في وداع مهاب نصر.. كيف سرَقَنا طائر الوقت؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحيم يوسف

وسط كل هذا الألم اليومى والشعور بالعجز أمام شبح الموت المقيم فى غزة، أمام سيادة مروية القاتل وكتم صوت الضحية وإلباسه ثوب الجريمة، ومع اعتياد صور الدمار والدماء، يفاجئنا الموت بحضور آخر.. حضور الطائر الخاطف، القادر على مباغتتنا فى عقر دارنا واختطاف من يشاء منا قبل أن نتمكن حتى من احتضانه مودعين، قبل أن نتمكن حتى من إخباره كم نحبه وندين له ونُقدّره.

حين قرأت منشور الفنانة والباحثة فيروز كراوية فى صفحتها على الفيسبوك يوم السبت 28 أكتوبر: «حبيبى يا مهاب.. ألف خسارة» مصحوبة بصورة الشاعر والكاتب مهاب نصر محتضنا عوده وهو يغنى مبتسمًا، توقفت عاجزا عن الاستيعاب لحظة، قبل أن تتوالى التعليقات المتسائلة والمذهولة والمترحمة. سارعت بإرسال رسالة إلى صديقى الشاعر أحمد عبد الجبار أسأله إن كان سمع شيئا عن وفاة مهاب.. وبعد نصف ساعة تقريبا رد على بأنه وجد منشورا على صفحة الكاتبة جيهان عبد العزيز -رفيقة عمر مهاب حتى سنوات مضت- كتبت فيه أن مهاب أصيب بجلطة وموجود فى المستشفى. ربما لو كنت رأيت هذا المنشور لتأهبت قليلا للخبر المباغت، فقبل سنوات أصيب مهاب بأزمة قلبية وهو فى الكويت نجا منها لكن بعد أن ظل فى المستشفى فترة. هذه الأزمات التى تشبه إنذارا مخيفا، لكنه أحيانا يسمح لمن يعرفونك بالانتباه قبل أن تنزل الصفعة على الرأس.

اللقاء الأخير

يوم السبت 24 يونيو، على قهوة والى الشهيرة على طريق الكورنيش فى كامب شيزار بالإسكندرية، كنت جالسا مع أربعة من الأصدقاء حين قال لى الصديق على العدوى: مش مهاب ده اللى قاعد هناك؟ التفت فى اتجاه إشارته، ووجدت مهاب فعلا جالسا على رصيف المقهى على غير عادته فى الجلوس بالداخل. مقهى والى واحدة من مقاهيه المفضلة، ربما لقربها من شقة العائلة ومقر سكنه سنين طويلة، وكان لى حظ الجلوس معه عليها. قمنا نحوه وسط زحام الجالسين فى أجواء أجازة عيد الأضحى، وقام لنا مرحبا بابتسامته الواسعة التى تنغلق لها عيناه، وعانقنا بمودته المعتادة الدافئة. لم نكن قد التقينا منذ سنين، منذ ما قبل كورونا. لم يبدُ عليه تغير كبير باستثناء امتلاء شعره بشيب فضى متأخر. سألته عن صحته وعن فترة أجازته، وأجابنى بأنه سيظل فى الإسكندرية لبعض الوقت، سألته عن ابتعاده عن صفحته على الفيسبوك وسيلتنا الوحيدة للتواصل فى السنوات الأخيرة، فأجابنى بأننى يمكننى أن أرسل إليه على الماسنجر ونرتب للقاء فى أى وقت، واعتذر لجلوسه مع أخيه عن مشاركتنا جلستنا. أكدنا عليه أننا سنرسل له لنلتقى ونجلس جلسة طويلة كالعادة، وأكد بابتسامة واسعة أن هذا سيسعده كثيرا. وسلمنا وعدنا إلى جلستنا. بعد ساعة تقريبا التفت ناحية طاولته، كان قد رحل هو وشقيقه، وحزنت لأنى لم أودعه. ولم أعرف أن هذا هو اللقاء الأخير.
اللقاء الأول

فى صيف عام 1999، كنت جالسا على مقهى آخر مع شلة الصبا فى الثانوى والجامعة، حين أخبرنى أحدهم؛ معلم اللغة العربية حسام المصرى، أنه تعرف على زميل له فى المدرسة التى التحق بالعمل فيها، اسمه مهاب نصر «مجنون آخر بالأدب والشعر». سألته هل هو مهاب نصر نفسه أحد محررى مجلة الأربعائيون؟ فأجابنى بأنه سيسأله ليتأكد. وبعدها بيومين أو ثلاثة أكد لى أنه هو. فوجئت بنفسى أطلب منه بإلحاح أن يسأله عن إمكانية أن أقابله، وأن لدى رغبة فى الحديث معه عن المجلة وتجربتها ولماذا توقفت. وبالفعل بعد بضعة أيام أبلغنى بموافقة مهاب على لقائى فى المدرسة صباحا إذا كان هذا يناسبنى. كنا فى الأجازة الصيفية، ومدرستى البعيدة تعفينى من الحضور اليومى فى الصيف -حيث كنت أعمل مدرسا أنا أيضا للغة الإنجليزية، وكانت هذه هى أجازتى الصيفية الأولى معلما. وافقت على الفور، وفى اليوم المحدد أجبرت نفسى على الاستيقاظ مبكرا قليلا وذهبت إلى مدرسة النصر للبنين حيث انتظرت مهاب مع حسام وزملائه فى ساحة المدرسة، إلى أن أتى بعد موعده بقليل، يرتدى قميصا بكمين طويلين شمرهما قليلا لكن دون أن يفك أزرار الإسورتين، وبنطالا كلاسيكيا، ونظارة ريبان أخفت عينيه، لكنها لم تخفِ ابتسامته المرحبة التى رفعت عنى حرج اللقاء الأول. انتحينا جانبا على إحدى الدكك الرخامية بجوار أحد مبانى المدرسة الإنجليزية الطراز، وبعد التحيات وتقديم نفسي، حكيت له أنى وجدت منذ عام نسخة من العدد الثانى من مجلة الأربعائيون تباع عند بائع جرائد قديم على محطة ترام الإبراهيمية، كان هذا العدد قد صدر عام 1992، ولم أعرف بخبره وقتها، لكنى فوجئت رغم بساطة الطباعة والتصميم، بالمحتوى الأدبى والثقافى العميق للمجلة.

لم يقدم لى مهاب فى هذه الجلسة البعيدة الحكاية الكاملة، وطوال جلساتنا الطويلة المتباعدة فى السنوات التالية لن يكتفى مهاب بالحكايات، رغم أنه حكاء بارع ومُسامر لا يُشق له غبار وصاحب نكتة وعازف ماهر على العود ومغن صاحب صوت فكه غالبا وشجى إن أراد. (كان لى الحظ أن جمعتنا سهرة منذ عدة أعوام فى منزل أحد الأصدقاء أتى فيها بعوده وأتيت بعودى وتبادلنا العزف والغناء). يحكى مهاب الخطوط العامة للحكاية، أو التفاصيل المختارة بعناية، وبعد جملة تبدأ بتشبيه غالبا تنطلق آلة التحليل والتأمل والتشريح لمغزى الحكاية، أو خيوط الربط بين أطراف متباعدة فى الزمان والمكان، ليجعل من الجلسة درسا تطبيقيا فى الفلسفة والنقد والتاريخ، يخرج عقلك بعدها مشحونا بالأفكار الجديدة حول ما تعتقد أنك تعرفه حق المعرفة، ومرهقا من محاولته الدؤوب لتتبع واستيعاب هذه الأفكار وهذه اللغة المتدفقة كالسيل.

الشاعر الفيلسوف

ثلاثة دواوين مطبوعة هى كل ما أصدره مهاب من كتب منذ أدركته حرفة الأدب فى ثمانينيات القرن الماضى، وعشرات المقالات والدراسات والحوارات فى مجلات ومطبوعات ثقافية ومواقع إلكترونية. دواوينه الثلاثة: «أن يسرق طائر عينيك» الذى صدر فى سلسلة كتابات جديدة عن الهيئة العامة للكتاب عام 1997، و«يا رب أعطنا كتابا لنقرأ» عن دار العين 2012، و«لا توقظ الشعب يا حبيبى» عن الهيئة العامة للكتاب 2018، تحمل هذه الروح الجامعة. روح تتعامل مع القصيدة كمغامرة جديدة فى كل مرة، لا تحمل خريطة جاهزة للرحلة يسترشد بها القارئ ويزعم أنه ملم بعالم وأسلوب الشاعر، قصيدة تستفزك كى تفكر بها ومعها، لا تقدم لك حكاية منتهية أو سردا لتجربة أو تفاصيل معيشة، لكنها تقتحم العالم وتشتبك معه، تحلل الخبرة وتتذوق اللغة أثناء صياغتها لها مهما بدت الصياغة مفارقة أو شائكة.

فى العقد الأول من الألفية ترك مهاب عمله بالتدريس وسافر إلى الكويت حيث عمل محررا ثقافيا بجريدة القبس. وفى لقاءاتنا المتباعدة كلما عاد فى أجازة، كنت أسأله فى البداية عن خططه لنشر دراساته أو جمعها فى كتاب، كنت أرى فيها وما زلت جهدا نقديا نادرا، كنت وما زلت أعتبره مفكرا كبيرا بقدر ما هو شاعر كبير، لكن كبرياءه المستحق كان يمنعه من الإلحاح وراء الناشرين.. فخسرت الثقافة العربية فى ظنى الكثير.

مقالات من نفس القسم