الأحزانُ لا تدومُ إلى الأبد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

فتحتُ عينيَّ على وجه عابس..

أبي قاعد يتثاءب في كسل. متثاقلاً قام من مكانه، أطلَّ من النافذة وقال:” حياتي مليئةٌ بالثقوب..”. ضحكتُ وأخفيتُ ضحكتي حتى لا يراني.. تخيلتُ الحياةَ على شكل قربة بها ثقوب والماء يتسرب منها. قال دون أن يحول نظره عن النافذة:” الأحزان لا تدوم إلى الأبد..”، وصمتَ. ظللنا كلانا صامتين للحظة..

تناهت إلينا أصواتٌ تقترب، كانت أصواتاً موحشة.. تَبَيَّنَا منها صوتَيْ أمي وأختي.. أقول تبينتُ منها صوتيْ أمي وأختي.. لأن أبي كان ما يزال واقفاً عند النافذة وكأنه لم يسمع صوتَيْهما. أقبلت أمي حاسرة الرأس، حافية القدمين، وجهها يُوحي بالخوف والفزع، وقفتا أمامنا.. قالت أمي:” أبوك..”. ألتفتُّ صوب أبي. النافذة شبه مواربة وريحٌ خفيفة تلاعبُ الستارة وأبي غير موجود. أبي الذي كان قبل لحظة واقفاً إلى جانب النافذة وصدى صوته يصلني مردداً:” الأحزان لا تدوم إلى الأبد..”. لو لم يكن للنافذة شباك لقلتُ:”…” ماذا عساي أقول، أقول نَطَّ من النافذة أو بتعبير أدق ألقى جسده خارج الغرفة..  لا أبي لم يفعل ذلك. أبي الذي كان كل لحظة وحين يردد:” الأحزان لا تدوم إلى الأبد”، كلازمة.. كيف لمن يؤمن بأن الأحزان لا تدوم أن يغادر بهذه الطريقة ويتركَ أهله في دوامة أحزان.

أمي معتكرة المزاج، سريعة الاهتياج، لم تتوقف عن تكرار” أبوك.. أبوك”. وددتُ أن أقول لها كُفّي عن الصراخ ها هو ذا واقف أمامك. التفتُّ إلى حيث كان قبل حين واقفاً صدمني الفراغ. فركتُ عينيَّ أغمضتهما للحظة وفتحتهما لا أثر لأبي. هممتُ أن أقول لهما أبي كان هنا قبل حين كان واقفاً عند النافذة.. كان يحدثني عن الأحزان التي لا تدوم.. عن الحياة الملأى بالثقوب.. كيف أقنعهما..

تقف أختي في وجه أمي محاولة أن تثنيها عن الصراخ.. تتشبث أمي بعنادها، يزداد بكاؤها، تلطم وجنتيها.. بدورها أختي تبكي وتكلم أمي. تتوسل إليها أن تكف عن الصراخ، لم تحدث كلماتها وتوسلاتها أثراً في نفسية أمي..

ألتفتُ صوب صورة أبي في الإطار المعلق على الجدار.. أحدِّقُ فيها..  جبينٌ متغضن وغمامة وجفنان متهدلان.. نظراته تفيض تعبيراً عن حزن دفين.. كيف استوطن الحزن في نظراته.. كيف جَفَّ نبع الحب الذي كان يروي قلبه ويغرس فيه الفرح والحب تجاهنا.. ويغمرنا بحنان جارفٍ يغرقنا في لجاجه..

قعدتْ أمي تنتظر خروجه من الإطار.. حدجنا بنظرة مستنكرة.. نهشتنا نظراته.. أصاخ بسمعه مستطلعاً حشرجة أمي.. أومأ بإشارة من رأسه أن تصمت وتكفَّ عن البكاء..

تبَدّدَتْ فرحة أمي.. تبددت فرحتُنا.. علا لغطُها. أدار أبي وجهه نحونا وقال:” كفوا عن الصراخ والبكاء”. عضَّت أمي يدها حتى تكتم صرختها لكن الدموع فضحتها.. استدار أبي وغادر. علا صراخ أمي..

على حشرجات صوتِ أمي أفقت.. العرق يرشح من جبيني، وحيداً أنا في غرفتي، ملقى فوق سريري.. الصمتُ يخيم على الغرفة.. انقبض قلبي وأنا أحدق في صورة أبي المعلقة على الجدار.. النافذة شبه مواربة وريحٌ خفيفة تلاعبُ الستارة وأبي غير موجود..

سحبتُ جارور خزانتي، أخذتُ ألبوم الصور، فتحته.. أبي فاتح ذراعيه مرحباً بي .. أغلق ألبوم الصور أتقدم نحو صورة أبي، أظل للحظات أحدق إلى وجهه.. يغمرني شعور ما بين الفرح والأسى..

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون