د. محمد حلمي الريشة: تشهَّيتُ أَنْ لوْ كنتُ مقيمًا فِي مكانٍ مَا يُحترمُ فيهِ الإِنسانُ

محمد حلمي الريشة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 حوار: عاطف محمد عبد المجيد

د. محمد حلمي الريشة شاعرٌ ومترجمٌ فلسطينيٌ كبيرٌ وُلد في مدينة نابلس.تُرجمتْ نصوصه الشعريَّةٌ والنثريَّةٌ إِلى اللُّغاتِ الإِنجليزيَّةِ والفرنسيَّةِ والبلغاريَّةِ والإِيطاليَّةِ والإِسبانيَّةِ والفارسيَّةِ والأَلمانيَّةِ.حصل على عدة جوائز وتكريمات رفيعة المستوى.له العديد من الإبداعات شعرًا وترجمةً، من أعماله الشعرية: الخيل والأنثى، ثلاثية القلق، كتاب المنادَى، كأعمى تقودني قصبة النأي.   ومن ترجماته: لماذا همس العشب ثانيةً؟، مرآة تمضغ أزرار ثوبي، الخريف كمان ينتحب، شعر الحب الصيني، أنت الأكثر جمالًا لأنك تنظر إليّ وغيرها. هنا، يفتح الريشة قلبه للدوحة متحدثًا عن رحلته مع الشعر والترجمة والحياة.

* ليس كل من عرف لغتين يستطيع أن يُترجم من إحداهما إلى الأخرى..ثمة إحساس باللغة؛ وهو ما يُحْدث الفارق بين ترجمة وأخرى..ما رأيك؟

** اللُّغةُ مِن أَساساتِ الثَّقافةِ العامَّةِ والشِّعريَّةِ بخاصَّةٍ، لِهذا أَقولُ دائمًا: اللُّغةُ هيَ بطلةُ النَّصِّ الأَدبيِّ، والنَّصِّ الشِّعريِّ بالذَّات.فالنَّصُّ المترجَمُ يَستقي وينهلُ جماليَّةً مضافةً إِلى جماليَّتهِ الأَصليَّةِ المتأَصِّلةِ فيهِ مِن تفاصيلِ اللُّغتينِ معًا، ومِن مخيَّلتِهما، فمتَى كانَ المترجمُ متمكِّنًا لغويًّا وثقافيًّا، ومدرِكًا بكلِّ وعيٍ، ومستحضِرًا مَا يستجدُّ لغويًّا وشعريًّا، تكونُ التَّرجمةُ بجرعةٍ زائدةٍ منَ الدَّهشةِ المتولَّدةِ.نعمْ؛ الإِحساسُ باللُّغتينِ فِي التَّرجمةِ، وليسَ بلغةٍ واحدةٍ، ضرورةٌ استثنائيَّةٌ فِي هذهِ الحالةِ الإِبداعيَّةِ أَيْضًا.  

 

* لك باع طويل في ترجمة الشعر، هل كونك شاعرًا بالأساس هو ما قوّى قلبك ودفعك إلى هذا؟

** لمْ أَسأَلْ ذَاتي الشَّاعرةَ هذَا السُّؤالَ، بلْ ولمْ أُفكِّرْ بهِ. كنتُ قرأْتُ فِي العامِ (1978) قصيدةَ: “الأَرضُ اليبابُ ” للشَّاعرِ (ت. س. إِليوت) مترجمةً فِي مجلَّةِ ” شِعر”. شدَّتني إِلى البحثِ عنْ قصائدَ لِهذا الشَّاعرِ، وحينَ قرأْتُ قصيدتَهُ: ” الرِّجالُ المجوَّفونَ ” باللُّغةِ الإِنجليزيَّةِ، جرَّبتُ ترجمتَها إِلى اللُّغةِ العربيَّةِ، ولمْ أَكنْ قرأْتُها مترجمةً آنذاكَ. كانتْ هذهِ أَوَّلَ تجربةٍ فِي ترجمةِ الشِّعرِ، وتمَّ نشرُها فِي إحدى الصُّحفِ المحليَّةِ.   

ربَّما كانتْ هذهِ التَّرجمةُ دافعًا لترجمةِ نصوصٍ شعريَّةٍ أُخرى كثيرةٍ، فالشَّغفُ بولادةٍ ثانيةٍ للقصيدةِ بلغةٍ أُخرى بعامَّةٍ، ولُغتي العربيَّةِ بخاصَّةٍ، دَفعني إِلى التَّماهي الإِيجابيِّ معْ كلِّ مَا يشدُّ انتباهةَ ذائقتِي وبَصيرتي الشِّعريَّةِ إِلى الاطِّلاعِ علَى إِبداعِ الآخرِ شعريًّا. كلُّ النُّصوصِ التَّي ترجمتُها بتنوُّعِ مشاربِها الكينونيَّةِ مَا هيَ إِلَّا امتدادٌ لإِنسانيَّتي قارئًا نهمًا أَوَّلًا، وذاتًا شاعرةً ثانيًّا، فِي مَدًى شاسعٍ غيرِ مغلقٍ ولَا مقيَّدٍ فكريًّا وتخيُّلًا.

* مَن يتصدى لترجمة الشعر يجد صعوبات، على الرغم من المتعة التي قد يعيشها أثناء الترجمة..حدثني عن صعوبات ترجمة الشعر ولذّتها.

** مَا مِن صعوباتٍ تذكَرُ، بخاصَّةٍ فِي التَّرجمةِ إِلى اللُّغةِ العربيَّةِ؛ فهيَ لغةٌ ثريَّةٌ جدًّا معجميًّا، وحينَ أُترجمُ فإِنِّي أَنتقِي الأفعالَ والكلماتِ الأَقربَ كثيرًا إِلى اللُّغةِ الشِّعريَّةِ. حينَ يكونُ النَّصُّ الشِّعريُّ أَخَّاذًا بملامحِهِ اللُّغويَّةِ، وآسرًا بصورهِ المتخيَّلةِ، وناطقًا بِما يضجُّ بهِ، فإِنَّ شاعرَهُ يشاركُكَ فيهِ مِن بلدٍ آخرَ ربَّما بأَبعدَ نقطةٍ عنكَ، ويتقاسمُ معكَ الهمومَ الكينونيَّةَ والإِنسانيَّةَ وهمومَكَ الإِبداعيَّةَ والثَّقافيَّةَ ليقولَ بشعرِهِ مَا تودُّ قولَهُ، كأَنَّهُ مرآتُكَ، وانعكاسٌ لفكرِكَ بطريقةٍ لغويَّةٍ أُخرى جذَّابةٍ بشغفٍ، فهيَ تظلُّ إِنسانيَّةُ بالدَّرجةِ الأُولى والأَوْلى. تمنَّيتُ لوْ أَنَّ للشِّعرِ لغةٌ واحدةٌ لَما احتجْنا لترجمتهِ!

* هل أثر انشغالك وانكبابك على ترجمة الشعر سلبًا أم إيجابًا على إبداعك؟

** التَّرجمةُ لَا تقلُّ أَثرًا عنِ الكتابةِ والقراءَةِ؛ فحينَ لَا يشغلُني نصٌّ شعريٌّ، وهوَ يأْخذُ منِّي وقتًا كثيرًا، أَعيشُ حالةَ القراءَةِ الإِبداعيَّةِ، وحالةَ التَّرجمةِ الإِبداعيَّةِ إِذا جذبَني نصٌّ شعريٌّ مدهشٌ يُشعرني بعدَ ترجمتهِ كأَنِّي مَن أَنجبَهُ حينَ تتراءَى لِي كلماتُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ. ليستِ التَّرجمةُ، فقطْ، مَن تأْخذُ من جهدِي ووقتِي، بلِ العملُ الأَدبيُّ أَيضًا؛ كانَ ولَا يزالُ لَا يشبعُ مِنهما، أَضفْ إِلى هذَا العملَ فِي الصَّحافةِ الأَدبيَّةِ؛ كنتُ رئستُ تحريرَ عدَّةِ مجلَّاتٍ أَدبيَّةٍ وثقافيَّةٍ، وأَرأَسُ، الآنَ، تحريرَ: “ديوانُ الآنَ- مجلَّةِ الأَدبِ الحديثِ”. لَا أَخفي أَنَّ كثيرًا منَ القصائدَ حينَ أَتتَنْي، وهيَ تأْتِي بِل موعدٍ زمانًا ومكانًا وحالةً، لَمْ تجدْني جاهزًا لاستقبالِها بسببِ أَنِّي أَكونُ مشغولًا بشيءٍ مَا لَا يمكنُني تركُهُ، وهيَ لَا تنتظرُ، فتترُكنِي مِن دونِ أَنْ تحتمِلَني، وليتَ أَنِّي أَدري كيفَ تشعرُ هيَ بعدَ هذَا. لكنْ؛ بكلِّ الإِيجابيَّةِ الجديدةِ، والأَثرِ الثَّريِّ، والصَّدى العميقِ بداخلِي؛ كانتْ التَّرجمةُ لِي، ولَا تزالُ تمنحُني أَنفاسًا إِضافيَّةً لأُحقِّقَ ذاتِي قارئًا وشاعرًا للتَّعاملِ معَ اللُّغةِ، والقراءَةِ، والثَّقافةِ، والكتابةِ. صحيحٌ أَنَّ التَّرجمةَ أَخذتْ منِّي سنينًا مديدةً منَ الممارسةِ والتَّمرُّسِ، إِلَّا أَنَّها، بالمقابلِ، منحتَنْي شساعةَ اطِّلاعٍ، وأدخلَتْني عالمَ الشِّعرِ الإِبداعيِّ العالميِّ مِن أَبوابهِ الكثيرةِ والمختلفةِ والمتنوِّعةِ.

* هناك رأي يقول إنه من الأفضل ألا يُترجم الشعر غير الشعراء..هل تروق لك هذه الرؤية؟ أم أنت ضدها؟

** أُؤَيِّدُ هذَا الرَّأْيَ وأُساندُهُ، بشرطِ القدرةِ علَى فعلِ التَّرجمةِ إِبداعيًّا مِن قبلِ الشَّاعرِ لغةً وإِحساسًا وتماهيًا وتمثُّلًا معَ النَّصِّ الشّعريِّ. أُسلوبي القرائيُّ المتجلِّيةُ ملامحُهُ بأُسلوبي الشِّعريِّ مِن حيثُ قوَّةِ اللُّغةِ، مدينٌ لهُ لاطِّلاعي المبكَّرِ جدًّا علَى الشِّعرِ، ولَوْلا سَعيي الحثيثُ لشحنِ مخيَّلتي وذاكِرتي لمَا كنتُ شاعرًا؛ فإِضافةٍ إِلى الموهبةِ، لَا بدَّ مِن ركائزَ قويمةٍ ورصينةٍ يرتكزُ علَيْها الشَّاعرُ أَوَّلًا لنهجِ طريقٍ لهُ بدربِ الشَّعرِ الطَّويلِ والصَّعبِ  وهوَ الثَّقافةُ.

كثيرةٌ هيَ التَّرجماتُ، ولكنْ هلْ ذاعَ صيتُ مَن ادَّعوا التَّرجمةَ، بلْ أَبعدَ مِن ذلكَ أَقولُ: هلْ لَا يزالُ لصيتِ ترجماتِهم مَا يسمعُ  لهُ الآنَ ذِكرٌ! لَا يمكنُ أَنْ يفهمَ النَّصَّ الشِّعريَّ مَن لَا يكونُ قادرًا علَى ولوجِ عالمِ التَّخيُّلِ والمخيَّلةِ.

* هل رأى محمد حلمي الريشة نفسه في أشعار مَن ترجم لهم؟

** النَّصُّ الجيِّدُ حينَ يقنعُ المترجمَ يدفعُهُ إِلى محاورتِهِ بلغتهِ محاورةً بلاغيَّةً شعريَّةً إِنسانيَّةً، معْ ملحوظةٍ مهمَّةٍ أَرغبُ البوحَ بِها: مهمَا بلغَ النَّصُّ الآخرُ مِن جماليَّةٍ شعريَّةٍ، فإِنِّي حينَ تَرجمتي أُحافظُ علَى خصوصيَّةِ لُغتي الشَّاعريَّةِ والشِّعريَّةِ محافظًا علَى خصوصيَّةِ مخيَّلةِ شاعرِ النَّصِّ الأَصليِّ كلوحةٍ تسرُّ بَصري وبَصيرتي، لكنْ أُميِّزها ترجمةً بتلكَ البصمةِ اللُّغويَّةِ الَّتي أُضيفُها للَّوحةِ ليكتملَ رونقُها وبهاؤُها، هذَا لَا يَعني أَنَّ النَّصَّ الأَصليَّ ينقصُهُ شيءٌ؛ بلِ القصدُ مِن قَولي  هوَ أَنِّي أُضفِي عليهِ جماليَّةً أَقتنصُها مِن نورِ وبهاءِ اللُّغةِ العربيَّةِ مِن خصائصِ الإِبداع. لِذا، أَنْ أَرى نَفْسِي فِي أَشعارِ مَن ترجمتُ لهُم؛ هذهِ مسأَلةٌ نسبيَّةٌ، ربَّما يُضيئها ناقدٌ شعرٍ مقارَنٍ متمكِّنٍ شعرًا ونقدَ شعرٍ. ثَمَّ قصائدُ ترجمتُها واشتهيتُ لَو أَنِّي مبدعُها!

* دعني أعيد صياغة السؤال السابق هكذا: هل صادفك شاعر ممن ترجمت لهم وقلت في نفسك إنه النسخة المُترجَمة من محمد حلمي الريشة؟

** لَا أَستطيعُ تقديرَ هذَا، ولكنْ لضرورةِ الإِجابةِ أَقولُ: إِلَى حدٍّ مَا ” أُكتافيو باثْ “؛ هذَا المبدعُ الَّذي أَسرَ ذائقَتي الشِّعريَّةِ منذُ العامِ (1990م)، وهوَ العامُ الَّذي حصلَ فيه علَى “جائزةِ نوبل”، وكنتُ فِي أَوائلِ العامِ ذاتِهِ، قدْ قرأْتُ- وهذهِ المرَّةُ الأُولى الَّتي أَقرأُ لهُ- فِي مجلَّةِ “كتاباتٌ معاصرةٌ” ترجمةً لمقالتِهِ: ” عملُ الشَّاعرِ “، فقلتُ فِي نَفْسي آنذاكَ: إِذا هذَا هوَ نثرُهُ، فكيفَ شعرُهُ ترجمتُ لهُ نصوصًا شعريَّةً جذبَتْني، وكنتُ كتبتُ مقالةً بعدَ رحيلهِ الجسديِّ بعنوانِ: ” أُوكتافيو باثْ.. كانَ جديرًا بِما حلمُ بهِ “، لأَنَّهُ القائلُ: “كنْ جديرًا بِما تحلمُ بهِ”. لقدْ كانَ، ولَا يزالُ، مِن أَكثر الشُّعراءِ إِدهاشًا لِي حدَّ الشَّغفِ الشِّعريِّ بلغتهِ المتحرِّرةِ والواعيةِ باستشرافهِ للغةٍ متخيَّلةٍ رهيبةٍ، وهوَ الشَّاعرُ ( والكاتبُ والباحثُ ) الجديرُ بأَنْ يُقرأَ بكلِّ قراءَةٍ واثقةٍ أَنْ هكذَا هوَ الشِّعرُ الخالدُ.

* تقول في إحدى قصائدك: ” أنا الثمرة التي ظلت معلّقة / بعد أن هوت الشجرة / بفعل الحطاب الوطني “. حدثني عن عذاباتك وآلامك شاعرًا وإنسانًا فلسطينيًّا.

** لَا تصالحَ معَ الماضِي ولَا قبولَ لهُ، وهذَا الحاضرُ هوَ امتدادٌ لهُ بكلِّ الهزائمِ والنَّكساتِ والنَّكباتِ الَّتي توالدتْ منْها جبنًا / ضعفًا / نفاقًا / تطبيعًا / خيانةً ….، ولَا نزالُ نجرُّ أَذيالَها جيلًا بعدَ جيلٍ. عَذاباتي إِنسانًا فلسطينيًّا هيَ عَذاباتُ أَيِّ فلسطينيٍّ حرٍّ، فهيَ نتيجةُ اتِّكائِهِ واتِّكالِهِ علَى الآخرِ، بلْ وعلَى الآخرِ النِّقيضِ! هلْ تَرى فِي أُفقِنا مَا يدلُّ علَى / يشيرُ إِلَى انتصارٍ قادمٍ لنَا بعدَ كلِّ هذَا وذاكَ وقدْ أَتتْ علَى كلِّ جميلٍ أَرضًا وبشرًا وإِنسانيَّةً أَيْضًا؟! عَذاباتي شاعرًا سبَّبتْها خياناتٌ ودماراتٌ وأَنانيَّاتٌ ونرجسيَّاتٌ ثقافيَّةٌ؛ هدمتْ وتهدمُ كلَّ إِبداعٍ أَدبيٍّ بخاصَّةٍ، وأَعمالٍ ثقافيَّةٍ بعامَّةٍ، بأَفعالِ وإِيحاءَاتِ رموزٍ أَدبيَّةٍ وثقافيَّةٍ يَراها العالمُ غيرَ مَا نَراها فِي عالمِنا الَّذي أُصيبَ بالمحتلِّ الإحلاليِّ! أَكثرَ مِن مشروعٍ أَدبيٍّ تمَّ محوهُ أَو هدمُهُ مِن قِبلهم، وأَكثرَ مِن إِصدارٍ ناجحٍ منتشرٍ تمَّ وأْدهُ بقطعِ الدَّعمِ أَوِ بخضوعِ لُعابِ شخوصهِ لأَلاعيبِهم الوضيعة! حتَّى الجوائزُ الأَدبيَّةُ والثَّقافيَّةُ، هُنا، ينطبقُ علَيْها: “جحا أحضره.. جحا أكله”! كثيرٌ مِن قصائدِي لَا أَزالُ أُحاولُ بِها أَنْ أُوصلَ الَّذي كانَ بِما هوَ كائنٌ بلغةٍ حديثةٍ ورؤيَّةٍ شعريَّةٍ، قدْ يَراها البعضُ نشيدًا خياليًّا، معْ أَنَّها صرخاتٌ هادئةٌ فِي وجهِ العتوِّ والجورِ وغيرِ الَّإِنسانيِّ.

* تُرى ما هي طموحات محمد حلمي الريشة وآماله شعريًّا وإنسانيًّا؟

** بعدَ هذهِ الخطواتِ / الرِّحلةِ الشّعريَّةِ الكثيرة / الطَّويلة لمْ أَعدْ أُفكِّرُ بطموحاتٍ؛ لقدْ تعبتُ حتَّى ضاقَ التَّعبُ بِي، ولقدْ نزفتُ عرقًا، لِي ولآخرينَ، حتَّى خِلتُني غارقًا فِي بحيرةٍ! حينَ رأَيتُ أَنَّ صورةَ الشَّيءِ أَبقَى منَ الشَّيءِ / صورةَ الميِّتِ أَبقَى منَ الميَّتِ! حِينها، مبكِّرًا، اشتغلتُ علَى موهبتِي الشِّعريَّةِ ومواهبِي الأُخرى، ليسَ للشُّهرةِ الَّتي لمْ أَنزلْ إِليها ( الفضيحةُ تشِهرُ أَيضًا )، بلْ لأَترُكَ أَثرًا، قدْ ينفعُ النَّاسَ، قبلَ أَنْ أَختفي مِن ظلِّ / مِن تحتِ شجرةِ الحياةِ، لأَنِّي لمْ أَقبلْ، وقدْ جِيءَ بِي إِلى هذهِ الدُّنيا، أَنْ كأَنِّي مَا جِئتُ!  

* ترجمت قصيدة للشاعرة اليابانية ماسايو كويكي عنوانها “بحماسة أنتظر شيئًا يعْبر من خلالي”.. تُرى ماذا ينتظر محمد حلمي الريشة؟

** انتظرتُ أَشياءَ كثيرةً؛ قليلٌ مِنها أَتَى بأَسنانِ إِصراري، وقليلٌ آخرُ ذهبتُ إِليهِ حافيَ الذَّاتِ مِن أَجلِهِ، والأَقلُّ حينَ عرفتُ أَنْ مَا مِن قطارٍ سيأْتي ومَا مِن محطَّةٍ أَصلًا؛ اكتشفتُ، ويَا للمفاجأَةِ المُرَّةِ فِي هذَا الأَقلِّ، أَنِّي كنتُ الانتظارَ!

* اسمح لي أن أنهي حواري هذا معك بسؤال كان عليّ أن أبدأه به: إن طلبت منك أن تحدثني عن محمد حلمي الريشة فماذا تقول شرط أن يكون ما تقوله هنا للمرة الأولى؟

** لوْ كانَ هذَا السُّؤالُ فِي بدايةِ هذَا الحوارِ لأَجَّلتُهُ إِلى نهايتِهِ. لقدْ نظرتُ فيهِ مطوَّلًا وأَنا أُحاولُ أَنْ أَفِي بشرطِكَ. بالتَّأْكيدِ ثَمَّ أَشياءُ لمْ أَستطعْ شخصًا أَنْ أَقولَها لأَسبابٍ عقديَّةٍ أَوِ اجتماعيَّةٍ أَو سياسيَّةٍ أَو شخصيَّةٍ تتعلَّقُ بِي أَو بالغيرِ. لكنِّي استطعتُها شاعرًا، إِذْ تمنحُكَ لغةُ الشِّعرِ الخاصَّةُ بهِ شيئينَ: أَنْ تبوحَ بِما تريدُ- الآخرونَ لَا يقرؤونَ أَصلًا، وأَنْ يكونَ شعرًا إِبداعيًّا فِي آن. مَا أَرغبُ بقولهِ للمرَّةِ الأُولى، وهذَا متعلِّقٌ بما جاءَ فِي الفقرةِ السَّابقةِ: كمْ تمنَّيتُ/ تشهَّيتُ أَنْ لوْ كنتُ مقيمًا فِي مكانٍ مَا يُحترمُ فيهِ الإِنسانُ ويقدِّرُ المبدعُ، لكنتُ كتبتُ شعرًا آخرَ غيرَ الَّذي كتبتُهُ فِي سبعَ عشرةَ مجموعةً شعريَّةً.

مقالات من نفس القسم