محمد الكفراوي
“الفلاحة كانت عال بوظوها العيال … مع تحيات فلاح مصر الأول” هذا ما كتبه الفلاح الأصيل صميدة مكاوي على عربته الكارو، مفتخرا بمهنته الموروثة عن الآباء والأجداد ومتباهيا بقراريطه القليلة على المصرف، حائزا إعجاب الجميع حتى العمدة نفسه الذي قال عنه صميدة إن “أرضي أحسن من أرض العمدة”، فما كان من الأخير إلا أن قال “معه حق”.
هذا المشهد وتلك القصة يمكنها أن تصنع أرضية مبدئية لبيئة القصص التي تضمها المجموعة القصصية “راوتر شيخ البلد” للقاص عاطف عبيد، فمن هذه القرية التي تتمتع بالدفء في حضن الدلتا، تنهمر الحكايات البسيطة والتي لا تخلو من عمق، وإن كانت بعض القصص تبدو عادية في شكلها الخارجي إلا أنها تفاجئ القارئ بفخاخ وخدع في غاية الطرافة ولا تخلو من مفارقة فنية تجعل منها كبسولة أدبية مركزة.
المجموعة التي تضم 31 قصة ترصد التحولات الكبرى في الريف المصري نتيجة دخول الانترنت وتحديدا الفيسبوك إلى كل بيت تقريبا، وتكاد تكون بعض القصص انعكاسا لصفحة القرية التي يكتب عنها القاص حكايات لا تخلو من طرافة ولطف وأصالة.
القصة الرئيسية التي تحمل المجموعة عنوانها تنطلق من خبر وفاة أحد الأشخاص على صفحة البلد بـ”فيسبوك”، ووصل عدد الوجوه الحزينة على الخبر إلى 5 آلاف، و600 تعليق تدعو للمرحوم، ولكن لم يخل الأمر من غمز ولمز، حتى صاح صوت من مكبر صوت أحد المساجد، مناديا علوان البكري مدير صفحة القرية على فيسبوك مطالبه أن يغلق خاصية التعليقات.
ما يدعو للتساؤل ما وراء هذا الرجل الذي رحل وترك خلفه 7 أبناء، تحكي القصة أنه كان فلاحا له طابع خاص، مهندم إلى حد كبير، وأن جده العيسوي كان شيخ البلد أيام الملك فاروق، وأنه ورث هذا اللقب من جده العيسوي.
في النهاية وبعد العزاء يتفق أبناء الراحل على تخصيص “راوتر” سريع بدون كلمة سر أمام منزلهم كصدقة جارية على روح المرحوم، وكتاب عبارة الفاتحة للمرحوم صاحب الراوتر، وبالفعل أصبح هذا الراوتر لفترة طويلة هو شغل الناس الشاغل، الجميع يمر أو يجلس أمام البيت ليستمتع بالإنترنت المجاني حتى أصبح الجرن الكبير أمام بيت شيخ البلد أشبه بمولد لا ينقصه سوى منشد ومراجيح بحسب تعبير المؤلف.
تصاعد الاهتمام بالراوتر، وتزاحم الكثيرون عليه حتى ضعفت الإشارة، واشتكى منه المارة والمستخدمون بل وصل الأمر إلى رشق طوبة في زجاج بوابة أولاد شيخ البلد احتجاجا على ضعف الإنترنت، وحين جاءت الطوبة الثانية لتجهز على زجاج البوابة، خرج عثمان وأخوته وأقسم أنه لن يجدد الباقة وسيلغي الراوتر، وتجمهر الناس وأعلنوا تذمرهم وتبرمهم من الأمر حتى جاء ضابط المركز وجلس مع عثمان وأخوته الذين اشتكوا من الزحام حول المنزل والضجيج وأنهم لم يعودوا يستطيعون تحمل تكلفة الباقة الشهرية للراوتر، لتحدث المفارقة عند هذه اللحظة حين يخبرهم الضابط أنهم “أي الشرطة” هم الذين يجددون الباقة، بناء على وصية شيخ البلد الذي وعدهم أن ينقل لهم أخبار القرية حتى بعد وفاته.
هذه المفارقة بما تحمله من طرافة وخديعة تشير بشكل غير مباشر إلى فخ السيولة الإلكترونية في مقابل سذاجة الأهالي الذي اعتبروا الإنترنت مجانيا بالفعل في حين أنه ليس سوى وسيلة للمراقبة والتلصص على حياتهم.
أكثر من قصة على بساطتها إلا أنها لا تخل من مفارقات مدهشة وفي غاية اللطف، مثل قصة “ورد” التي ترصد أول خبر ينشر على صفحة البلد على فيسبوك، وهو عن عيد الحب، وما ناله من استحسان وجدل في الوقت نفسه عن الاحتفال بمثل هذه الأعياد، ليخرج التعليق المباغت من الحاج مسعد الغلبان الذي كتب: “رغم كل الغيطان اللي في بلدنا لكن ما عندناش ولا مشتل ورد”.
مفارقة أخرى نابعة من الموت، ففي حين يقوم الناس بتغسيل “إبراهيم عسران” يجدون ورما في قدميه، فيطلبون حذاءه ويعرفون أنه كان يرتدي حذاء أقل من مقاس قدمه بمقاسين، فيخبرهم ابنه أنه كان كتوما ولا يشتكي أبدا. لتظهر المفارقة في كلمة متولي ابن الراحل الذي قال وهو يبكي إن أباه كان كتوما قليل الشكوى، جاء إلى الدنيا ورحل منها ولم يعرف أن البراح على قرب نمرتين زيادة في حذائه الضيق.
هذه الصورة لا تخلو من بعد شعري حيث التكثيف وإحالة المادي على المعنوي وتشكيل المعنى بطريقة مسرحية ودرامية ذات أبعاد مأسوية.
قصص أخرى موضوعها الفيسبوك أو تطبيق واتساب مثل “العجل هد المصطبة” التي تتحدث عن العجل “جنكيز” الذي يتولى مهمة تعشير كل بهايم البلد. وكيف قررت ابنة صاحب العجل أن تخرج عن النمط القديم وتضع تسعيرة لكل تعشيرة عبر مجموعة قامت بإنشائها.
قصص كثيرة عن الأرض والفلاحين والفلاحة وتحولات القرية، وما فعله الفيسبوك في أهل القرية القابعة في وسط الدلتا والتي يحذر الكاتب من البحث عنها لأنها ليست موجودة إلا في خياله، بحسب ما يذكر، ما يترك مساحة للخيال ليجعل هذه القرية مثلما اعتبرها الكاتب غير محددة وغير موجودة في الواقع، ولسان حال الحكايات تقول “هذا ما فعله الفيسبوك في قريتنا الطيبة”، ومفردات وتفاصيل وحكايات المجموعة تكاد تنطبق أو تشير إلى كل قرية، فهذه الوقائع واردة الحدوث في كل مكان مع فارق بسيط في التفاصيل والبناء الدرامي للقصص بما يحمله من مفارقات مثيرة للدهشة.