والجهد هنا في رواية الكندى يان مارتال “حياة باي” الحائزة على جائزة “مان بوكر” في 2002، كان شاقا وصعبا، خصوصا أنه كان ملازما لرحلة قوامها 227 يوما في المحيط الهادي، يصارع خلالها الطبيعة من أجل النجاة، ومن أجل الوصول إلى معرفة حقيقية بالله، دون اعتبار لدين بعينه.
أمر مدهش أن ترى نفسك مع نمر بنغالي وضبع شرس وشيمبانزي وحمار وحشي على قارب نجاة، بعد أن غرقت سفينة، حاملة معها حديقة حيوان كاملة، إلى قاع المحيط، وحاملة أيضا عائلتك التي ونست إليها طوال سنوات العمر التي تقترب من العشرين. مات الأب والأم والأخ رافي، وعاش باي، أو بيسينموليتورباتيل، الذي نشأ في حي بونديتشيري الذي ألحق بالهند في أكتوبر 1954، حيث أعطت الحكومة لوالده قطعة خضراء كبيرة ليقيم عليها حديقة للحيوان، ولظرف اقتصادي وسياسي أجبر الرجل على الرحيل منها، ومعه حيواناته، وأبنائه وزوجته، فقرر الرحيل إلى كندا على متن سفينة كبرى، غرقت في بطن المحيط. ونجا باي.
هذه هي القصة ببساطة. نعم لا تفرق كثيرًا عن قصص “حي بن يقظان” أو “روبنسون كروزو”، أو حتى فيلم “cast away”للعظيم توم هانكس، لكن تبقى لكل حكاية خصوصيتها وذائقتها، التي تميزها عن غيرها، وإلا تساءلنا جميعا أين الإبداع في تكرار نفس الأفكار؟. الفيلم الذي يحمل نفس الاسم “حياة باي” الحاصل على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم وأفضل مخرج”آنج لي” هو الآخر له خصوصيته، التي ابتعدت قليلا عن الرواية التي بين أيدينا.
باي أخذ وقتا كبيرا لتغيير اسمه من بيسين والتي تعني “بركة المياه” إلى باي، بعد أن كان مصدر سخرية بين أقرانه ومدرسيه. وكأنه نبي احتاج أن يكون بطلا في لحظة ما حتى يدفع عنه هذه السخرية، حتى تصبح إيمان. شرح كثيرا اسمه بكل اللغات، ووقف على السبورة يكتب ما يعنيه اسمه، والذي يشير في الرياضيات إلى رمز “اللانهائي“.
لم يخش باي في حياته سوى الترحال المكاني، على الرغم من أنه عاش طفولته وشبابه متنقلا أو بالأحرى جامعا بين أديان ثلاثة”إسلام ومسيحية وهندوسية”. آمن بمبدأ أستاذه الشيوعي المتخصص في علم الأحياء والذي وصفه بـ”أول ملحد صريح” يعرفه، بأن الملحدين ليسوا إلا إخوانه ولكن في دين آخر، وأن كل كلمة يقولونها تشهد بالإيمان، وأنهم على غراره يركضون بقدر ما تحملهم أرجل المنطق.
الشك ساور الصبي كما ساور المسيح عيسى بن مريم الذي أمضى ليلة كاملة على صليبيه تدور في رأسه تساؤلات على شاكلة “لماذا لم ينقذه الله؟”. ومع هذا لم يركن باي إلى مبدأ “لا أدري”، فكان يرى أن الملحدون لا يزعجونه بقدر ما يزعجه اللاأدريين”. كان يصلي في المسجد كالمسلمين.نعم انتقد الصلاة أولا وقال إنها “اجتماع رياضي مع الله”، لكن بعد أن تسربت روحانيات الإسلام إليه عبر خباز يجاور المسجد، صار تعبده بالصلاة صحيحا. قابل باي المسيح “هكذا كان يرى أحد الكهنة” في الكنيسة، وكان مؤمنا بالهندوسية، أما سياسيا فاكتفى بالتصريح أن والداه كانا متذمرين من سياسة السيدة غاندي.
الانتقالات المكانية كانت سمة كثير من الأنبياء، إلا أن باي كان يكره ذلك، فيقول “إذا كان الإنسان هو الأجرأ والأذكى بين المخلوقات لا يحبذ الانتقال من مكان يألفه إلى آخر يكون فيه غريبا، فلماذا قد يقدم الحيوان وهو أكثر تحفظا على ذلك؟”. قالها وقت فرضت الضرورة على العائلة أن ترحل من الهند. حياة الاستقرار التي كان يريدها الصبي، لم يعشها المؤلف الذي تنقل بين كوستاريكا وفرنسا والمكسيك وآلاسكا وكندا، وأمضى مطلع شبابه بين إيران وتركيا والهند. ففاقد الشيء لابد أنه يتمناه في رواياته.
رحلة المعرفة التي يوردها المؤلف ويقدمها المترجم الشاعر سامر أبو هواش للعربية برشاقة وفهم بالغ، استمرت في المحيط بعد غرق السفينة، وكأنها لحظات من الكشف يمر بها الإنسان، حتى يصير إلى كما يريد. لم يفرّط الصبي لحظة في إيمانه بالله، لكنه في لحظات السؤال أو الشك، كان يخشى أن يغرق إيمانه في المحيط، فلا يعود بإمكانه انتشاله.
وجد الفتى نفسه وحيدا أمام ريتشارد باركر”النمر البنغالي” في مركب النجاة. كان الأخير من تبقى من صراع القوة الذي كانت حلبته لا تتعدى عشرين قدما. استطاع النمر بما يملك من قوة أن ينهي حياة الضبع الذي أنهى حياة الحمار الوحشي والشمبانزي. وجد باي نفسه أمام حيوان مفترس، وبقايا عظام ولحم حيوانات عرفها جيدا. شعر أن الحياة تحتاج إلى مغامرة كبرى من أجل البقاء، فالبقاء على القارب للنمر طبعا، طبقا لدرس “قانون الغابة” الذي لا يتوقف في الغابة نفسها ليمتد حتى أعتى ديمقراطيات العالم، لكن ما حاول باي فعله أن يبقى حيا بالإيمان، وبمساعدة ريتشارد باركر.
حاول الصبي المتشبث في الحياة أن يروض النمر، باستخدام “صفارة” كانت ضمن إحدى موجودات القارب التي اكتشفها بغريزة البقاء والمعرفة. المشهد كما رآه باي باتيل بعد مرور أيام أو أسابيع، أو شهور، لم يستطع إحصاءها بعد، يتلخص في “192 حبة دواء مضاد لدوار البحر، و124 صفيحة مياه، و31 علبة بسكويت، و10 ستر نجاة، و6 أنبولات أفيون، و2 فأس صغير، وعلبة سجائر صينية، ولوح من الشيكولاتة، وكتيب نجاة، ودفتر يوميات من 98 صفحة مسطرة، وصبي يرتدي مجموعة من الثياب الخفيفة وفردة حذاء واحدة، وقارب واحد، ومحيط واحد، ورب واحد“.
الحياة على متن قارب نجاة ليست حياة، هي أشبه بالألعاب الأخيرة لمهزوم في دور للشطرنج، لكنها أيضا لحظة يقترب فيها السائل من المعرفة، وكأنه العمل بقول الإمام الشافعي “ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج”. استطاع باي أن يقاوم الطبيعة وأسماك القرش والجوع والعطش والملح والشمس الحارقة والليل البارد وتقلبات المحيط. حاول أن يوفر لريتشارد باركر سبل الحياة، كما استطاع الأخير أن يعطيه صديقا، طالما احتاجه فرد يصارع الموت في عرض البحر. عاش الاثنان على القارب وكأنهما يمنحان الحياة لبعضهما، حتى بعد أن جرفهما تيار المحيط إلى الجزيرة التي يسكنها حيوان “الميركات” المستئصل لديه مفهوم الفرار والخوف جينيا، على الرغم من رؤيته لنمر بنغالي وحيوان آخر يسمى بـ”باي باتيل” يأكلان ما استطاعا منه.
نجح الفتى في النجاة وريتشارد باركر، بعد أن حط بهما القارب على سواحل المكسيك. بكى باي لأنه لم يستطع أن ينظر في عين النمر ويودعه الوداع اللائق بكائن وهب له الحياة. بكى باي كما لم يبكي من قبل، حتى وهو على بعد حفرة من الموت. بكى باي بعد أن طالبه مندوبا الشركة المالكة للسفينة الغارقة بقول حقيقة ما رآه في رحلة الحياة، وعدم تصديقهما لحكاية وجوده مع نمر بنغالي في قارب واعتبراه محض خيال. كانا يريدان شيئا قريبا من الواقع والمنطق. هنا صمت باي باتيل فترة، ليحكي حكاية أخرى أكثر قربا من المنطق، لكنها كانت أكثر بعدا عن الوصول للحقيقة.
خاص الكتابة