما تتمنى أن تكون.. لتضعنا في لحظة تتكثف فيها كل خفايا الماضي والحاضر لترى الشاعرة في عنصر “الماء” نواة لحياتها وينابيع أسرارها وخفاياها، بفعل كيان مزدوج تطرح فيه لعبتها في انتحال ما تراه ليحل محل وجودها بخداع حسي “وهم فيزياوي” يمتزج فيه المجرد بالمحسوس، مثل عرض من أعراض تغييب الوعي يؤشر بقوة إلى مكونات تماثل مكونات الإنسان في قلقه وتمرده ووحشته في صور تتغاير فيها الابعاد والخواص والعناصر تجعل النص يرتكز على ذاته ويتحدد بمحمولاته يبحث عن شكل آخر لمعنى فاقد لمظهره الدلالي/ الحسي مغمور في غموض محفز لظلال تراها الشاعرة رؤى ضوئية تخترق عتمات الألم تتدارك فيها نفسها في لعبة خداع ناعمة مع ذاتها الشاعرة توقعها في فخ وهم بوجود مزدوج يشتغل على الإشارات عبر جدل تتبادل فيه المواقع في “تناص” كوني يعمق الأثر الشعري بتفاعل يدعو متلق النص لتماه يعدل فعل التماهي بين الشاعرة وخيالها، وهي تتحكم بالماهية باتجاه إحالة النوع إلى ما لا يدرك بذاته بل بما يقابله من تماثل مع كينونة ذات مركب ثنائي تتبادل معه المواقع كذات مقابل مرآة لا تعكس ذاتها بل تتمظهر بصيرورة حرة في تشكلها وفي مجاوزة للتجربة على نحو تكويني/ شعري يقابل جفاف الروح ويباس المشاعر ووحشة الوحدة؛ تنتحله بديلا لتكون معه غير ذاتها وكأني بها تسعى إلى تعميد وجودها الشعري “بالماء” وهو المقترن بحضوره بالعطش واليباس والجفاف..وكله يندرج تحت معاناة (الظمأ) بتنوع صوره وتجلياته بوجود اثيري في فضاء هذا الضياع العذب فالشاعر برؤية طاغور “عشيق للطبيعة، فهو عبدها وهو سيدها.”

أشبه الماء..

أتدفق دون أن أعلم الى أين!

فكلما وجدت شقا أشق طريقي..

لا أستطيع التوقف حينما يكون التوقف ضروريا..

أجدني في أماكن غريبة..

لم أكن أخطط للذهاب اليها..

فقط لأنني قابلت منحدرا..

أحيانا يكون الماء قويا..أحيانا بلا إرادة..

لا يعرف خطوته القادمة..

ولم يستطع أحدهم أن يقبض عليه بأصابعه..

 

لذلك أفشل دائما في الحب..

تجربة تماه مع عنصر كوني مثلما تفعل الرومانسية في تماهيها مع الطبيعة وهي تتفجر صورا لانفعالات داخلية. في هذا النص، الطبيعة تتحدث عن نفسها بعفوية وعذوبة، عبر محاورة مشحونة مشتبكة بين فعل بشري عاقل وفعل كوني ملهم، وهي لا تحاكي ولا تماثل بل تنفذ إلى روح تتلبسها “تجربة ذاتية بعناصر كونية حسية عبر علاقة وجودية بالكون والطبيعة”، وهي تختار عنصرا تسبغ عليه من خيالها ما يشبه كينونة حركية لا نهائية بحضور مغاير.. تجرده من مألوفيته وواقعيته لتكسبه نوعا من ترميز صوري دينامي تتقلب فيه الصور بما يعكس تنوع في الاحساس ما بين قوة ولين، صخب وسكون، تتمثل مواقف درامية تنطلق من فكرة (أنا – الماء) أتفجر، أغلي، أطفئ، اتبخر، أتعلق وأسقط:

أبدأ في إزاحة كل شئ من مكانه..

فتتحول حياتي لشلال لا يرى..

ثم

أغلي داخل الإناء..

حتى أن الفقاعات نفسها تشفق علي..

أتبخر..

أتعلق بغيمة..

أنتظر الشتاء..

أسقط مع المطر..

 أسقط..

قطرة.. قطرة..

قطرة..

هي محاولة اكتشاف وبعث وتمثل لما هو كامن في قلب الطبيعة..تجربة تتحول فيها اللغة إلى “إشارات ورموز وإلى أفلاك سابحة، لا تستوعبها الأطر اللغوية التقليدية، وحين تضيق هذه الألفاظ عن التعبير تتفجر اللغة” في تباين حاد تجعل من النص” متحول دائما من نوع سابق إما “بالانقلاب أو بالأزاحة أو بالاتحاد” برأي تودوروف، تحول يدخلنا في دوامة هذا التغاير المنفلت بين ما نرى من استواء الشئ وفقده لهذا السواء في ملامح تفوق النص بتماه غريب الشكل والنوع مع ملامح شديدة الواقعية والألفة. هذا التأمل في معنى تحولات الماء أسبغ عليه صفة تعويضية – فلم تعان جفافا وهي في هذا الفيض الهادر، ولم هذا السكون والصمت وهي جزء من تركيبة لا بشرية؟ ولم هذا الجمود وهي تلف كيانها بدينامية تعصف في عوالم داخلية للماء تتمثلها الشاعرة جيهان عمر (مرآة) تعكس دواخلها بحثا عن تعويض (سيكو فيزيقي) نفسي- فيزيائي تدور بين فراغات وتجويفات لتمتلئ بما تراه يماثلها صوريا بملامح حلمية تجسد عبث الشعر في فضاء أول (مرآة) ” واجهها بشر قط؟، لن تكون غير (مرآة الماء) فصفحته الصافية تعكس كل شئ، السماء والغيوم والأشجار ووجوها أيضا. “فضلا عن كشف ما تحجبه الأسرار غير المرئية، فالمرآة استخدمتها شعوب بدائية لأعمال السحر، ونتذكر ما حدث لنرسيس الذي أصابته الصدمة الأولى حين رأى صورته في مرآة الماء وسحره جماله “وهو يمد يده إلى عمق المرآة ليمسك بغريمه الذي نبع من اللاشئ..من المجهول”، فأصيب نرسيس بالعشق الذاتي الذي استعارته الشاعرة للوصول إلى العمق الفطري الذي يصل الإنسان بالماء كأصل لوجوده وإكسابه هذا التقديس، وهو يتحرر من إسار الطبيعة ليعيد تشكيل ذاته عبر موجات الماء الذي اتخذته الشاعرة مرآة لكشف كوامن أحلامها وهواجسها ولم تستغرقها ذاتها عشقا كما تورط نرسيس بل ذهبت إلى عكس ما يتوقع وتمادت في التشكل في صور (مائية) ومرآة ترى فيها ما تفتقده فصار الماء بكل حيويته الآخاذة (ثيمة) لتثوير ما تخبئه الأسرار لتجد نفسها غير ذاتها “وكأن الصورة في المرآة هي التي تنظر إلينا. فجاء النص بمحمولاته الغرائبية سحرا يرسم لذاتها وجودا تنسل منه الروح التائقة للحلول في الشئ المختلف وبطاقة حدسية مذهلة جعلت من الماء عرضا من أعراض الغياب للوعي والتوهم بتماثل مكونات الإنسان مع الطبيعة في صورة الماء لكل شئ حي، فاستوى النص أمامنا مرتكزا على ذاته متماهيا في الآخر محلقا في متاهات المجهول :

-أتدفق دون أن أعلم الى أين!

– أجدني في أماكن غريبة..

لم أكن أخطط للذهاب اليها..

– كل رجل يعتقد أنني هنا..

 يجد يدا فارغة..

يتعجب من وجودي واستحالتي..

بداية من رشفة واحدة تبلل الظمأ..

وحتى الطمع الذي يجلب الغرق..

 

أعرف انكم تموتون من دوني..

ومع ذلك تهدرونني على العتبات ببساطة..

تعودت ألا أتحدث..

صامتة مرة..

أو هادرة..

ترى الشاعرة في (الماء) عزاء لوجود عقيم تريد إبدال خصبه بالجفاف، بعيدة في خلوة شعرية تتأكل وتتجلى دواخلها، والماء هنا عزاء لوجود عقيم تريد الشاعره إبدال جفافه بالخصب وهي بعيدة في خلوة شعرية تتأمل فيها تجلياتها متشبهة بما تريد أن تكون مغمورة في فيض ألقها عبر مرآة الشعر وهي تعكس أحلام الشعراء التي يفزعها الصحو- وفكرة التلاشي مع رياح تضرب كل شئ وتمحوه :

أجرف الأشجار كهواية

وقد أدفن في طريقي بعض المدن..

في لحظات الغضب يبتعدون

وفي لحظات السكون يتأملون صفحتي في شرود..

أطفئ النار..     

ولكنني أخلف وراءها رمادا لا يزول..

لن يعرف أحد كيف يتنفس بداخلي..

السمكات وحدها هي التي تلهو في قلبي..

خياشيمها الداكنةلعبتي المفضلة..

 

لا تنخدعوا بتلك الشفافية التي أتنكر فيها..

فقد أحيل صخرة عملاقة الى حصاة ببعض الدأب..

أتفجر وسط الصحراء عينا لا تحتاج الى جفن..

لا ترغب سوى بالعطشى العابرين فتمن عليهم بحياة مؤقتة..

 

يحلو لي أحيانا أن أتجمد..

أن أصبح مكعبا بحواف حادة..

لوقت قليل أنتظر مشروبا معتقا..

ثم أترنح..

في وقت آخر..

وكأنها تخلق اللحظة المستحيلة يتكثف فيها كل خفايا الوجود والفناء خارج الزمن، مشحونة بأمل كاذب. تتفاعل إنسانيا بما تواجهه من آثار الزوال يعقبه بعث جديد الشاعرة جيهان عمر معمدة بنصها الذي تعمد بوجودها وقد استحال إلى ماء منحته صفة القداسة التي جعلت من الماء كل شئ حي.

سبتمبر 2020 ـ القاهرة

……………

* ناقد عراقي

 

 

مقالات من نفس القسم