عبد الرحمن أقريش
هناك في قريتنا الصغيرة، تبدو مصائر البشر محسومة منذ البداية، تمشي إلى نهايتها، تبدو وكأنها لا تتغير أبدا، تحدث الأمور بحكم قانون غامض، والناس تخضع لسلطة ما، لقوة الأشياء، لقدر مكتوب، مسطر هناك في الأعلى.
أهي صدفة، أهي حتمية عمياء، لا أحد يعلم، ولكن الأمور تحدث هكذا، والناس تعيش حياتها راضية مع ذلك، فالقوانين الغامضة عادة لا تتغير.
لم يكن (خوسا) يرغب في الزواج، فوضعه الصحي لا يسمح له بذلك، هو يعرف نفسه جيدا، يعرف أن شيئا ما ولد ميتا بداخله، ففي قريتنا الأصحاء وحدهم يتزوجون وينجبون، أما المرضى فعادة ينتظرون فقط، ينتظرون الموت.
اكتشف (خوسا) متأخرا أنه مريض بفقر الدم، وكان ذلك سببا في انسحابه من الحياة، امتص المرض رحيقه وتركه جسدا متيبسا وبدون روح، فكان يبدو مثل شبح خرج توا من قبره، لسنوات كانت الحياة تمضي، تهرب، تنفلت من بين يديه، ولسنوات اكتفى هو بالتفرج عليها من الخارج، يرى الناس يتزوجون، وينجبون الأطفال، يشتغلون، يكبرون، يشيخون، وفي النهاية يموتون.
كان كمن يشاهد دراما تلفزيونية بلغة أجنبية غريبة، يتأثر، ينفعل، يتفاعل مع المواقف، يبكي، يفرح، يحزن، ولكنه في الأخير ينسحب، يتراجع، يعود لقوقعته، وينصت لعظامه وهي تتآكل بفعل المرض.
ثم ذات يوم، قرر الكبار أن يزوجوه.
في البداية، بدا زواجه أمرا غريبا، متناقضا ومستعصيا، فزوجته المنتظرة (فاطمة) فتاة جميلة، جميلة جدا، قوية، مفعمة بالحياة وفي قمة العنفوان، وعلى عكسه هو، كانت هي تحلم بزوج يغدق عليها الحنان، ويصب عليها الحب صبا، زوج يطفئ لهيب الجدوة المشتعلة بداخلها.
ونحن عائدون من الجامع، كنا نسمع صوتها يتردد في الغابة، تغني مواويل شبقية مثيرة، مواويل تنضح بالحياة والشهوة.
– تزوج ماكالها ليا…!!
– حالفة حتى نبالي به…!!
– أنا لي عطيتو شعري حتى…!!
– أنا لي عطيتو صدري حتى …!!
– أنا لي عطيتو…!!
– حالفة حتى نبالي به..!!
كانت (فاطمة) تحلم بالرجال، وطبعا كانت هي حاضرة في أحلام الرجال، الجميع يتمناها، البعض يشتهيها، البعض يتمناها في سريرته، ويخوض في سيرتها أمام أهل القرية، في نوع التقوى والورع المزيف.
عندما علمت (فاطمة) بصفقة الزواج بين العائلتين، رفضت بقوة، ف(خوسا) هو آخر من تفكر فيه زوجا لها، لم تتردد في ان تبعث إليه من يخبره أنها لا تحبه ولا ترغب فيه، بل هددت الجميع بالإقدام على فعل قاس ومتهور، كانت حزينة وغاضبة جدا، اعتكفت في غرفتها لأيام، وامتنعت عن الأكل والشرب.
ولكنها في النهاية استسلمت.
…
كان زواج (خوسا) حدثا بكل المقاييس، إذ لأول مرة يصبح (خوسا) موضوعا للغيرة والحسد، عوض الرثاء والشفقة من طرف شباب القرية.
أقيم العرس بمواصفات العائلات الكبيرة، ولائم، وموائد في منتهى الكرم على شرف المدعوين، خيل، تبوريدة، احتفال، رقص وشيخات حتى الخيوط الأولى للفجر…
…
تسلل (خوسا) إلى غرفة العروس خائفا، مترددا، لم يجرؤ على إشعال الشموع المنتصبة على الشمعدان، انتظر حتى استأنست عيناه بالظلام، صعد إلى السرير العالي، تردد كثيرا، قبل أن يدس جسمه النحيل في الفراش، كانت أنفاس (فاطمة) منتظمة وحارة، وعبق جسدها المحموم يملأ المكان، استجمع قوته، مد يده المرتعشة، تردد كثير، ثم أخيرا سحبها…
…
في الليلة الثانية، قرر (خوسا) أن يكسر حاجز الخوف بداخله، استحضر نظرة الشفقة في عيون والدته، استحضر كل الكلام القاسي والتعليقات الساخرة، استحضر بالخصوص قاموس الشماتة الذي سمعه من والده وإخوته الكبار، مد يده…
لكن (فاطمة) صدته بقوة، كان كلامها صارما.
– إياك أن تقترب مني!!
مر أسبوع، أسبوعان، دون أن ينجح (خوسا) في الاقتراب من (فاطمة).
ثم ذات صباح يوم جميل ومشمس، قررت الأسرة السفر لزيارة الأهل في المدينة، كانت الزيارة مجرد حيلة، ذريعة تفسح المجال للعروسين.
اقترب (خوسا) من (فاطمة)، استجمع قوته، قال كلاما يجمع بين التهديد والاستعطاف، استمهلته بإشارة من يدها، خرجت مسرعة للحظات، ثم عادت، أقفلت باب البيت بإحكام، توجهت نحوه بخطوات مصممة، ثم بدأت في ضربه بقضيب من شجرة الدفلى، كان يتلوى ويصرخ من الألم، وفي كل مرة يتلاشى القضيب كانت تعوضه بآخر، انخرطت في نوبة من العنف المجنون والقاسي، كانت يده اليمنى تتصدى للضربات، ويده اليسرى على فمه، ترسم شكل الاستعطاف على طريقة الأطفال الصغار وهم يستعطفون الفقيه القاسي…
لم يتحمل جسده المريض ضرباتها القوية، ضربته بقسوة، بعنف، ضربته دون أن تنظر إليه.
انهار (خوسا) فقد وعيه، اقتربت منه، تحسست أنفاسه، تيقنت أنه ما يزال حيا، جمعت أغراضها وغادرت البيت بهدوء.