حياة “هامسون”  في صور

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الشريف

لا يزال “كنوت هامسون” كاتب النرويج الأكبر، وأحد أكثر الكتاب تأثيرًا في القرن العشرين، يثير الجدل والحوارات والمناقشات حول شخصه وما قاله وفعله – ليس حول أدبه بالطبع، والذى لا خلاف حول قيمته ومكانته في تاريخ الأدب الإنسانى والعالمى، وهذا ما دفع النقاد والباحثين للقول، إنه لم يكن هناك كاتبٌ نرويجيٌّ أو حتى عالمي، كان محبوبًا بشدة ومكروهًا بعمق مثل كنوت هامسون. لذا يأتى هذا الكتاب “حياة هامسون في صور” لمؤلفه Øystein Rottem ليلقي الضوء من جديد على محطات مهمة وفارقة في حياة هامسون وتاريخ النرويج والعالم. حياة درامية ومؤثرة كرواية حسب وصف الكاتب.

 ونبدأ من الحدث الذي أفضى إلى كل هذا الجدل حول شخصية هامسون، أعني تأييده للنازي. لقد قال: “إنه لم يكن تأييدًا لهتلر بل ضد طغيان الثقافة الأنجلوساكسوني، وأنه لم يحب أمريكا – سأتوقف قليلًا عند رحلته لأمريكا فيما بعد -، وقال عن لقائه بهتلر إنه ذهب والتقاه من أجل مصير بلده النرويج، مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وقد ظهر في فيلم عن هامسون  كان مزودًا بلقطات أرشيفية عدم رضا هتلر عن اللقاء بل عصبيته بسبب إلحاح هامسون وأسئلته عن مصير النرويج، وهل القوات الألمانية سوف تبقى أم ترحل: “كان هتلر منزعجًا بشكل واضح، حاول باستمرار توجيه المحادثة في اتجاهات أخرى، لكن هامسون كان يقاطعه باستمرار ويواصل إصراره على وجهة نظره وفي النهاية لم يعد هتلر يحتمل ما يقوله هذا الكاتب ثقيل السمع، وخرج إلى الشرفة. وبعد الاجتماع كان هامسون غاضبًا مثل الثور، وكان على المترجم على متن الطائرة تهدئته.

 في اليوم التالي تم ترتيب لقاء مع “جوبلز” ثم تم إلغاؤه دون سبب. لاحقًا أخبر هامسون من كان معه أنه لم يحب هتلر، لقد كان يحاضر ويتحدث عن نفسه طول الوقت”. مع ذلك لم يغفروا له وتمت محاكمته بعد الحرب. والخلفية التاريخية لذلك، وكما جاء بموسوعة السيرة الذاتية النرويجية Norsk Biografisk Leksikon ، :إنه ” وعلى مر السنين ظهر هامسون كناقد لاذع للرأسمالية و«العصر الحديث»، الأمر الذي دفعه في الثلاثينيات إلى التعاطف مع الأيديولوجية النازية. لكن على الرغم من الخلاف الذي ساد بعد ذلك حول علاقته بالنازية أو حول العملية التى جرت ضده، فلا شك في عظمته الأدبية.”

وكى ننتقل إلى تفاصيل ومحطات أخرى في حياة هامسون يمكن القول إن آراء الكاتب والفنان بصفة عامة، الشخصية، لا سيما منها السياسية من الممكن أن تصيبه بالمشكلات وتجر عليه المصائب، وأن تدمره كما حدث مع الكثيرين عبر تاريخ الفن والأدب وحتى الفلسفة أيضًا.

الصور في الكتاب كثيرة وتغطى الفترة الزمنية من 1859 حتى 1952. صور لـ هامسون  وأسرته، أصدقائه، بيته، زوجته وأبنائه، أماكن تجواله، سفرياته،  ناشري كتبه، لقاءاته مع الألمان، صور مع صديقاته وأصدقائه، خطابات بخط يده، رحلته إلى نيويورك ومنها إلى شيكاغو، قصاصات من الجرائد وصفحات بخط يده، سفريات لبلاد ومدن عديدة، مقهى Bernina في كوبنهاجن الذي كان ضيفًا مألوفًا فيه من عام 1888 حتى 1889. إضافة لصور الفلاسفة والكتاب الذين قرأ لهم وأحبهم مثل الفيلسوف الألماني شوبنهاور، نيتشه، ديستوفسكي الذي كان يَكِنُّ له احترامًا كبيرًا، والشاعر والكاتب النرويجي صاحب النشيد الوطني “بيورنستيرن بيورنسون” وغيرهم.

مع كل صورة تعليق سواء من الكاتب أو اقتباسات عن هامسون نفسه أو من التقوه، ومنها هذا الاقتباس لـ “ألفريد أندرسون” صاحب أول بورتريه لهامسون عام 1891 قال: ” كان هامسون رجلًا جميلًا، طويل القامة، قوى البنية ومتناسق الجسم مع شعر أشقر، لقد بدا وكأنه شخص مكلوم الفؤاد. لقد كان كذلك؛ وكان الناس يلتفتون إليه عندما يمر في الشارع، وفى محاضراته لم يكن الجنس اللطيف أقلية بين الحاضرين. 

“كذلك هناك صور لأبيه وأمه، لقد تزوجت أمه في سن 22 من والد كنوت وانجبوا سبعة أطفال، كنوت كان الرابع، كانت له علاقة جيدة مع أمه لكنها لم تكن علاقة وثيقة، ولم يرها لمدة عشرين عامًا نظرًا لسفرياته وتجواله وعمله، لكنه عندما استقر في المنزل الذي اشتراه بفضل النقود التي توافرت لديه بعد حصوله على جائزة نوبل 1920 لم ينسِ أمه ودعاها إلى بيته. وكان يتذكرها باعتبارها طيبة وصبورة، وبصوت غنائي لطيف يدخل القلب. أما أبوه فذكر أنه كان يعمل خياطًا ويدير في الوقت نفسه مزرعة صغيرة، لم يكن بطريركيًّا صارمًا مع أطفاله، ولكن مع نمو الأطفال  أصبح من الصعب تغطية نفقاتهم. قيل أيضًا أنه كان يحب السيدات ويتمتع بروح الدعابة.

يعلق الكاتب على صورة لـ هامسون في منتزه الشاطئ “أوستند” في بلجيكا عام 1909 قائلًا: “إن المال لعب فصلًا خاصًا في حياة هامسون. في بداية حياته المهنية، كان عليه في كثير من الأحيان أن يقترض، وعندما كان يحصل أحيانًا على مبالغ كبيرة بين يديه كان يبددها بمجرد الحصول عليها. كان كريمًا في التعامل مع الأصدقاء ويساعد المحتاجين إلى المال، فيما بعد كان يقدم المساعدة سرًّا وكثيرًا مع عدم الكشف عن هويته. علاوة على ذلك كان لديه شيطان القمار في دمه، اعتقد أنه يمكن تسوية الأمور المالية على طاولات القمارفى ربيع 1909استدان من زوجته وسافر، لكنه خسر المال في بلجيكا” وفى رسالة إلى صديقه الفنلندى كتب: “سارت الأمور على نحو خاطئ لقد خسرت 13 ألف فرنك، يا إلهي لا أجرؤ على العودة للمنزل مرة أخرى، ماذا أفعل يا عزيزي  “هاجلستام”  أتوسل إليك المساعدة”. وبعد أن أرسل صديقه إليه الأموال بددها ثانية. ويقال إن مشكلاته وأزماته المالية لعبت دورًا كبيرًا في انفصاله عن زوجته الأولى.

نأتى إلى صورة له في شيكاغو، رحلة أمريكا التى كان لها تأثير سلبي عليه وعلى رؤيته للثقافة الأمريكية. في أغسطس 1886 استقل هامسون السفينة التجارية “Geysir في رحلة مباشرة إلى نيويورك، ومن هناك إلى شيكاغو التى فتنته خلال إقامته الأولى. تقدم هناك لعدد من الوظائف، وفي النهاية تحصَّل على وظيفة قاطع تذاكر في الترام. هذه الوظيفة شغلها حتى الربيع. ثم يضيف الكاتب :” لا نعرف سوى القليل عن أيامه في شيكاغو”. ربما عاش وحيدًا منعزلًا لكنَّ هناك صورًا له مع ابنة عمه ماري أندرسن تظهر أنه تواصل مع عائلته”.

في مايو غادر شيكاغو وعاد إلى Minneapolis  وقام بمعرفة عدد من الأصدقاء الجدد. تعرف على الصحفي السويدي “فيكتور نيلسون”، الذي أصبح من أوائل مستشاريه الأدبيين الجادين، وناقش معه ومع آخرين موضوعات أدبية. كان هامسون مهتمًا بشكل خاص ببلزاك وفلوبير وزولا وستريندبرج. في الصيف سافر إلى مزرعة تسمى الوادي الأحمر، حيث عمل كعامل في المزرعة. كان يتم إيقاظ العمال في الساعة الثالثة وثلاثين دقيقة صباحًا وتقدم وجبة الإفطار قبل الشروع في يوم عمل مدته ١٥ ساعة. خلال ذاك الوقت نشر القليل. هناك مؤشرات كثيرة تشير إلى أنه بدأ يدرك أنه لا فائدة من تبديد مواهبه، إذا كان حقًا يريد النجاح ككاتب.

فى 17 يوليو 1888 ألقت السفينة الدانماركية الأمريكية Thingvalla الهلب في ميناء كوبنهاجن. كان على متنها هامسون الذي سافر من نيويورك بالدرجة الثالثة. كان لديه عند وصوله وفق مايقوله أحد معارفه، شارة حداد سوداء ارتادها تخليدًا لذكرى الفوضويين الذين أعدموا في هاى ماركت في شيكاغو. أقام هامسون آنذاك في كوبنهاجن في منطقة للطبقة العاملة، بعد رهن السترة انتقل إلى غرفة تحت سقف المنزل وبدأ على الفور كتابة روايته الشهيرة  “جوع”. هل شعر حينها أن لديه مخزونًا كبيرًا للكتابة؟ ومع ذلك كتب رسالة إلى رجل الأعمال النرويجى  يوهان سورينسن: “لا أستطيع العمل، ليس جيدًا، ليس مريحًا. أجلس هنا على فرع شجرة حيث الريح يخترق الجدران، هنا لا توجد تدفئة، لا يوجد ضوء تقريبًا، فقط نافذة صغيرة واحدة في السقف. لا أستطيع الخروج الآن أيضًا، نظرًا لأن الجو أصبح باردًا، والملابس  قليلة”.

صدرت الرواية في عام 1890 ومثل صدورها علامة فارقة؛ ليس فقط في تاريخ الأدب النرويجى، ولكن أيضًا في تاريخ الأدب الأوربي، وكما جاء بالموسوعة النرويجية: “إنها واحدة من الروايات الحديثة حقًا، وهى كانت بمثابة نبوءة بحداثة القرن العشرين سواء من حيث الموضوع أو من حيث الأسلوب وطريقة السرد”.

بعدها صدرت روايات وكتب أخرى دشنت وعضدت اسم كنوت هامسون في الأدب النرويجى والاسكندنافي ثم العالمي بعد حصوله على جائزة نوبل. واتسعت وتنوعت مصادر دخله من مبيعات كتبه وزار بلادًا ومدنًا عديدة وكثرت محاضراته ولقاءاته.  حتى مرت السنوات وظهر هتلر وحزبه وبعد ذلك الحرب العالمية الثانية وانحيازه للألمان ودخوله في صراعات وخصومات.  كل هذا يمكننا أن نمر عليه سريعًا، لكن من الصعب ألَّا نتوقف عند صورته في المحاكمة، وهو قد تجاوز الثمانين عامًا. لقد ولد في أغسطس 1859. لكن يجب أن نذكر أنه كان لا يزال متأكدًا من انتصار ألمانيا،  وقد نعى هتلر في صحيفة أفتنبوستن،  حيث أطلق عليه لقب “المحارب من أجل البشرية “، “واعظ بإنجيل العدل لجميع الأمم” و”شخصية إصلاحية من أعلى رتبة”  على الرغم أن اللقاء بين هتلر وهامسون لم يكن على ما يرام كما ذكرنا.

في 14 يونيو 1945 ألقت الشرطة النرويجية القبض على هامسون ونقلوه إلى مستشفى.  وبعد أسبوع قدم أول تفسير حول أفعاله أثناء الحرب. ثم نقلوه إلى دار لرعاية المسنين، وبعد فترة قرر المدعي العام إخضاعه للمراقبة النفسية الشرعية، وفى أكتوبر نقل إلى عيادة للطب النفسي في أوسلو. أقام هناك 119 يومًا. بعدها قُدم للمحاكمة التى حكمت عليه بالتعويض المادي الذي خفض من 425 ألف كرون إلى 325 ألفًا. لقد نفى في المحكمة علمه بمدى آثام النازيين. بعد ذلك كان هناك قدر كبير من الجدل حول قرار المحكمة هذا وحول العملية برمتها ضده واتهامه.

هناك صور كثيرة يمكن التوقف عندها، مثل صوره مع زوجته الثانية ماريا ممثلة المسرح التى كانت بعمر26 عامًا عندما التقت الكاتب الشهير في المسرح القومي ربيع 1907، كان وقتها في عامه التاسع والأربعين وقد انفصل عن زوجته الأولى. كذلك صور للفنادق التي كان يقيم فيها من وقت لآخر من أجل الراحة أو الكتابة: “في عام  1907 أقام هامسون في فندق بريتانيا في كونجسبيرج/ نحو 83 كيلو مترًا من أوسلو.  استرخى من أجل الراحة فترة من الوقت. كان يعمل في النجارة، ويرسم، ويذهب في جولات مشي طويلة، ويلعب الورق مع نزلاء الفندق الآخرين. في الصيف، كما هو متفق عليه، زارته فيكتوريا/ ابنته. كانا يسيران جنبًا إلى جنب و يد في يد ويتجولان في الشوارع”.

واختصارًا سأتوقف عند صوره في الطبيعة، الغابات والجزر والحدائق والشواطئ والبحار. لقد كان هامسون مغرمًا بالطبيعة بل كان يجد راحة كبيرة واستجمامًا وحتى هربًا وابتعادًا عن المشكلات والخصومات والصراعات.  لعل روايته الكبيرة “محصول الحقل” Markens grøde الذي حصل من خلالها على جائزة نوبل 1920 وتحولت إلى فيلم 1921 تبين ذلك بصورة كبيرة. كانت وبرأي الكثيرين إجلالًا وتقديسًا للطبيعة، الطبيعة عند هامسون كقيمة في حد ذاتها. هذه الرواية ترجمتها صوفي عبدالله إلى العربية، وصدرت عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة عام 1965 تحت عنوان “واخضرت الأرض” عن اللغة الإنجليزية على ما أعتقد. بالنسبة للشخصية الرئيسه في الرواية “إسحاق” فإن الطبيعة ليست صامتة، يقول أو يسرد هامسون على لسانه وهو يسير في الحقل: “لقد حلَّ الظلامُ، لكنه يسمع اندفاعًا صغيرًا للنهر، وهذا الاندفاع الصغير يعيده إلى الحياة مثل شىء حى”. ويقول أيضًا على لسان إسحاق في مشهد آخر من الرواية: “والقوى العلوية التى تقود خُطا البشرلعلها ترقبه الآن في هذه اللحظة لترى هل يستحق هذه النعمة أم لا، وأعار إسحاق اهتمامًا كبيرًا لتلك القوى العلوية.  أجل إنه رأى الله بعيني رأسه ذات ليلة في وقت الحصاد، في الغابة وكان المنظر عجبًا”.

ليس فقط في هذه الرواية تتجلى علاقة هامسون مع الطبيعة بل في معظم أعماله ولنقرأ معًا هذه السطور من كتابه “بيورج” Bjørger 1878..” في مواجهة الجنوب، على اليمين كانت هناك تلة شديدة الانحدار. خلف هذا الجبل الأزرق إلى اليسار منحدر فارغ، العديد من الشلالات في الأسفل. كانت الغابة في فصل الربيع تبعث رائحة طيبة مع الريح بكل الاتجاهات، وتذكر المرء بحياة في قاعة من أوراق الشجر.”- اقتباس من موقع  Hamsunsenteret  –

 الطبيعة كانت حاضرة بقوة في حياة هامسون وحتى في اختياراته لأماكن إقامته، كتب في رسالة إلى صديق: “..بادئ ذي بدء يجب أن يكون موقعه بجوار البحر ويتوفر فيه الكهرباء والماء..منزل كبير وطريق ترابي صغير لكن به الكثير من الغابات والماء،  بالقرب من مدرسة، لكن ليس ضروريًّا أن يكون قريبًا من المدينة”. كان أيضًا شغوفًا بالزراعة وكان من أوائل من حصلوا على جرار في النرويج لمزرعته في Nørholm  لذلك لاعجب من كثرة صوره في الطبيعة، هناك صورة له وهو يستند على جذع شجرة كما لو أنه يحتمي بها، خاصة بعد ما حدث معه وعزلته.

و حتى بعد أن بلغ التسعين من عمره واصل جولاته في مزرعته، ولكن في النهاية لم يعد بإمكانه النهوض من السرير. كانت ماريا تعتني به.

 قضى الـ 48 ساعة الأخيرة في حياته، في نوم عميق أو غيبوبة، وفى منتصف ليل 19 فبراير 1952 رحل كنوت هامسون.

مقالات من نفس القسم