عبد اللطيف النيلة
جاء السبت مرة أخرى، فاتسعت جراح النفس. قتلت الوقت في المقهى مع الآخرين، وحان المساء فحثت خطاك باتجاه العمارة. وددت لو يستبقيك أحدهم لتمضوا الليل مع سهرة التلفزة. لاأحد ألقى إليك بكلمة تحول بينك وبين إقفار شقتك. وفي الطريق اشتريت علبة سجائر وثلاث شمعات. صعدت الدرجات كأعمى، وتمهلت أمام الباب لاهثا. ودون أن تفكر في إشعال إحدى الشمعات رحت تتحسس بأصابعك موضع القفل. وبعد حركة متعثرة بطيئة انفتح الباب…
وفي غرفة نومك أشعلت الشمعات وثبتتها فوق كرسي بجوار السرير، استبدلت ثيابك وأطفأت المصباح: كنت تحب أن تسهر على ضوء الشمع، وجلست على حافة السرير تدخن…
حزين إلى حد البكاء، والدمع خائن لا يطاوع، انطفأ الآخرون مثل فقاعات في الهواء، وبقيت مع نفسك لا تدري كيف تقضي ليلة السبت، أيام العمل تشغلك قليلا عن الثقب الذي يتسع في سقف قلبك، فداحة الإحساس بالوحدة تتفاقم كلما بلغت المسافة التي تفصل بين أسبوع وآخر، وبدل أن يكون الفراغ فسحة ترتاح فيها من عبء الوجوه والطلبات والأوامر وعقود الازدياد.. يصبح شبحا مخيفا يخلخل هدأة الروح، تملك كعادتك أن تملأ هذا الفراغ بتصفح الجرائد وملء خانات الكلمات المتقاطعة أو التنقل بين موجات المذياع والإصغاء للموسيقى… لكنك تتاخم غالبا نقطة القرف التي يتساوى عندها مذاق الأشياء، فيجتاحك الإحساس بأن حياتك صغيرة وضيقة تدور في حلقة مفرغة، وهذا البعاد الذي تدشنه مسافة بطول 340 كلم، تدشنه بينك وبين أحبة القلب.. آه من هذا البعاد! بك جموح إلى لحظة حبلى بالبوح والحميمية والنجوى، تشتهي أن تكسر صمت الغرفة الموحش بحديث من تلك الأحاديث التي كنت تتجاذبها مع أصدقاء العمر المقيمين هناك في البعيد البعيد، بل يكفيك ظل الصديق، أن تحس أنفاسه الحية بجوارك، أن تحس به منشغلا بشيء ما، بقراءة كتاب أو بالاستماع إلى أغنية، أن تجتذبه من حين لآخر بفكرة عنت لك أو بذكرى…
شيئا فشيئا تذوب الشمعات، تغرق بنظراتك في وهجها المتراقص كما لو كنت تترقب أن تسر إليك بكلام ما. تتناهى إلى سمعك أصداء مرور السيارات في الشارع الكبير، صوت أقدام تصعد الدرجات، صرخة طفل صغير، شتائم سكارى، ضجة السهرة المنبعثة من تلفزات الجيران… وحدها الأصوات تنفـذ إلى غرفتك، ووحدك تملأ الصمت بالشرود. تضطجع على السرير، يذكرك جسدك بعطشه المؤرق، تتجاهل نداءه الملحاح، أوان الليمون لم يحن بعد، لذلك لا أثر للعاملات، والاعتماد على النفس بات مبتذلا باعثا على القرف.
بأعقاب السجائر ورمادها امتلأت المنفضة، آلمتك عيناك، بدأت تشعر بوخز في صدرك، وأخذ رأسك يتثاقل. بنفخة من فمك أطفأت ما تبقى من الشمعات، وأغمضت عينيك في هواء مضمخ برائحة التبغ المحترق والشمع المطفأ.
كان نومك متقطعا مضطربا. وفي لحظة ما شعرت بشيء ثقيل يجثم على صدرك. تململت بصعوبة، حاولت أن تحرك أعضاءك. كان طعم الاختناق قويا في حلقك، استجمعت قواك وانتفضت. وحين فتحت أجفانك في إجهاد لمحت جسما صغيرا يمرق من باب الغرفة إلى صحن الشقة. نهضت من الفراش متمالكا نفسك، وتلمست طريقك في ضوء الخارج المتسلل من النافذة. ربما تكون قد نسيت مصاريعها مفتوحة أو ربما انفتحت بفعل ريح قوية. تابعت سيرك حذرا مروعا. وإذ ضغطت على مفتاح الكهرباء شدهك منظر خفاش صغير يحلق مرتطما بجدران الصحن. لبثت في مكانك مسمرا ترقبه… ولما لاحظت أنه أكثر اضطرابا منك تقدمت نحوه، التقطت المكنسة ورحت تطارده. كنت تريد أن تدفعه إلى الخروج من حيث دخل، غير أنه كان يتفادى حركاتك، عن سوء فهم، مواصلا ارتطامه بالجدران. وقفت برهة لتلتقط أنفاسك، فواتته الجرأة ليمرق من فوق كتفك إلى باب المطبخ، تقهقرت إلى الوراء مباغتا، وحين استدرت نحو المطبخ كان قد فر من النافذة المشرعة…
عدت إلى فراشك بعدما أحكمت إغلاق النوافذ. وفيما أنت أسير حالة ذهول غريبة استولى عليك النوم من غير أن تشعر… لكن غصة حارقة أيقظتك في عمق الليل. قمت متعثرا تتلمس طريقك في العتمة، تحسست الجدار لحظة قبل أن تعثر على مفتاح الكهرباء. وفي المطبخ انحنيت فوق المغسلة ترتوي من ماء الليل البارد، آلمتك أسنانك وسمعت الماء يقرقر في أحشائك. كان السكون مطبقا، ثمة فقط نباح مستديم بعيد كما لو كان طالعا من أعماق بئر. عدت إلى الغرفة هاما بإطفاء النور، تراجعت إلى الخلف، وسواس الخوف شب في نفسك فجأة، فألقيت نظرة فاحصة على باب الشقة: موصد وساكن، والمفتاح الصغير في القفل. نعم كان الباب الصغير محكم الإغلاق. تفقدت الغرفة الأخرى حيث يسود الإهمال والفوضى: صناديق من الكرتون محملة بأكوام من الأوراق والدفاتر والمجلات القديمة، حقيبة ثياب حال لون جلدها، أحذية وثياب متسخة، صورة كبيرة لبوب مارلي معلقة على أحد الجدران بشكل مائل، بيوت عناكب في الزوايا، غبار كثيف، وأشياء أخرى لم تعد صالحة للاستعمال…تفقدت المطبخ الصغير والمرحاض أيضا، فعاد الاطمئنان إليك…
لففت نفسك في الأغطية من أخمص قدميك إلى رأسك. كانت أطرافك باردة. رحت تصغي للنباح البعيد منتظرا مجيء الدفء والنوم. صار النباح لعنة مقيتة تطاردك، وأعلن النوم العصيان. حاولت أن تتجنب الإلحاح في طلبه، كأنك تطبق معه سياستك مع النساء، وغرقت في العد اللامتناهي. مجرد أكذوبة طريقة العد هذه، تتعب من الصعود في سلم الأعداد والنوم يمعن في العناد. أخيرا نهضت لتشغل المسجلة : السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، ليل عميق وإصغاء للموسيقى من تحت الأغطية. كان بك توق إلى الأغاني الشرقية، إلا أنك كنت تخشى أن تهيج أشجانك. يكفيك هذا البكاء الباطني الذي يقضم روحك. وتتبعت بشغف بحث الموسيقى عن لحن ضائع يظهر باهتا ناقصا تارة، ويختفي تارة أخرى، ليظهر من جديد مكتملا في خفوت، ثم يتوارى برهة ليتفجر ناضجا عاصفا يهز النفـس من الأعماق. وإذ استغرقك انفجار اللحن متوهجا فرحا قويا بدأ النوم يسدل أجفانك.
أيقظك المنبه برنينه المتواصل العنيد. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا. متى ضبطته؟ لم تعد تذكر! أخرست المنبه بلمسة متشنجة من أصابعك. جسدك كان متعبا وهاوية الأحد كانت تنتظرك. آليت على نفسك ألا تستيقظ، وغرقت في نوم عميق لم تستيقظ منه إلا على رنين جرس الباب. انتبهت إلى نفسك: كنت متفصدا عرقا وأشعة حادة تنفذ من شقوق النافذة. ألقيت الأغطية جانبا، ثم انسللت من الفراش في تثاقل. كان في ذهنك سؤال واحد: من هـذا الشخص الذي يضغط في إلحاح على جرس الباب؟ لا صديق لك في هذه البلدة، ولم يسبق لأحد من زملاء الشغل أن زارك، كانت المقهى مكان اللقاء و الثرثرة، وفي المقاطعة لم تتجاوز العلاقة التحية وعبارات المجاملة…
من الطارق إذن؟ صاحب العمارة؟جار لا تعرفه؟ صديق أو قريب جاء لتوه من السفر؟ فتحت النافذة في استغراب، وحين ألقيت نظرة إلى الأسفل رأيت امرأة هرمة ملتفة في «حايك» بني. كانت تهم بأن تضغط على الجرس مرة أخرى، سألتها صارخا عما تريد أو عمن تسأل، فاكتفت بالإشارة إليك بيدها. خالجتك هواجس خفيفة ولم تستطع أن تمنع نفسك من النزول إليها. وفي خطى عجولة نزلت الدرج المؤلف من واحد وخمسين درجة. ولما انتصبت أمامها مددت إليها يدك مصافحا، ثم عاودت سؤالها عن حاجتها. وكم بذلت من جهد كي تكتم غيظك حين سألتك «صدقة على الله». كان الأمر كما لو أنها سددت إليك صفعة: كيف لم تحدس مسبقا أنها متسولة؟ بدا لك من العبث أن تصعد الدرج إياه مرة أخرى..فاكتفيت بأن رددت على مسمعها العبارة المألوفة « الله يسهل»، وأوصدت الباب.
فيما أنت صاعد إلى شقتك بالطابق الثالث، تذكرت، على حين فجأة، حدث الأمس الغريب: خفاش صغير بوجهه الفأري يقتحم عليك عزلتك، وللتو تداعت إلى ذهنك وقائع أخرى رأيتها، ربما، في المنام:
غرفة واسعة خالية من الأثاث.. أرضيتها من تراب.. في وسطها سرير من معدن.. أنت ممدد على السرير.. بل كنت مصلوبا.. وفوق رأسك رجل شبيه ببوب مارلي.. كان منفوش الشعر.. يرتدي بذلة رسمية في لون أزرق.. كنت تحس أنك واقع تحت رحمته.. وحولك عدد كبير من الخفافيش.. يرتدون «سلاهم» سوداء.. بأيديهم آلات موسيقية يعزفون عليها ما يشبه السيمفونية.. كان بوب مارلي يحرك يديه على طريقة قائد الأركسترا.. يحركهما في البداية بهدوء.. وعيناه تتفرسان في جسمك العاري.. عيناه تفترسانك في وقاحة.. ثم لا تلبث حركته أن تتشنج.. وفي موزاة ذلك يتدرج عزف الخفافيش من الخفوت إلى التصاعد فالانفجار.. يصبح العزف زعيقا وضجيجا.. وأنت تتلوى متألما.. تحاول أن تصم أذنيك.. تحاول لكن يديك مشدودتان إلى السرير.. ويعيد بوب مارلي وخفافيشه الكرة.. بنفس الطريقة.. وأنت تتألم بلا نهـ…