أحـمد عبد الرحـيم
بطاقة الفيلم: درس خصوصى (2005)
قصة: أحمد عبد العاطي
سيناريو وحوار: خالد جمال
بطولة: محمد عطية – هنا شيحة – حسن حسنى – صلاح عبد الله – هالة فاخر – شريف سلامة – سليمان عيد – حجاج عبد العظيم – شريف حمدى – نرمين ماهر – الفت سكر – متولى علوان
نيجاتيف: نيرفانا حسن
مهندس الديكور وستايلست: إسلام يوسف
موسيقى تصويرية: نادر حمدى
المؤثرات البصرية وتتر المقدمة: محمد السلامونى
مهندس الصوت: جمعة عبد اللطيف
مهندس تسجيل الحوار: ياسر فوزى
مساعد مخرج أول: لمياء عادل
مديرو الإنتاج: جورج غطاس – أحمد ماهر – عمر حنفى
منتج فنى: مجدى نور
مونتاچ: دعاء فاضل
مدير التصوير: محمد شفيق
اخراج: سامح عبد العزيز
انتاج: الباتروس (كامل أبو على) – فيردي
توزيع داخلى: الأخوة المتحدى للسينما
توزيع خارجى: روتانا
مدة العرض: 100 دقيقة
الحالة اللونية: أبيض وأسود – ألوان
ملخص الفيلم:
1951: (خصوصى أبو العلا) مدرس شاب متزوج يعيش مع زوجته وأولاده الثلاثة وأبيه بفيلا بالقاهرة. يشجّعه أبوه على الخروج فى مظاهرة ضد الاحتلال الإنجليزى حيث يتم اتهامه ظلمًا بقتل عسكرى إنجليزى. يقوم مجموعه من الشباب الوطنى بتهريبه فى سفينة متجهه نحو المحيط الأطلنطى. فى مثلث برمودا، يخترق (خصوصى) الزمن ليجد نفسه فى عام 2005 على سطح سفينة مصرية متجهة إلى سفاجا. لا يصدق قصته إلا طبيبة السفينة (جميلة). يهرب (خصوصى) من السفينة إلى أحد الفنادق السياحية حيث يُفاجأ بالتقدم الحضارى. بعد إنقاذه لـ(جميلة) من معاكسات القبطان المتصابى يتم القبض عليه. تدفع (جميلة) الكفالة وتصارحه بحقيقة كونه فى زمن أحدث من زمنه. تذهب (جميلة) إلى مقابلة أولاده الثلاثة (شحاتة – حسنية – صلاح) فى القاهرة لتجدهم يعيشون فى فيلا جدهم، فى حالة متواضعة، كارهين بعضهم البعض. يقابل الأولاد الثلاثة أباهم القادم من خمسينيات القرن السابق ليجدوه فى عمر حفيده (تامر). يعود (خصوصى) إلى الفيلا، ليحاول أولاده إقناعه ببيعها بشتى الطرق (ايهامه بوجود أشباح، ايهامه أن المبنى ينهار..). يُصلح (خصوصى) حال أولاده وحفيده، ويتزوج جميلة، ويعيش الكل سعيدًا فى الفيلا بعد ترميمها.
التحليل:
فكرة الفيلم رائعة لعمل فانتازى جميل قد يحوى من الخيال ما يوازيه من النقد الاجتماعى من خلال إعادة قراءة واقعنا المعاصر بعين قادمة من قبل ثورة 1952، أو على الأقل لصياغة مفارقات كوميدية ما بين الزمنين. لكن المنتوج النهائى لم يلتفت لتحقيق البعد الأول، ولم ينجح حتى فى تقديم هذه المفارقات – كبضاعته الرئيسية – بشكل سينمائى ماهر.
الفكرة قريبة من رواية (حديث عيسى بن هشام) للكاتب (محمد المويلحى)، لكن الفيلم ككل كان أقرب لأفلام المقاولات فى الثمانينيات؛ حيث مختلف العناصر بعيدة عن الجودة، ومستوى الحرفة – إن وُجد – يعجز عن توظيف نفسه لخدمة الدراما، هذا إن وُجدت هى الأخرى!
فى الأساس هذا هو أول أفلام (محمد عطية) الفائز المصرى بأحدث موسم – وقتها – من النسخة العربية لبرنامج المسابقات الفنية (Star Academy) أو (أكاديمية النجم)، ويبدو الفيلم بأكمله مُصَمَّمًا لاستغلال شهرته المفاجئة والتربُّح منها، وإن يبدو أيضًا التسرع كالسمة الغالبة على الفيلم وكأنهم أرادوا صناعته بسرعة كافية قبل أفول نجم بطله. لذا لا توجد دراما جيدة، أو ربما دراما أصلًا، فى عمل مفكّك ملىء بالاستخفاف والاستسهال، وكأن السيناريو توقف نموه عند فكرته الموهوبة وحسب!
ينجح السيناريو فى تقديم جمل حوار على لسان شخصيته الأساسية (خصوصى) تتناسب وثقافة الفترة الزمنية القادم منها، أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، لنستمع إلى جمل من نوعية: “يا فابريكة الكراميلة”، “سيبت ايه لبتوع درب الهوى يا أفندى؟”، “ح أقرّطملكوا صوابعكوا”، لكن كان هذا أول وآخر ايجابيات السيناريو، ونقطة تمكنه الوحيدة، إذ إن قائمة أخطائه تطول، وتطول..
مثلًا، كيف صّدق أبناء (خصوصى) الثلاثة أن ذلك الشاب القادم من مثلث برمودا هو والدهم المفقود من خمسين عامًا بهذه السرعة؟! حتى مسألة إرجاعه لخاتم والده من العسكرى الإنجليزى لم يتم الاستفادة منها كبرهان على حقيقة شخصيته عام 2005، لتبدو مسألة الخاتم برمتها زائدة وبلا معنى، ناهيك أننا أصلًا لم نر هذا العسكرى الإنجليزى الذى تم اتهام (خصوصى) بقتله عام 1951؟!!، أو عدم استيعاب صناع العمل لماهيه شخصيتهم الرئيسية؛ فقد رأيناه فى مشهد فخورًا بضرب 38 عسكرى احتلال بالنبلة، ثم فى المشهد اللاحق مباشرة يحاول باستماتة بيع منشورات أبيه الوطنية ضد الإنجليز لمقلة اللب “ولو بنكلتين”؟! (هل هو وطنى أم لا؟!)، زائد فبركة سبب تافه ليخرج خصوصى بحجة ملكية البيت إلى الشارع (سواء كانت باسمه أو باسم أبيه؛ ما الذى سيستفيده من حملها وسط المظاهرة؟!)، وما سببه المقنع فى عدم بيع البيت غير أن المؤلف “عايز كده”؟، أو كيف استطاع إصلاح أحوال كل أولاده فى آخر 3 دقائق من الفيلم؟ّ وكيف تحوّل هؤلاء الأولاد من شخصيات مخادعة نصابة كارهه لبعضها إلى ناس “لطاف ظراف” فجأة قرب الختام؟؟ وبعد أن كانوا يدبرون خططًا قذرة، منها تحويل أبيهم إلى مدمن كوكايين، صاروا يتعاونون فى إصلاح البيت معًا فى حب، ويوزعون الحلوى على الأطفال مجانًا فى دروس خصوصية بأسعار رمزية للفقراء؟!!
وفى “دراما” مثل هذه، لن تسأل كثيرًا أسئلة من نوعية: لماذا (خصوصى) يذهب لشراء “لعب أطفال” لأولاده بعدما عرف أنهم قد تعدوا الخامسة والخمسين؟ بل من أين أتى بهذه النقود أصلًا؟!، لماذا لم يسأل عن مصير زوجته؟ أو يحزن لوفاتها؟ (فى الوقت الذى يهتم فيه لغياب أبيه وجرامافونه!)، وكيف يريد (خصوصى) دخول فيلم (الوردة البيضا) لمرة ثانية عام 1951 وذلك الفيلم مُنتج عام 1933؟!
وإذا ما كانت كثرة المصادفات دليل ضعف فيلم فـ”خد عندك”: بعد لقاء (خصوصى) بجميلة على سطح السفينة المصرية يهرب قفزًا فى مياه البحر الأحمر ليقابل (جميلة) نفسها فى الفندق الذى دخله مصادفة بسفاجا! خلال هروبه من السفينة تقع منه صورته مع أولاده من عام 1951 لتراها (جميلة) مصادفة؟ غير مصادفة وجود صاحب الجاليرى فى فندق سفاجا، وهو من سيذهب إليه (خصوصى) لاحقًا لبيع لوحة حفيده! أو تواجد (سلمى)، الفتاة المتيمة جنسيًا بـ(خصوصى)، فى الفندق ذاته بسفاجا، ثم تواجدها فى الحفلة التى سيذهب إليها مع حفيده بالقاهرة.. إلخ.
فى النصف الثانى من الفيلم تعلو نبرة العبث والتلفيق أكثر، فنحن نرى (خصوصى) فى حفلة راقصة معاصرة ليتناول المخدرات “غصبًا” لا لشىء سوى أن يغنى أغنية مسطولة وهو مسطول وسط مساطيل! فى الواقع إن المشهد هو ذروة مأساة شخصية كـ(خصوصى) فى عمق مرارة اغترابه عن الزمان والمكان الذى وجد نفسه فيه، لكن انفصال الموقف عن بقية ما عداه، إلى جانب التعامل معه بتصوير سطحه البارد فقط، والوقوف عند جانبه المثير؛ كل هذا موَّع مذاق اللحظة، إن لم يضيِّعها. لقد كان من الممكن استغلال الموقف بذكاء كمفارقة مريرة ما بين جيل مكافح شاعرى (من عام 1951)، وجيل ضائع مخدَّر (من عام 2005) لكن كل ما فعله الفيلم هو الاستغراق فى هذا التخدير نفسه، واستثمار الموقف لإنتاج أغنية فيديو كليب مثيرة تروِّج للفيلم تجاريًا عند عرضها فى القنوات الغنائية، تمامًا كالمشهد الذى يجد (خصوصى) نفسه فيه وسط أحد شواطئ سفاجا (التصوير الفعلى كان فى شرم الشيخ والغردقة) ليتفرّغ الفيلم لتصويره يرقص سعيدًا مع مجموعة من السائحات يرتدين البيكينى.
هذه المفارقة المريرة تلمحها مجددًا عند التركيز على خبر إصدار دستور جديد فى جرائد ما قبل الثورة (الظاهر بعضها، مع صور قديمة لمصر من الفترة نفسها، ضمن لقطات تتر البداية)، وتعديلات دستورية أكثر خطورة – خارج الدراما – فى زمن الفيلم المعاصر ووقت صناعته (2005). ولكن واضح أن صنّاع الفيلم لم يريدوا الاهتمام بهذه المفارقه أصلًا، ليبدو هذا التركيز فى البداية مصادفة بلا معنى، أو اختيار عشوائى ليس إلا!
باستثناء خفة حركة (محمد عطية) وبهلوانيته لن تجد الكثير الطيّب الذى تقوله عن الأداء التمثيلى فى هذا الفيلم. فقد كان أمرًا مؤلمًا أن تتابع ثلاثة من نجوم الكوميديا (حسن حسنى، وصلاح عبد الله، وهالة فاخر) فى أداء مسرحى زاعق بالكامل، يتراشقون فيه بإفيهات لفظية شديدة السخافة. كما بدت (هنا شيحة) مُستَنزَفة بعيدًا عن دور متماسك فى دراما تقول شيئًا، هذا غير كونها فى وقتها (2005) فى مرحلة حمل؛ مما جعل حجمها فى بعض مشاهد (كمشهد عبورها للشارع القاهرى مع خصوصى) ضعف حجم شريكها النحيف فى البطولة؛ وهى مفارقة بصرية لم تكن فى صالح أحد.
جاء ديكور (إسلام يوسف) بسيطًا فى غير تميّز، تنفيذيًا بلا عمق، فالفيلا، أو مكتب القبطان، أو منزل جميلة؛ كلها مجرد ديكورات تؤدى الغرض منها بدون إبداع ملموس يقوم – مثلًا – باستغلال المساحات داخل الفيلا لإبراز حالة الشتات التى تفرّق بين الإخوة فيها، أو تنويع الإكسسوارات لصياغة تناقض ما بين ثراء وفخامة ماضى (1951)، وفقر وتهاوى حاضر (2005)، أو كى يبدو مكتب القبطان عشوائيًا وصاخبًا كشخصيته.. أى شىء من هذا القبيل.
ينجح مونتاچ (دعاء فضل) فى لمِّ شتات الفيلم، واستطاع تقديم مشاهد مرحة الحسّ. لكن رتابة الإيقاع التمثيلى، وركود الدراما فى سيناريو منصرف عن حشد ذاته أو تعزيز قوة اقناعه، فضلًا عن ثبات بعض المشاهد و”مسرحية” إخراجها، مع بعض الملل على شريط الصوت أيضًا—كلها كانت عناصر جعلت الفيلم يبدو مترهلًا بالتهريج، وغير مقنعًا، كاسكتشات ملفقة، ورديئة.
المخرج (سامح عبد العزيز) قادم من عالم التليفزيون كمخرج برامج وفيديو كليب. فى عمله السينمائى الأول هذا لا يستطيع أن يقدم عملًا متكاملًا، أو نقدًا اجتماعيًا محكمًا، أو حتى اسكتشات قوية مترابطة. ووسط هذا العالم المضطرب، يتم الإفراط فى استخدام التعتيم التدريجى بـ”لازمة ومن غير لازمة”، مع تقديم إخراج مسرحى للمشاهد الحوارية المتعددة ما بين الأبناء الثلاثة؛ ربما كى يرتجلوا بحريّة، أو يفعلوا ما يشاءون لإضحاك الجمهور وهم واقفون فى جمود داخل كادر ثابت للقطات مُطوَّلة. لتصل بعض الكادرات إلى أن تتشابه وكادرات بنفس البدائية فى أفلام توجو مزراحى لعلى الكسار منذ 60 عامًا ويزيد.. والفرق الوحيد أن هذه المشاهد الأحدث ملونة وأقل جودة ككوميديا من مثيلاتها.
تم تصوير الجزء الأول، الخاص بأحداث القاهرة عام 1951، بالأبيض والأسود، لكن على نحو بعيد كل البعد عن إظهار بُعد جمالى لهذه الفترة يتناقض وحالة المدينة ذاتها بعد 54 عام، أو حتى لتوجيه تحية لعمالقة فن التصوير السينمائى المصرى فى هذه الفترة مثلًا، وإن كان (سامح عبد العزيز) ينجح تكنيكيًا فى تقديم بعض مشاهد كتتابع المظاهرة، أو لحظة صدمة (خصوصى) أنه فى عام 2005 وسط جو كابوسى يُلِّح على مواجهته بحقيقة عاجزعن فهمها أو تحمًُّلها، كذا تتابعات الفيديو كليب (تخصصه الأساسى سابقًا) وذلك فى أغنية (نهارك سعيد) حيث تعلو المحاكاة الساخرة من الأفلام المصرية القديمة، وعند ظهور عمّال التصوير فيها أيضًا تصبح سخرية من فن السينما ذاته. لكن يظل إحساسك أن التهكم على سذاجات مضت فى فيلم متهالك يحوى سذاجات مشابهة أمر يسمم استمتاعك بهذا التتابع الذى يُراجع فى ضمير لاذع أخطاء الماضى، ولم يكن بهذا الصدق فى مراجعة أخطائه هو شخصيًا! فى أغنية (الدورة الدموية) يُعبِّر المخرج عن منطق أيامنا المقلوبة بقلب الشخصية رأسًا على عقب، لكن – مثلًا – تتابع شراء (خصوصى) لملابس عصرية، والمُنفَّذ بتكنيك الفيديو كليب والأقوى تكنيكيًا من مشاهد أخرى، يمكن حذفه بالكامل بدون أن يتأثر الفيلم سلبيًا، وهو ما يمكن قوله عن تتابع حديقة الحيوان أيضًا. فى أغنية الختام (حوالين بعضنا)، ينجح المخرج فى تقديم صورة قوية لتحولات هذه العائلة نحو الأفضل، لكنه عجز من قبلها فى تحقيقها دراميًا من الأصل، مما أضعف الانفعال بها، ورسّخ المفارقة ما بين قوتها وضعف فيلم بأكمله من ورائها.
بعيدًا عن الكادرات الثابتة للمشاهد الحوارية، يقوم المخرج بتحريك الكاميرا على نحو شديد السذاجة أحيانًا؛ وكنموذج مثالى لذلك تابع مشهد المواجهة الطويل فى النهاية ما بين (خصوصى) وأولاده، والذى يتم تلخيص كل شىء فيه: الصراع وتحوّل الشخصيات والمقولة الأساسية للفيلم، كما هى العادة فى أقدم وأضعف الأفلام المصرية، لنراه شبه مُنفَّذ بالكامل فى شاريوه دائرى حول الأب وأولاده وحفيده، لتتكرّر الحركة نفسها، المرّة تلو المرّة تلو المرّة، لدرجة أنه عندما ينتهى (خصوصى) من “محاضرته” ليحتضنه أولاده؛ نكون كمشاهدين قد أُصبنا بدوار البحر!
كذا لم أفهم لماذا حين يطمئن (خصوصى) لزواج ابنته (حسنية) من المدرّس، يبدأ المخرج ذلك المشهد بتصوير طائرة تعبر السماء من زاوية تحتية تبرز (خصوصى) أسفلها يزفر فى راحة لأنه “خلص من همّها أخيرًا”؟! بهذا الشكل، أكّدت اللقطة للمشاهدين أنها قد تزوجت، وسافرت مع زوجها المدرّس بالفعل، لكننا نفاجأ بعدها أنها لا تزال تعيش معه فى البيت، بل أن هذا المدرّس لم يتقدم لخطبتها بعد! إذًا ما لزومية لقطة هذه الطائرة؟! لذا لا داعى للحديث عن أخطاء مثل الصورة المُلتقَطَة لخصوصى وأولاده من عام 1951، وكيف أن خلفيتها ممسوحة بالجرافيك كما تقنيات الصور الشخصية فى عام 2005! أو البحث عن سبب ظهور الأولاد الثلاثة فجأة بملابس البحارة على النيل فى مشهد التآمر؟ أو كيف تم اختزال الفترة الزمنية بين 1951 و2005 عبر تتالى صور سريعة لنجوم سينما الخمسينيات فقط؟! بل كيف بدا الجرافيك فى نفس هذا المشهد رديئًا واضح الاصطناع!!
إنه فيلم فقير الفكر.. فقير الإبهار.. فلماذا لا يكون فقير الصوت؟!
أولًا، الموسيقى:
فى البدء لا يمكن إنكار موهبة (نادر حمدى) فى تأليف موسيقى تتميّز بالطرافة والأناقة، وهى العناصر التى لم نرها من قصة مُجهَضة وكوميديا مفتعلة، لتبدو الموسيقى من أمهر العناصر المستخدمة، وأكثرها كمالا. فاللحن الأساسى، المقَّدم فى تتر البداية والمستخدم طوال الوقت، معزوفًا فى خفة بالإكسليفون والفلوت، يعبِّر عن طفولية البطل وبراءة الجو (لاسيما مع لقطات لمصر ما قبل 1951)، ثم يُعارض هذا خلفية موسيقية على الوتريات وآلات النفخ تضع هذه الخفة فى إطار متوتر يُرهِص بخطر؛ لتتجسد أمامنا – صوتيًا – قصة (خصوصى) البسيط الذى سيواجه ظروفًا غير بسيطة، ويتطوّر اللحن فى عنف أشبه بالمشاحنة ما بين النبرتين اللتين تعلوان؛ دليلًا على صعوبة ما ستلاقيه شخصية البطل وسط تعقيدات تحاصره، فى انتهاء أشبه بمقطوعات الجاز الصاخبة من الفترة الزمنية ذاتها، مع دقة إكسليفون أخيرة لامعة رغم خفوتها؛ وكأن (خصوصى) سينتصر بقوته المفردة فى النهاية، ويبقى بعد زوال كل هذا الصخب. لقد لخّص هذا اللحن الجميل الذكى دراما الفيلم، وأظهر روحه كعمل هزلى ترفيهى بالأساس، وإن كان قد عانى أمرين:
الأول، أنه هذه الموسيقى – رغم جودتها – كانت غربيِّة بالكامل، بدون استخدام أى آلة شرقية. إنها ليست جريمة، ولكن عند التعبير عن شخصية قادمة من مرحلة كانت مصر فيها تحاول تأكيد شخصيتها بكل الطرق، ومحاربة الغزو بكل أنواعه، مع الاستفادة الذكية من قيم الغرب المتطور؛ ستشعر بنقصان ما. حيث لم تُحاول الموسيقى الالتفات إلى مسألة تحوّل الثقافة المصرية فى العقد الخامس من القرن العشرين، بعد محاولات النهضة الفكرية والتنوير الثقافى، إلى ثقافة أخرى فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين تعيش على النهل من أرخص عناصر الثقافة الغربية، الأمريكية عادة، وأكثرها سطحية بعيدًا عن أى ملمح للهوية المصرية. لقد كان ممكنًا استخدام هذه المفارقة لإظهار اغتراب (خصوصى) من ناحية، وهذا التحوّل السلبى من ناحية أخرى، خاصة مع عدم تصديقه فى البداية أن سفاجا المليئة بالأجانب، وموسيقى الراب، هى جزء من مصر المحروسة! لكن يبدو عدم انتباه صنّاع الفيلم لمفارقة ما مثل هذه، أو لعلهم جزءًا متأثرًا بهذه الثقافة نفسها، وهو ما أبعد محاولة تأصيل شخصية (خصوصى)، أو تأكيد ملامح زمنه ضد ملامح زمن يكاد يكون عكسه تمامًا، أو أدنى منه ثقافيًا، ومنسلخًا عن هويته الوطنية إلى هذه الدرجة.
صحيح أن هذا لا يقلِّل من جمال الموسيقى التصويرية، لكن الأمر الثانى ينجح فى ذلك. حيث ستشهد حالة من الزهد إما فى توزيع هذا اللحن الأساسى ليناسب طبيعة المشاهد المختلفة، وإما فى طبيعة الأسلوب الذى اسْتُخدمت به. مثلًا: يتم وضع اللحن الأساسى المميز لشخصية (خصوصى) على خلفية مشهد عرض المعلومات عنه للقبطان ككائن غريب تم العثور عليه فى صندوق بالبحر. ثم نسمع هذا اللحن نفسه مرة أخرى، بتوزيع أكثر حزنًا بالتشيللو العميق، عند خروج (خصوصى) من مياه البحر الأحمر تائهًا ضائعًا. ثم توزيعه على نحو مرح خلال مشاكسات (خصوصى) لصاحب الجاليرى بالفندق. بعد هذه الإستعمالات، لا نسمع هذا اللحن مرة أخرى!
لا شك أن استخدام الموسيقى التصويرية عانى من بدائية واضحة، إذ إن صوتها الخافت مع الزهد فى استثمارها لم يكن سوى جزء من مسرحية الحالة؛ حيث يمتلك الأداء الكوميدى عالى الصوت، مُبالِغ الحركات، نصيب الأسد من التركيز. لذا ستجد الموسيقى عمومًا إما غائبة عن توطيد الحالة الكوميدية سينمائيًا، لاسيما مع هزلية الحدوتة وكارتونية (عطية)، وإما مُستخدمة فى بخل شديد يضعها فى بداية مشهد أو نهاية آخر، ربما حتى لا تشوِّش على حوارات الشخصيات، أو دعنا نَقُلْ إفيهاتهم!
تشهد هذا بوضوح فى مشاهد مثل: مشاهد القبطان مع (خصوصى)، أو (جميلة)، خاصة فى لقاءه الأول بـ(خصوصى) حيث يتم إفراد المشهد صوتيًا لممثل شخصية القبطان (حجاج عبد العظيم) كى يؤدى بشكل مسرحى زاعق إفيهات من نوعية: “أنا اللى علّمت السمك يعوم فى المية!”، “أنا أصلًا قبل ما أكون قبطان كنت بأبيع شماسى ع البلاج!”.. إلى آخر ما صاغ حالة مسرحية حقًا. كذا فى مشهد اجتماع الإخوة مع المحامى، بل ربما كل مشاهدهم معًا؛ فإذا كانت الموسيقى لا لزوم لها فى حال وجود كوميديان واحد، فما بالك بتواجد 3؟!
وتنعدم الموسيقى تمامًا فى مشاهد أخرى مثل: مشهد الجاليرى، حيث الجو صامت تمامًا حتى مع الموقف الكوميدى عند شك صاحب المكان أنه رأى (خصوصى) من قبل، وعند دخول الإخوة للفندق الفخم، تختفى أى موسيقى تعبِّر عن ذهولهم أمام فخفخة ليسوا معتادين عليها، أو تنبع من قلب المكان ذاته كمشاهد تحاور الإخوة، ومشاهد تحاور الجد الشاب مع حفيده. باختصار، هذا الفراغ الصوتى كان عامل فقر ضرب جزءًا لا بأس به من جاذبية الفيلم، إلى جانب صياغته لحالة ملل عام فى عمل يُفترض أنه كوميدى.
بقية الموسيقى إما جاءت مقتضبة، فى مشاهد مثل: دخول (خصوصى) للغداء لأول مرة مع أولاده عقب عودته من سفاجا، وعند ذهابه لخطبة (جميلة)، ومثلًا حين مواجهة الأبناء بأبيهم المفقود لأول مرة لا توجد أى موسيقى أو مؤثرات لتجسيم أهمية اللحظة، اللهم إلا لحنًا شديد الاختزال قرب ختام المشهد لم ينجح فى تعويض ضعف الأداء التمثيلى فى هذا المشهد الأساسى، ناهيك عن ضعف كتابته أصلًا.
وإما جاءت الموسيقى مبتذلة لتكرار الاستهلاك، كموسيقى التوتر التى اسْتُخْدِمَت بدون أى تغيير لأكثر من مرة على طريقة المسلسلات التليفزيونية ومللها الفعّال فى لحظات مثل: رؤية (جميلة) صورة (خصوصى) مع أولاده، ختام مشهد تعارك الإخوة مع المحامى، اكتشاف (خصوصى) خدعة خرطوم المياه وكذبة انهيار الفيلا..
وإن كانت هناك نقاط ايجابية موسيقيًا تُحسب للفيلم:
– عبَّرت الثيمة الموسيقية الهادئة، المعزوفة بفلوت رقيق وكمان مبتهج، عن العلاقة الرومانسية ما بين (خصوصى) و(جميلة) عند نشرها على خلفية مشاهدهما (على سطح اللانش، وعند تجوّلهما فى القاهرة المعاصرة..)، وكانت أحسن حظًا من هذه الخاصة بشخصيته، وإن تعارضت مع دخول موسيقى أغنية (نهارك سعيد) بنهاية مشهد اللانش فى تنافر غير جمالى.
– عند حكايات الأب القعيد لابنه (خصوصى) عن الأمجاد الوطنية للعائلة، مثّلت الموسيقى الجادة والحزينة بالترومبيت مفارقة هزلية مع استخفاف (خصوصى) بالكلام. الأمر نفسه يتكرّر – لكن بشكل عكسى – عند وضع إيقاع راقص (بالدرامز) فى خلفية مشهد المظاهرة؛ حيث الأمر كله مجرد لعبة لـ(خصوصى) الذى يمشى متراقصًا فى استهتار، والخارج أساسًا للتربُّح من بيع المنشورات كقراطيس لب!
– عند انتهاز الحفيد (تامر) فرصة لقاء (سلمى) فى حجرتها بدلًا من جده يعلو الكلارينيت فى جملة رائقة.
– عند محاولة إيهام (خصوصى) بوجود أشباح، ثم رده بتمثيل دور الشبح على أولاده، نستمع لمقطوعة التوتر المكرّرة ذاتها، لكن مع آلات نفخ تدعمها لتعزيز رعب اللحظة.
– فى فوتومونتاچ تحوُّل شخصية (شحاتة) للطيبة مع تلاميذه، نستمع إلى فلوت ووتريات مبدعين.
– عند اكتمال تحوّل (خصوصى) شكلًا لمظهر يُناسب 2005، بعد شرائه الملابس العصرية، نسمع صوت ختام مقطوعة جاز ساخنة لإظهار تحوّله العبثى السريع إلى عكس ما عاشه طوال عمره سابقًا.
ثانيًا، الأغانى:
حقّقت (نهارك سعيد) مرادها كحلم رومانسى لـ(خصوصى) مُنطلق من إحساسه بزمنه، ومتماهٍ مع الثقافة السمعية والبصرية لشخصية عاشت مراهقتها وشبابها فى الأربعينيات من القرن الماضى، وكانت مُحكَمة فنيًا من حيث اختيار الألفاظ، أو آلات الموسيقى (الفلوت – الوتريات)، أو حتى الكورس، وعكست إيقاع الرومانسية فى زمن مضى. ونجحت (الدورة الدموية) على النقيض فى تجسيد الانحطاط الثقافى لمصر 2005، مع استعمال صوت زغطة (خصوصى) كإيقاع سكران للمرحلة بأكملها، وتجسيد فنى ماكر ليأس وترنح جيل. أما (حوالين بعضنا) فجاءت ساذجة مبتذلة، إلى جانب كونها تتكلم عن أهمية الوحدة؛ وهو أمر افتقدته دراما الفيلم ذاتها.
تم استخدام أغانى أجنبية فى براعة لتصوير اغتراب اللحظة، مع اختلاف الثقافة وغربيِّة الجو. مثلًا أغنية الراب (Mr. D.G)، عند رؤية (خصوصى) للسياح يرقصون على الشاطئ، وأغنية الراب (Put Your Hands Up)، عند اصطدام (خصوصى) بموضات ملابس 2005. ونجد أنه روعى فى الأغنيتين أن تحوى كل منهما آلة شرقية (الناى فى الأولى، والمزمار المصرى فى الثانية) ربما لتأكيد أننا أولًا وأخيرًا فى مصر، أو ما تبقى منها، حيث لا نستمع الآن للآلات الشرقية إلا كإفيه ضمن أغانى الغرب وحسب.
هناك أغنية أجنبية ثالثة عند الدخول للحفل الراقص الذى يحضره (خصوصى) مع حفيده، لكنها ضعيفة الصوت ومقتضبة تمامًا، مع غياب الحوار والمؤثرات اللذين كانا من البديهيى أن يجسِّدا صخب مكان كهذا
ثالثًا، المؤثرات:
بشكل عام، تنجح المؤثرات فى تجسيد ملامح كوميدية. لكنها تجىء إجمالًا فقيرة، ومملة لتكرارها، وغير متفرّدة.
ملامح إيجابية:
– عند حكى الجد لأمجاد العائلة، نستمع إلى تعليق ساخر بالمؤثرات على هذه القصص عن حصان عرابى، وسكين سليمان الحلبى (صهيل حصان – تحمية السكين).
– رمى القبطان للأسهم فاشلًا فى لعبة النيشان، ثم نجاح (خصوصى) فيها؛ وإن اسْتُعمِلَ المؤثر ذاته. هنا، فى مرة نادرة، الجو الكارتونى مُجسّد صوتيًا.
– استخدام طريف لمؤثر يُضخِّم صوت أقدام رجل مفتول العضلات يُهاجِم صاحب الجاليرى فى محل الأطفال.
– عرض موسيقى أغنية (نهارك سعيد) من خلال مؤثر صوتى جعلها أقرب لصوت أغنية خارجة من جرامافون قديم، تناغمًا مع التهكم المقصود على الجو العتيق لهذه النوعية من الأغانى والأفلام التى كانت تحويها.
– بدت المؤثرات ساذجة عند وضع صوت صرخات لطفل صغير فى خلفية مشهد الأشباح، لكنها حققت ظرفًا لاحقًا باستخدام عواء ذئاب، ومؤثر الصدى لكلام (خصوصى) عند لومه لأولاده، فضلًا عن صدى غريب لصوته يخيفه شخصيًا.
ملامح سلبية:
– المؤثرات فى الشارع القاهرى لعام 2005 كانت أفقر بكثير من تجسيد صدمة (خصوصى) القادم من أوائل الخمسينيات إلى عالم يعج بتلوث سمعى صارخ؛ حيث لم تزد على مجرد مؤثر كلاكسات بسيط، ومتكرِّر. ويتجاهل مهندس الصوت أمر عودة (خصوصى) من سفاجا فى ميكروباص، والذى كان يمكن استثماره لسماع نوعية الأغانى الشعبية الزاعقة المُميِّزة للفترة.
– مؤثر صوت الرعد أو الماس الكهربى كان وسيلة الفيلم الرئيسية، أو بالأحرى الوحيدة، لتجسيد رعب اللحظة، ومن ثم تكرّر فى جميع المشاهد المشيرة لعبور الزمن (مشهد مثلث برمودا، ومشهد تذكُّر القبطان لحادثة سفينه “درّة الموانى”، ومفاجأة خصوصى عند مواجهته أنه فى العام 2005، وعند رؤية جميلة لصورة خصوصى مع أطفاله..).
– المؤثِّر الصوتى للنبلة لم يكن سوى المؤثر نفسه طوال الفيلم سواء اختلفت الزاوية، أو كانت نبلة خصوصى الكبيرة، أو أستك (حسنية) وهى تشاكس أخاها (شحاتة) خلال مناقشته على سبورته “كيف يقنعون أباهم بالبيع”.
– تدخل (حسنية) فى أول مشاهدها بصحبة جهاز راديو تغلقه؛ بينما لم نسمع منه بشكل واضح ما الذى كان يذيعه!
– فى انبهار (خصوصى) باختراع التليفزيون، تم تجسيد تنوّع قنواته صوتيًا بشكل طيّب، لكنه لم يحاول خلق مفارقة كوميدية ما بين منطوق القنوات المختلفة وبعضها البعض، كسخرية منها، أو لاستغلال ضعف وعى (خصوصى) بعالمنا.
– افتقار مشهد حفلة الحفيد للمؤثرات.
– لا توجد مؤثرات على الإطلاق فى مشاهد تطلّبتها بقوة؛ كمشهد الإيهام بانهيار المنزل لغرقه فى النشع.
—————-
عيوب صوتية عامة:
يعلو صوت الخلفية فى مشاهد التصوير الخارجى بشكل عام؛ وهى ربما المشكلة الأزلية للسينما المصرية. أمثلة:
– يعلو صخب الفندق على صوت الأبناء الثلاثة عند دخولهم له لأول مرّة.
– يعلو صوت الشارع فى مشهد ذهاب (خصوصى) لخطبة (جميلة) بصحبة ابنه (شحاتة)، لنغرق ما بين نفير أوتوبيس، وكلاكسات سيارات.
كذا نلمح مشاكل أخرى مثل:
– سماع صوت فتح وإغلاق كلوب الإضاءة المتقطعة فى مشهد ايهام (خصوصى) بانهيار البيت.
– انقطاع صوت صاحب الجاليرى فجأة عند صياحه بسبب عدم قدرته على فتح باب غرفته بالفندق.
———————————-
للأسف كان صنّاع الفيلم، بصناعتهم لهذا الفيلم نفسه، جزءًا من السلبيات التى جاء (خصوصى) لينتقدها؛ غير منفصلين عن المناخ الردىء الذى رغبوا فى استعراض تشوهاته. وما يحزنك أننا أمام فكرة بارعة فى الأساس، لكن بدلًا من معالجتها، لتصبح ما هو جاد أو ما هو كوميدى، تم “شدّها” لتصبح فيلمًا، فإذا بها أخيرًا مجرد نكتة مرتجلة، طويلة وغير مضحكة، لتُقتَل هذه الفكرة البارعة.. ببراعة!