محمد العمراني
ألقى بجسمه على كرسي الحلاق الشاغر حديثا، فيما دفع بابنه إلى كرسي ثانٍ مجاور. فعلا ذلك بعد مدة انتظار قصيرة؛ لم تدم غير دقائق معدودات؛ فقد كان حظهما اليوم عند محل الحلاقة جيدا.
غاص صديقنا في مكانه، ومن ثم انطلق في جولته الاستكشافية عبر جدران المحل وجوانبه. هو يفعل ذلك في كل مرة يزور فيها المكان؛ وفيها تراه يُطيل التأمل في المرآة، قبل أن يتتبع ببصره مواد الحلاقة الموضوعة على الطاولة، وكأنا به مُوكَلٌ بأمر عَدِّها ومُراقبة مخزونها؛ مقص أو اثنان، ومشطان، بالإضافة إلى علب متنوعة؛ تضم أنواعا من الصابون المُرطّب، وقارورات عطر، وعددا من شفرات الحلاقة الجديدة.
لم يتوقف الرجل عن مهمته تلك إلا بدنو الحلاق منه؛ إيذانا ببداية عملية القص. لكن، وقبل أن يباشر الحِرَفِيّ عمله، التفت إليه؛ مخاطبا إياه بكلمة، بدا أن شفتيه لم تعتادا على نطقها؛ “دِيغْرَدِيه”.
وحتى يَدفعَ أي لُبسٍ في فهمها، ويؤكِّدَ على مقصوده ويُجَلّيه أكثر؛ استجمع قواه، مُضَمّنًا الكلمة في عبارة/ طلب: أريد قصة ال-“دِيغْرَدِيه”. ثم أعقب ذلك بإيماءة من رأسه وجهها للحلاق الثاني، مفادها: أن افْعل بشعر ابني، مثلما هو فاعل صديقك معي. هما كلمة وإيماءة، استقبلهما “المْعَلْمَانِ” بابتسامة صغيرة، ومن ثم انهمكا في مهمتيهما.
والحق أنه لم يكن يهتم كثيرا قبل هذا اليوم بأنواع قصات الشعر وصيحاتها. وإذا نحن أردنا التمثيل لهذا الاهتمام عنده، فعلينا بالعودة إلى سنوات مراهقته الأولى. وفيها كان يحرص على اتخاذ قصة عُدّت صيحة جديدة في زمانها؛ مُشتهرة بين الشباب في أحياء طنجة باسم عجيب هو”الجُونْطْرَا”. وهي تسمية مشتقة من اسم الممثل الأمريكي الشهير جُونْ طْرَبُولْطَا؛ كان قد ظهر بها في أحد أشرطته السينمائية الشهيرة قديما. على أن صاحبنا لم يكن ليغفل عن أمر شعره يوما حتى لا يُنعَت ب”المْغَوْفْلْ”.
لكنه، ومع دخوله عالم الرجولة، تخلى تماما عن أمر الصيحات، ليكتفي في زياراته الشهرية لمحل الحلاقة، بالتخفيف مما زاد من حَمْل رأسه؛ مُبدِيا رضاه عن ما يُسفر عنه الأمر من قصات “حَسْبِيَةٍ”.
وهكذا غدت زياراته لهذا المحل أشبه بطقس يؤديه كل شهر بانتظام. وفيه يُسْلِمُ نفسه لأنامل المعلم دون أن يَنْبِسَ بِبِنْتِ شَفَة؛ فالرجلان لم يكونا بحاجة إلى الكلام؛ فقد كان كل منهما يعرف ما له وما عليه عن ظهر قلب؛ في علاقة تمتد لأزيد من عقدين.
وبعيدا عن أمر قص الشعر وصيحاته، وجب التذكير بما كان يجده صديقنا من راحة في اقتعاده كرسي الحلاق هذا، لدرجة احتال فيها مرارا على اكتمال عملية نمو شعره تلك؛ مُستعجلا أمر القص ومبادرا إليه. فعلى هذا الكرسي كان يحظى بخدمة جميلة ورعاية لطيفة، لم يكن الزمان يجود عليه بمثلها في المواقع والأماكن المختلفة التي كان يرتادها.
لقد مثل زمن الحلاقة بالنسبة إليه، فرصةً لتذَوُّقِ بعضٍ مما يتنعّمُ فيه عِلْيَةُ القوم والمحظوظون في مجتمعنا. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان يرى في ذلك الكرسي العجيب آلة للسفر في الزمان؛ إذ يُمَكِّنُه من التنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل بكل حرية ويسر؛ مُتخَطِّيا في ذلك قوانين الطبيعة وسننها. وهو غير هذا، مَركبةٌ خارقة تتحطم عليها قوانين الجغرافيا وإحداثياتها، لتُطوَى عبرها المسافات طيا؛ فلا الصين بعيدة، ولا مياه المحيطات مُعيقة للحركة أو مانعة إياها.
ولم يكن الأمر ليحتاج وقتا طويلا، حتى يدخل الرجل في غيبوبته اللذيذة، تلك التي لا يحتاج جسمه فيها إلى أن يُحْقَن بموادَّ مُخَدِّرَةٍ، أو أن يُوصَلَ بأسلاك وأنابيب تمده بالغذاء والهواء. فيكفي أن تُلامِس أدوات الحلاق وأنامله شعر رأسه ليغيب عن الوعي، ويسرح في ملكوت الله.
كما لم يُكلف نفسه يوما الإعداد القبلي لرحلته تلك، ولا رسم مسارها. فقد تعلم أن ينقاد ويستمتع بما ستقوده إليه غفوته الرائعة على كرسي الحلاق. ثم لماذا يفعل، مادامت كل المسارات والمواقع ستقوده بعيدا عن واقعه البئيس.
لقد كان يقضي في سفره ذاك أجمل اللحظات؛ مُستمتعا فيها بأحلى الفضاءات وأنظفها؛ حيث الناس غير الناس، والأرض غير الأرض التي يعرفها؛ تلك التي أنهكته بالحاجة والخذلان. يسترخي طويلا، فيتخلص جسمه من الأثقال والقيود التي تُرهقه؛ ليغدو أشبه بقشة تحركها الرياح بعيدا؛ ذات اليمين وذات الشمال.
وكان يحدث أن تعود الرياح بالقشة إلى حيه ومدينته، فيُحلِّق فوقها؛ مُشفقا لحال البلاد والعباد، وداعيا الله بأن يخفف من معاناة هؤلاء وأولئك، ويمنحهم فرصة كالتي مُنِح إياها، لينعم الجميع بجميل العيش وهنيئه.
ثم كان أن أنهى “المْعَلّْمْ” مهمته بأن رش بعض العطر على زبونه، مُعلنا نهاية الرحلة والعودة إلى مُنطلَقِها؛ على أن يتجدد الحلم والموعد بعد شهر من تاريخه. هنا التقت عينا الأب وابنه لترتسم على شفتيهما ابتسامة جميلة؛ زاد عليها الأب بأن همس لولده بكلمة “ديغرديه”.
……………
-كاتب من المغرب