شهقت عندما وخَزَت أصابعَها أطرافٌ مدببة، تحسستها قليلاً فتذكرت، أخرجت الأغراض المدببة، كانت عبارة عن ثلاثة أساور مصنوعة من كسرات عظام ملونة، اشترتها من امرأة صادفتها أثناء رحلة قامت بها إلى دولة إفريقية، وقتها أعجبها أن المرأة أكدت لها أن الأساور مصنوعة من عظام حقيقية، لكن “بيداء” وللسبب نفسه خلعت الأساور واحتفظت بها فى صندوقها.
مدّت يدها ثانية، غاصت بها حتى اصطدمت بشىء بارد صدرت عنه خشخشة، وأحسّت بخيوط خشنة تلتف حول أصابعها كأنما تحاول اصطيادها، جذبت يدها، وجدت بقايا شبكة عنكبوت عالقة بها، تخلّصت منها سريعًا، نظرت داخل الصندوق، رأت جثة، حاولت أن تتعرّف عليها، لكن الجثة كانت تتحلل كلما أطالت “بيداء” النظر إليها، حتى تلاشت تمامًا.
“مهما حدث سأواصل البحث..”
“لماذا تحتفظين بكل هذه الأغراض عديمة النفع يا “بيداء”؟ وهل يجب أن تعيدى السؤال نفسه فى كل مرة تبحثين هنا؟ ألا تذكرين أنك عاهدت نفسك أن تحتفظى بتذكار من كل حدث يمرّ فى حياتك، ويترك فيها أثرًا ولو بسيطًا، فكيف وقد عشتِ حياة صاخبة لسبعين عامًا؟”
عادت “بيداء” لتفتش داخل صندوقها العجيب، بسرعة أكثر هذه المرة، وكأن الوقت يداهمها، التقطت أصابعها تمثالاً مرمريًا فيروزىّ اللون لبوذا، وسَرَحَت لتتذكر كيف حصلت عليه من “الصين”، عندما زارتها منذ أكثر من أربعين عامًا، كسبته فى لعبة للحظ، وعاتبت حظها السيىء، لأنها لم تفز بشىء مهم وثمين بدلاً منه.
بدأت قطرات العرق تتصبب من جبينها، وتسقط على خديها المتغضنين، وتبلل ملابسها، وهى تبحث دون توقف، وترمى الأغراض حولها.
“إنه أغلى ما احتفظت به، وليس لدى الوقت، لا بد أن أجده قبل أن يأتى الأشخاص ذوى النظرات الباردة”
قبضَتْ يدها الواهنة على مغلّفين دافئين، أخرجتهما، وقبل أن تفتحهما لفحتها منهما رائحة زهر الليمون الطفولية، فتحت المغلف الأول، تصاعدت حولها رائحة الليمون، وجدت فيه قصاصات شعر أشقر ذهبى، وفى المغلف الآخر كانت قصاصات كستنائية تميل إلى الحمرة، وغمرتها رائحة الليمون أكثر.
“آه، لا زلت أذكر شعرك الاشقر يا سعد، ابنى الأكبر، ظللتُ أقصّ شعرك وأحتفظ بها حتى بلغتَ عامك الأول، والكستنائى الجميل، شعرك يا “أمل”، ابنتى الوحيدة، ولكن، أين قصاصات شعرك يا “سرمد”، ابنى الأصغر، لماذا لستِ هنا؟ أيتها الخصلات البنيّة الجميلة؟ ألا تذكرين يا “بيداء”، أنسيت أن أباه قد خطفه بعد طلاقكما، ولم يزل فى الشهر الثانى من عمره، لم تكونى قد قصصتِ أطراف شعره بعد؟ “سرمد”، صغيرى الجميل”
تصاعد البكاء فى غرفة “بيداء”، غمرتها الدموع والتنهدات، ضمّت المغلّفين إلى قلبها، ظلت تبكى لوقت طويل، ونسيت ما كان تبحث عنه.
بعد أيام، كان جيران “بيداء” يطرقون بابها، بعد أن غمرت العمارة رائحة الليمون المتصاعدة من شقتها، وعندما لم يجدوا ردًا اتصلوا بالشرطة، التى جاءت وقد غمرت رائحة الليمون الشارع كله، كسروا الباب، دخل الجميع الشقة، كانوا يعرفون إلى أين عليهم ان يتوجهوا، إلى الباب الذى تندفع من تحته رائحة الليمون، فتحوا غرفة “بيداء”، و… صَدَمَهم المنظر الذى وجدوه أمامهم.