عبد الهادي المهادي
عندما اطّلع السّي البشير، وهو صديقٌ عزيز يكبرني سنا بكثير، على مجموعتي القصصية الأولى، بعث لي بمسودّة تضمّ وقائع، قال لي بأنها حقيقية، ولكنه لا يجد من نفسه القدرة على صياغتها في قالب حكائي، فاختارني من بين كثيرين، كما عبّر لي بحرارة، لأنني ـ في نظره ـ الأقدر على تصوير ما يريده، خاصة وأن لي أشواقا وأذواقا أشترك معه فيها، حسب ظنه، وبالتالي فأنا الأجدر من غيري على التعبير عنها. وعبثا حاولتُ التهرّبَ من هذه المهمة، لأني بكل صراحة، وبعد أن قرأت أوراقه، اكتشفت حقيقة الشخصية الرئيسية للقصة، رغم أنه حاول تغطيتها والتشويش عليها بتغيير اسمها وإضافة عناصر من خياله، وخفتُ من تبعات أنا في غنى عنها، ولكنه طمأنني، وأقنعني بأنه لا خطر هناك. وها أنا أقدّمها إليك ـ أيها القارئ ـ دون كبير تدخل مني في أحداثها، فقد كنتُ أمينا إلى درجة أني حاولت قدر استطاعتي أن أقلل من التشبيهات والاستعارات والصور الفنية حتى لا يضيع المعنى الذي يودّ السي البشير أن يصل واضحا لمن يريد أن يبعث إليهم برسالته.
يقول السي البشير:
ذات ظهيرة من أول شهر يونيو من عام 2003 جاء ليُبشّرني، أتذكر ذلك وكأنه البارحة، كانت رياح الشرقي تهُبّ على أشدها، تثير في طريقها الغبار والعجاج، و ترتفع الزوابع في الهواء عنيفة متضاربة تشقُّ الرأس ألما يلزمني البيت، فألوذ به ولا أغادره إلا اضطرارا.
قال لي في فرح كبير: سأشارك في “الرباط الأربعيني” الذي ستنظمه زاويتنا ابتداء من بداية الشهر المقبل. (فضّل السي البشير أن يخفي اسم الزاوية، وأن يغير أسماء شخصياته حتى لا يفتضح أمرهم كما قال)
كنتُ أعرف أنه حديث العهد بالزاوية، بل أنا من شجعه و رغّبه فيها، لأني لاحظتُ اختياراته النفسية وميولاته الفكرية، فاقتنعتُ أنه لم يكن ليجد نفسه في غيرها. ولأن لي أصدقاء كثرا من “الفقراء” فقد كنتُ على دراية جيدة بما يريدونه وما يصنعونه هناك. واليوم يأتي جاري فؤاد، التلميذ المراهق، ليخبرني بأنه مُقدِم على تجربة “الاعتزال” أربعين يوما كلها صيام وقيام وتعبّد وذكر ومذاكرة… وقلّة وتقلّلٌ، ولا شيء آخر.
لم أناقشه في الأمر طويلا، فلم أشأ أن أفجعه، خاصة وأنه اتخذ قراره بحماسة كبيرة، وهو في شوق لخوض التجربة، واكتشاف عالم طالما أغراه، كما قال. في أعماقي كنتُ متخوفا ورافضا، لأنه ـ ببساطة ـ ما زال صغير السن، بالإضافة إلى أنه طارئ على “الطريق”.
صلّيتُ المغرب في الزاوية خلف الإمام مباشرة، وبعد قراءة الحزب الرّاتب مِلْتُ على أذن السي احْمد ووَشْوَشْتُ في أذنه أني أريده في أمر مهم.
شدّ على يدي بحرارة، وصاحبني إلى المقصورة. بعد أن تثبّتَ من إغلاق الباب، جلس متكئا على الحائط، بينما جثوتُ أمامه في هدوء، كنتُ أجلّه. بشجاعة صارحته برأيي “لا ينبغي السماح لفؤاد بالمشاركة في هذا “الرباط”، سيدي”، أطلعته على مخاوفي وأدليتُ بكل ما كنتُ أعتبره حُججا مقنعة، ولكنه، وبعد أن استمع إليّ في أدب واهتمام، حسم الأمر قائلا: دع الخلق للخالق يا ولدي، فما دام قد اختار، بعد أن استخار ربّه، فلا خيبة هناك ولا خطورة.
خرجتُ من عنده قبيل أذان العشاء، وغادرتُ غير راضٍ على سير الأمور، وما إن ابتعدتُ قليلا حتى سمعته يرفع صوته عاليا بطريقة مغربية عتيقة “الله أكبر”، كان نادرا ما يؤذّن. قلت: الله أكبر، لعلّه خير، من يدري. ثم أشرتُ لأوّل سيارة أجرة لتحملني إلى البيت، فقد كان رأسي يكاد ينفلق من الصّداع.
لقد جرّبتُ مع هذه “الشْـقيقَـهْ”، التي تنطح رأسي كلما نهض الشركي، كل الأدوية والأعشاب بلا فائدة، وحتى “بركة” بعض “فقراء” الزاوية لم تنفع. أوصاني بعضهم بزيارة رجل صالح في منطقة “جْبَالَه”، ولكني لم أنْـوِ بعد.
(لا أدري لم ألحّ السي البشير على الإشارة إلى هذه “الشقيقة”؛ فرغم أني نصحته أن نسقطها من متن الحكاية، إلا أنه تشبث بها وأصر عليها، إلى درجة أنه انتفض على نحو شبه غاضب قائلا: “إنها حكايتي، وما عليك إلا سردها بالمضامين التي أريدها”)
مع زحمة الحياة، اختفت واقعة جاري فؤاد من اهتماماتي، وارتكنتْ إلى الظل، فللإنسان من الهموم ما يشغله حتى عن نفسه.
لكن صباحا صيفيا حارقا، من غير مشورة مني، وضعني على جدول أعماله.
“هناك من يريدك في الخارج”، همست لي زوجتي حتى لا تنتزعني مفزوعا من عالم كتابٍ كنتُ غارقا فيه. لبستُ “قَـنْـدُورَتي” على عجل، وشريطُ تخميناتٍ يمر بمخيّلتي، “ترى من”؟ وفتحت الباب فانفتح عن شاب طويل نحيف، نظرتُ إليه طويلا وكأنني لا أعرفه، توقّعتُ أن أجد أمامي كل مخلوقات الدنيا من إنسها وجنّها إلا هو. وبالفعل، كان شخصا آخر وليس فؤادا، يبدو للوهلة الأولى زائرا من عالم الموتى.
ـ لقد رجعت… “السي الهواري” نصحني بمغادرة “الرباط”، أركبني سيارة، وبعث معي من أوصلني إلى البيت هذا الفجر. كذلك قال بصوت منهك غارق في الحزن.
سريعا حكى لي بعض الوقائع المتقطعة، كنتُ أعلم مسبقا أنه لن يحسن نقلها والتعبير عنها، وأنا بدوري لم ألح عليه في معرفة المزيد.. فحالته كفتني؛ سحنةٌ صفراء، وعينان غائرتان تحيط بهما هالة زرقاء تكاد تَسْوَدّ. والأشد، انكساره الذي منحني الانطباع بأن انجباره صعب على المدى القصير.
غيّرت ملابسي، ورافقته إلى صديق قديم، أعرف أنه صاحب تجربة كبيرة في التعامل مع مثل هذه الحالات، تركته ينفرد به، فلم يكن لائقا أن أشهد انكشاف أسرار وسرائر.
عُدنا صامتين تقريبا، فقد أحسسنا كلانا بأنه لم يعد لدينا ما نقوله.
انتظرتُ شهرا كاملا، إلى أن انتهى “الرباط”، لأعرف تفاصيل ما جرى.
التقيتُ حينها من تُسمّيه الزاوية “أمير الرباط”، وهو المسؤول الأول عن التنظيم والتسيير والتنسيق والتوجيه، وروى لي الحكاية من أولها إلى آخرها.
تفاصيل تربوية ونفسية دقيقة لا يستوعبها سوى “الفقراء”، بينما غيرهم سيعدّونها من قبيل الخرافات والشطحات وأحاديث النفس والهوى. المهم أن فؤاد، كما قال السي الهواري، “وضع رجله في عالم لمّا تتسع روحه بعدُ لتقبل وارداته، فكاد لحرارتها أن يهلك أو يُجنّ”. قلت في نفسي : هذه هي نفسها الخلاصة التي استشرفتها ودافعت عنها أمام السي حْمْدْ يوم كنت جاثيا أمامه في المقصورة.
كان أثناء استغراقه في الذِّكْر ـ مثلا، على سبيل المثال فقط ـ يتصبّبُ عرقا، و تجتاح جسده النحيل في كثير من الأحيان حمّى تذهب بوعيه، و تجعله يهذي أثناء نومه بكلام حول الأولياء وكراماتهم ومقاماتهم. وذات ليلة سقط مغشيا عليه بينما كان الإمام يتلو قوله تعالى “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ”، وكان خلال تلك الأيام كثير الرُّؤى والمشاهدات، وبعضها ذات طابع قيامي رهيب.
ـ لقد توقف عن النوم ـ حرفيا ـ لِلَيلتين متتابعتين حتى غدت عيناه جاحظتان بلون الدم ـ قال السي الهوّاري ـ عندها أحسسنا بخطورة الأمر، فتحايلنا عليه حتى أخرجناه من “الرباط”. ثم سكت قليلا قبل أن يعترف لي فيما يشبه الهمس: ” المسكين كاد يهلك لولا لطف الله.. كان سيلقي بنفسه من سطح الزاوية”.
حين أرسلتُ للسي البشير ما أنفقتُ في كتابته ساعات طويلة، لم يُخْفِ ابتهاجه، وعبّر عن ذلك بكلمات سخيّة، ولكنه أيضا لم يخف عدم رضاه عن بعض المقاطع التي اعتبرها باردة ولا تُعبر عن حرارة الموقف كما كان يرجو، وخاصة تلك التي لخّصتُ فيها مشكلة فؤاد داخل “الرباط” وتجنبت الدخول في تفاصيل كثيرة، وقد قدم بعض الاقتراحات التي اعتقد أنها يمكن أن تساهم في “إفهام” القارئ وتوعيته، ولكنني رفضت بقوة، لأن تلك الإضافات كان من شأنها أن تحوّل هذه الحكاية إلى مقالة توصي بضرورة التدرج في التعلّم والترقي التربوي، وتحذّرُ من أي قفزات غير محسوبة العواقب.
حاول إقناعي بالعنوان الذي اختاره: “إبحار بدون شراع”، ولكنني بيّنتُ له أن الاستعارة التي يترجّاها مسبوقة إلى حدّ الابتذال.
دمدم بأصوات غير مفهومة، ولكنه في الأخير، وعينياه بعيدتان عن عيني، منحني الإذن بنشرها كما هي الآن.