خلخال

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد السيد زكريا

هل لي أن أتغير حقًا؟ أتحوَّل إلى قيدٍ؟

ما يحدث بي، لازال مستمرًا في إطفاء بريقي، وتحويله إلى أسئلة داخلي، لا إجابة لها.

منذ أن جئتُ هنا، وجسدي المعدني يتآكل ببطء، كراتي الوردية تبهت، الزخارف تتلاشى مني تدريجيًا. كنتُ أطوّق كاحلًا ناعمًا، في طفولةٍ بعيدة، تتراقص بين أمواج البحر، ورمال المدينة. أشعر بدفء الجلد الذي أحيط به، أسمع رنيني، كجرس رقيق، تُغني به خطواتها. والآن، تبدَّل حالي، من مرافقة خطى هادئة، إلى وعدٍ غير مكتمل، أو ربما لعنة، في غرفةٍ ضاقت بألمها، بُنيت حوائطها بالجفاء. أخذتني هي في لقاء، تهديني إليه، قائلة: “أحد أشيائي، العزيزة عليّ، احتفظ به معك، لتتذكرني دومًا”. فوضعني في غرفته، وسط مقتنياته الثمينة، -الغريبة بالنسبة لي-، ومنذ هذه اللحظة، لم أعد أنا.

من مكتبه، اعتدتُ مراقبته، بلا غاية سوى الحضور. لم يمنحني الراحة نفسها، التي عرفتها ذات يوم، لكن اهتمامه المستمر، جعلني أتحمَّل قليلًا. كان يتردد عليّ، يتقفى أثرها، والابتسامة على وجهه. تسأله هي عني، فرحانة، بمشاركتها له ما يلازمه. أمور تجعل ذاكرتي، تعود إلى لحظة انتقالي إليه، السعادة شملتنا وقتها، كما اعتدتُ عندها، حيث الرقة تحيطني، وكل شيء سكره مضبوطًا. لكنهما لم يحسبا حساب هذه اللحظة، حساب القدر، ولا كيف يتقبلانه. سمعته يحكي لها ذات مرة، أن قصص الحب تُخلَّد، لأنها لا تكتمل، لم يكن يتوقع، أن مصيرهما سيؤول كأحدها. تركتني معه، وهو لا يعرف كيف ينسى. تركتني، ثم تركته، وغابت. ولا نملك أن نلومها على اختيارها. لأنهما سويًا -وأنا شاهدٌ عليهما-، ضحيا بكل شيء من أجل حبهما، وفي النهاية، فقدوه.

لم أكن أظن، أنني سأنزعج منها، لأيٍ كان، فمعها لا يوجد مثل هذا الشعور، لكن هي مَن حوَّلت وجهتي، هجرتني مع هذا، الذي يصارع الانتظار يوميًا، منذ لم تعُد هي موجودة، ويوميًا، يحلّ خاسرًا. فقده لما يحلم به، يجعله يتحرك أمامي، طوال الوقت، جيئةً وذهابًا، ينظر إليّ تارة، وفي الفراغ حوله أخرى، باحثًا عما ضاع، مرددًا سؤاله: “انتهت؟”، وأجيبه: “لعلها لم تنتهِ”.

أُدرك أنه غارق في ذاته، حد الثمالة، يطيل النظر داخله، إلى بركةٍ آسنة، لا يأخذ منها سوى انعكاسٍ ضبابي، يكشف له أن الله حين صوَّره، نفخ فيه أنفاس أراوحٍ، احترقت أجسادها، لمَّا أرادوا معرفة حقيقة عالمهم. لم يخطر بباله، أنه على هذا الحال، بتجرُّعه لذكرياته كل أول يوم، والمُضيّ بلا مبالاة، منتظرًا سريانها عبره، يضيف على تلك الأرواح، أرواحًا أخرى، مشيدًا تمثالًا صدئًا من ماضيه، يدشن معه حربًا، لن يقوى عليها.

ملَّ من سعيه أمامي بلا هدف. انتهى يومه المكرر، وعكف الذهاب إلى سريره، يسرق لحظات من النوم، يراها خلاله، كما تعوَّد، في صورةٍ يحبها: هي جالسة أمام البحر، يتبادلان الحكايات، يغازلان منظر السماء، وهو يشاهدهما عن بُعد. حاول النوم، ولم يعرف. جرَّب ثانيةً، والوضع كما هو. شدَّتني رائحتها فجأة، عبَّقت الغرفة حولنا. هي هنا، بطريقةٍ ما. هي هنا، أراها، تتجول بيننا، وكأنها تتيح له من جديد، فرصة إتمام لقائهما الأخير، بما يليق. ورغم ما يحدث بي، من تغييرٍ، يطرأ داخلي منذ مدة، بما لا أستطيع تفسيره، إلا أنني لن أكف عن متابعتهما، في هذه الظلمة. همست الفتاة، تردد صوتها في المكان، ويبدو أنه سمعه، ليست خيالات. انتفض من سريره، يفتّش عنها، ولم يجدها. أنا فقط لمحتها، تفتح النافذة، وتخرج منها، صاعدة لأعلى.

وقعت عينه عليّ من بعيد، اندهش، اقترب على استحياء، أمسكني، خفّتي التي ألفتها لم تعد موجودة. بدأتُ أفهم ما جرى بي، وأنا على يديه. لم أتوقع أبدًا، أن أتحوَّل من زينة، وتطويق الأقدام بالنغم، إلى عروة مشؤومة، تحيط بالأعناق. كيف بدَّلني الزمن؟ كيف امتدَّ جسدي، وتغيَّر إلى حبلٍ غليظ، ملتوٍ كأمعاء، يختزن الموت في كل لفة؟ رفعني الفتى قبالته، لم يلاحظ ما حدث، هنا لا مجال لمعرفة ما يدور. نظر إليَّ بشبه ابتسامة، يتأملني كسابقٍ، لكن هذه المرة، في نظرته بريق مختلف، كأنه يرى فيَّ، مفتاحًا لشيء ينتظره. قربني أكثر إليه، بيديه المرتجفتين، كأنما يحمل قدره. مستجيبَين لنداءٍ غامض، يفعل بنا ما يحلو له. بدا لي الشك في عينيه، يطرح سؤالًا: هل كنتُ بالنسبة له خلخالًا، يحتفظ به حقًا، ذكرى في حياته، أم منذ البداية وأنا حبلٌ، أتخفى وأظهر، كصوتها ورائحتها وخيالها، أنتظر اللحظة المناسبة، لأشتد حول عنقه، والآن، تبينت الحقيقة؟

 

مقالات من نفس القسم