ذات السلاسل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد سيد رشوان

( 1 )

أطلقت عليها هذا الاسم لكثرة السلاسل التي ترتديها وتعدد أشكالها وأحجامها وتنوع ألوانها وخاماتها.. اسمها ياسمين عرفات؛ اسم يبدو مألوفًا، معدة في قناة cbc، ظهرت فجأة في المقهى الذي نجلس فيه بشكل دائم في وسط البلد.. أنا والصحفي حشمت الغمراوي، وأميرة مسعود عطا الشاعرة، وهناء منصور الصحفية، وسعد حمودة يعمل بالبازار المجاور لمقهى زهرة البستان.. وأحيانًا ينضم لنا القاص سامي عبد العزيز، أو المحاسب عمر عزمي.. أو طالبة الجامعة هديل سيف الدين

( 2 )

حشمت صحفي فعلاً ولكن الحقيقة لا أعرف أين يعمل ولم أقرأ له مقالات حتى الآن، هو مُطلق وميسور الحال، ولا أدري ما هو مصدر النقود التي تجعل منه ميسور الحال، كهل عابث جاوز الخامسة والأربعين لا يرتدي إلا الجينز، و يهوى اصطياد الفتيات الصغيرات أو غير الصغيرات وإقناعهن بالعمل في الصحافة.. منهن من يصدقنه بأنه سيفتح لهن أبواب صاحبة الجلالة، فيجدنه يفتح لهن أبواب شقته الكائنة بشارع محمود بسيوني.. وأخريات لسن بأقل منه لهوًا ولعبًا.. يعابثنه ويعابثهن وعندما تنتهي المدة ويبدأ الملل يتسرب بينهما، يرحلن في سلام بعد أن ظللن لفترة شريكات في جلساتنا على مقاهي وسط المدينة..

أميرة مسعود عطا الشاعرة الإقليمية المتزوجة من الفنان التشكيلي عبد السلام عويضة.. ومنفصلة عنه رغم أنهما ما زالا يعيشان سويًا في نفس الشقة الواسعة بمصر الجديدة والتي دائمًا ما كانت تستضيفنا فيها سواء أثناء فترة زواجها من عبد السلام أو بعدها..

من واقع مشاهدتي كانت تبدو العلاقة هادئة سلسة لا تمر بها أي مشكلات أو منغصات.. ربما بسبب طبع عبد السلام الهادئ جدًا بجانب أنهما ليس لديهما أطفال، يترك كل منهما الآخر على حريته لا أدري أمن ثقة كل منهما بالآخر، أم لامبالاة من الطرفين.. عرفت فيما بعد أنها كانت ثقة.. لأنني كنت أظن أنهما انفصلا بسبب صداقة أميرة بحشمت المعروف عنه في كل أركان الوسط الثقافي والفني أنه زير نساء نمرود لا يترك امرأة تمر من تحت يده رغم أنه لم يحاول أبدًا ولا مرة نصب شباكه حول أميرة ربما لسبب أخلاقي أو للوقار والجدية التي تتعامل أميرة بهما..، ولكني أدركت أن الأمر يرجع لسلوك عبد السلام الميال للخيانة، والذي دائمًا ما يعترف بخياناته لها دون حتى أن تسأله..

ومع تعدد مرات خيانته وشعوره الدائم بالذنب تجاهها، قررا الانفصال لأنه حقيقة لن يستطيع الكف عن هذا السلوك، ولن يستطيع التعامل معها بنفسية المذنب دائمًا، لا الزوج أو الشريك..

هناء منصور صحفية، تتنقل من صحيفة لأخرى ومن موقع إخباري لآخر.. يقال والله أعلم أنها إحدى ضحايا نزوات حشمت الغمراوي ولكنها استطاعت أن تقلل حجم خسائرها وتضغط على حشمت حتى استطاع الزج بها للتدريب في إحدى المجلات تحت رعاية الصحفي عبد الله كمال..

استطاعت هناء حقيقة إثبات جدارة وتفاني مما نتج عنه تعيينها كمحررة..

سعد شاب حاصل على دبلوم الصنايع، ويعمل بالبازار نهارًا من الصباح حتى فترة بعد العصر.. وبعدها ينضم إلينا، شاب مخلص حقيقي ممتزج بتراب مصر والبيئة الريفية القادم منها والتي لازالت آثارها في لهجته لم تفارقه.. لذلك تجده مألوفًا دائمًا يدخل قلبك سريعًا من التلقائية والبساطة التي يتعامل بهما والتي تميز أغلب أهالينا في الريف، لا علاقة لسعد بالوسط الثقافي أو الفني أو الصحفي ولا يمتلك أي موهبة تؤهله لذلك.. ولكن لطول جلوسه معنا أصبح مُلم بالعديد من الأحداث والأسماء والأماكن وعلاقة كلٍ ببعض..

أما عمر عزمي أو سامي عبد العزيز أو هديل سيف فلا أعرف عنهم شيئًا الحقيقة لندرة جلوسهم معنا بمعدل مرة أو مرتين في الشهر على أقصى تقدير.. وإن كنت أرى في الأخيرة حماسة وتوقد وموهبة عظيمة في العزف على الكمان..

مرة كنا جالسين في المقهى ندخن الشيشة، أنا وأميرة.. وهناء تكتب بعض تقارير العمل وسعد غير موجود دون معرفة سبب ودون اهتمام بمعرفة السبب..

ثم وجدنا من نهاية المقهى حشمت مقبلاً وفي ذراعه فتاة جميلة بشعر أسود فاحم مرسل، ترتدي قميصًا أبيضًا يكشف عن منطقة أسفل الرقبة شاهقة البياض، يبتسمان ويشير هو إلى حيث نجلس..

تقدمت الفتاة بثقة ناحيتنا، عرفها حشمت علينا، ثم عرفني أنا كموظف في الهيئة العامة للكتاب، وكروائي وقاص.. ابتسمت في خجل وقالت أنها لم تصادف اسمي من قبل على أي مطبوعة، تقبلت الأمر وظللت محافظًا على ابتسامتي.. في حين عرف أميرة كشاعرة أيضًا، وعندما قالت لأميرة مثلما قالت لي.. قالت أميرة بحدة ظاهرها الدهشة: ”الظاهر يا حبيبتي إنك مش بتقري أصلاً ولا مهتمة بالأدب”..

وعندما عرّف هناء.. غمزت لحشمت وهي تصافح ياسمين.. قائلة: ” أنت ناوي تشغلها في الصحافة ولا ايه يا حشمت؟ “

فضحك حشمت وقال: ‘‘العفو العفو.. دي هي اللي هتشغلني في سي بي سي“

( 3 )

غالبًا، عمرها لم يمر من الثلاثين بعد.. غير متزوجة.. أو مخطوبة..

أما حشمت الذي لا يضيع وقتًا.. وجدناه في الجلسة الخامسة لها، يأخذها في ركن ويتهامسان، فعرفنا أن الثمرة قد اقترب جنيها..

لكن لمفاجأتنا وجدناها بعد دقائق ترفع صوتها متراجعة بكرسيها نصف متر قائلة: ”يعني أنت عايزني آجي معاك الشقة عشان ننام مع بعض “

اندهشنا لجرأتها وظللنا ننقل أبصارنا بينهما متخيلين أن حشمت سيلقم حجرًا وربما سيقوم منصرفًا مختبئًا في خجله وانهزامه..

لكنه ويا للعجب.. اعتلت شفتيه ابتسامة ساخرة.. ونظرة عابثة ماكرة.. وعاد بظهره إلى مسند الكرسي واضعًا الساق على الساق.. ورفع صوته إلى مستوى صوتها وقال:

_وماله، أنا مش راجل ملو هدومي.. وانتي ست كلك أنوثة؟ وأنا عندي الرغبة لكده، وانتي عندك الرغبة كمان.. أعتقد كدا وإلا متبقيش ست (ونظر في وجوهنا يلتمس التأييد عند تلك الجملة).. وبعدين إحنا في ما بيننا مودة وألفة، يعني نعرف بعض قبل كدا.. يبقى إيه المانع؟

أطلقت ياسمين ضحكة قصيرة ساخرة وقالت وشيء من الازدراء يغلف نظرتها:

_ كدا من غير جواز ولا حتى علاقة عاطفية!؟ أنت عارف دا بيتسمى أيه يا حشمت بيه.. عارف ولا أقولك يا سيادة الصحفي الكبير؟

_ لأ لأ لأ.. أنا مش عايزك تخوضي الحياة بأحكام مسبقة.. المقياس لأي شيء هو التجربة، جربي الأول وبعدين ابني أحكامك.

ضحكت ياسمين ضحكة عالية جدًا وقالت:

_ أوك، (وفجأة أمسكتني بكلتا يديها من يدي) أنا هروح أجرب فعلاً مع الأستاذ.. وبعدين أبقى آجي أديك حكمي.

ثم نظرت إلي: عندك مانع نجرب سوا؟

ثم قامت لتجذبني وراءها وسط دهشتي واتساع عيني مستغربًا، نظرت ورائي فوجدت هناء وأميرة وسعد غارقين في ضحك هستيري متواصل عيونهم مغلقة من شدة الضحك.. وحشمت غاضب محمر الوجه يصدر السباب والشتائم كما هو واضح من حركات شفتيه.

( 4 )

ما إن خرجنا من محيط المقهى.. حتى قالت لي: أنا آسفة حقيقي، أنا اخترتك أنت لأنك معتقدش هيبقى تفكيرك زي تفكير الوسخ ده، حقيقي الحياة بتعلمني إن ناس كتير عبارة عن صناديق زبالة بيشتغلوا شغلانات محترمة ومناظرهم شبه الناس المحترمة.. أنا متأسفة حقيقي.

أمسكت بيدها وربتت عليها باليد الأخرى وقلت لها: ولا يهمك.. هو دا حشمت وهي دي حياته وهو ده أسلوبه من يوم ما عرفناه.

_وانتو ازاي تقبلوا تعرفوا واحد بالسخافة والوضاعة دي؟

_حقيقي لو فضلنا ندور على الناس الخاليين من أي أخطاء وعيوب، مش هنصاحب حد ولا هيبقى لنا علاقة بحد.. وفي ناس كتير من اللي قدامك أوسخ وأوضع من حشمت.. بس تعاملك معاهم هو اللي بيكشف حقيقتهم.

قالت: عندك حق.

دعوتها للجلوس في مقهى تايم كافيه، عرفت أنها سليلة أسرة أرستقراطية مات الأب وهي تعيش مع والدتها في فيلا بحي راقٍ ــ لم تذكر أسمه لا أدري بقصد أم بدون ــ وليس لها أشقاء إلا واحد فقط يعيش في باريس بشكل شبه دائم.

وحكيت لها حكايتي وبأنني مخطوب لمترجمة بوكالة أنباء الشرق الأوسط.. وسألتني إن كانت قد رأت الشلة التي أجلس معها فقلت أنني اصطحبتها مرة ولكنها لم ترتح للجو ولا لحشمت أوأميرة أوهناء..

قالت أنها أيضًا كذلك.. ولكنها لم تكن تتوقع كل تلك القذارة من حشمت.. وفي حقيقة الأمر كشخص معتاد على وقوع مثل هذه الوقائع باستمرار.. فإنني لا أراها بالفظاعة التي تصورها ياسمين.. ولكنني لم أعلن لها هذا.

( 5 )

تعددت اللقاءات بيننا، وغالبًا ما نأكل في فلفلة أو البرنس أو نشتري طعامنا من عند قزاز ونذهب لنأكله سويًا.. وأصبحت جلساتنا المعتادة إما في إحدى مقاهي البورصة أو في سوق الحميدية أو الندوة الثقافية أو جولد ستار في شارع صبري أو علم أو إحدى مقاهي شارع شامبليون، واعترفت لي مرة أنها ليست معدة في سي بي سي ولا يحزنون ولكنها تحلم بالعمل في الصحافة.

ومرة أخرى قالت لي: أن مشكلة وسط البلد أنه مصب للنجوم والنجومية في مجال الثقافة أو الصحافة أو الفنون، لذلك كل من يأتي إلى وسط البلد يريد إثبات نفسه كنجم فيلجأ إلى التعامل عكس شخصيته، وربما ذلك ما يبرر وجود كل هؤلاء الشخصيات المشوهة والمسوخ في وسط البلد،.. و وجود كل هؤلاء المهاجمين والمنتقدين لهذا المجتمع سواء من لدغهم عنصر من عناصره مثلي.. أو ممن فشلوا في تحقيق النجومية والانضمام إلى عناصره فانقلبوا إلى الهجوم العنيف عليه.

وقالت لي أنني لا أشبههم لأنني أصطلي بأضواء وسط البلد دون المغامرة بالتصدي لها..

فابتسمت، ولم أعلق.

( 6 )

عرفتها على خطيبتي، والتي لم تعلق على ياسمين سوى بكلمة: لطيفة. وتعاطفت مع حكايتها ولامتني في صيغة نصيحة لمعرفة هؤلاء الأشخاص السخفاء أمثال حشمت وأميرة وهناء.. وغالبًا ما أنبري للدفاع عن أميرة بصفتها صديقة مخلصة وشقيقة كبرى..

( 7 )

مرة كنا في باسيليس قبل أن يتم إغلاقه بعد الحملة الأمنية الغريبة عليه باعتباره "مقهى ملحدين" وكان بالقرب منا مجموعة من الشباب يغنون فظللنا نصفق ونردد ورائهم أو نغني معهم إلا ونفاجأ بحشمت خارجًا من كوك دور ومقبلاً علينا..

” إيه يا وحوش، إيه الأخبار؟ عاجبنكم العيال دول؟ “

”أهلاً حشمت.. اتفضل“

ابتسم حشمت ونظر نحو ياسمين بابتسامة ماكرة وقال: أنا خايف بس ليضايق دا آنسة ياسمين.

لم تعقب ياسمين واكتفت بإلقاء نظرة إليه وهي جالسة ثم استئناف متابعة فرقة المغنيين..

فتبسمت باصطناع وقلت: لا أبدًا مش هيضايقها ولا حاجة اتفضل يا حشمت.

_ أنا خايف بس لاقطع عليكم قعدتكم الشاعرية دي !!

جززت على أسناني وقلت: أقعد يا حشمت!

جلس حشمت وقال: مقلتليش، أخبار خطيبتك ايه؟

_كويسة، بتسلم عليك.

_كويسين مع بعض يعني؟

ولم ينتظر جوابًا بل مال ناحية ياسمين وقال: هو مقالكيش إنه خاطب ولا أيه؟

تبسمت ياسمين قبل أن تصمت برهة وقالت: قاللي، وقعدنا سوا كمان.. إنسانة عظيمة وذكية ومخلصة ما تستحقش غير واحد عظيم وذكي ومخلص زيه!

هز حشمت رأسه ببطء وضيق من حدقتيه وقال: وإيه الأخبار.. شقة السلام عجبتك؟

انزعجت ياسمين: سلام أيه؟

_ الله، انتي مروحتيش شقته في السلام؟

_ لأ أنا باخده عندي الفيلا.

رفع حشمت حاجبيه وقال:ياه!؟ طب كويس.. أنا مبسوط، يعني الموضوع عجبك!؟

ابتسمت ياسمين ابتسامة صفراء وقالت: فوق ما تتخيل، وأعتقد دي حاجة تزيد انبساطك!

_ طبعًا يا آنسة ياسمين..طب استأذنكم أنا عشان مزعجكوش أكتر من كدا!

_ أتفضل.

طوال جلوس حشمت وحتى أثناء مراقبة خطواته وهو يبتعد وانعطافه في شارع هدى شعراوي.. وأنا أحاول جاهدًا كتم ضحكتي ما استطعت، ولكنني ما إن أبصرته يختفي عن ناظرينا حتى انفجرت ضاحكًا مما حدا بياسمين أن تضحك هي الأخرى..

وقالت: أنا آسفة طبعًا إني قلت كدا، حقيقي متزعلش.

_ لا لا أبدًا.. أنا مبسوط جدًا باللي حصل في حشمت النهاردا.

ثم مالت علي وهمست: أنت فعلاً ساكن في السلام؟

_أه.

_والمنطقة اللي ساكن فيها هادية؟

_جدًا دا غير إنها قريبة من المترو جدًا.

_طب.. بص.. لو حابب إني آجي معاك في مرة الشقة.. أنا معنديش مانع حقيقي.

في تلك اللحظة هبطت عيني بشكل لا إرادي على منبت ثدييها ومفرقهما المظهر الظاهر أثر انحنائها تجاهي، فتراجعت إلى الخلف.. وتلعثمت لتصارع الأفكار في ذهني.. ثم استجمعت تركيزي وقلت بنبرة لم أبذل جهدًا مهولاً لصبغها بالثقة:

الحقيقة دا شيء يسعدني لكن أنا حقيقي مخلص لخطيبتي جدًا ودا اللي يخليني مبصش لأي ست غيرها بشكل شهواني.. أنا متأسف جدًا.

تنحنحت وقالت وهي تنظر في الأرض لتداري خجلها: بالعكس أنا اللي متأسفة جدًا، وبعتذر لك عن الطلب السخيف دا!

فقلت محاولاً تخفيف الحرج عنها: لا أبدًا، حصل خير.

وظللنا صامتين حتى غابت الشمس فقامت قائلة: يلا بينا.

( 8 )

اختفت بعدها تمامًا ياسمين ذات السلاسل.. ظللت أهاتفها دون إجابة.. فاحترمت رغبتها في الابتعاد.. وعدت لجلوسي مع الشلة القديمة

استقبلني حشمت قائلاً: أهلاً بالظافر الأعظم.

ابتسمت ولم أعلق.. فأردف: أومال صاحبتك غايبة يعني؟

فعلقت أميرة: المهمة انتهت.

رددت بنبرة مبهمة: انتهت فعلاً.

ولم نفتح هذا الحوار بعد ذلك فيما بيننا..

عاد حشمت ليعرفنا على فتياته من جديد.. وعدت أنا وأميرة ندخن الشيشة سويًا.. حتى تزوجت، فقلّت اللقاءات بيني وبينهم تدريجيًا حتى انعدمت تمامًا تقريبًا..

وإن كنت لا أنكر أن ثمة شوق خاطف كان يراودني لرؤية ياسمين..

بين الحين والآخر.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 القصة من المجموعة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة 2016 






مقالات من نفس القسم