بفقد الانتماء الى الكون، الى الأرض، الى الهوية الإنسانية؛ تنصهر الشخصية في هوية أضيق وجغرافيا أضيق، فتكرس الحق والباطل لنصرتها، وتتفاعل معها بنرجسية تُسقِط جغرافيا العالم أو تتجاهلها. فالعصبية الوطنية لا تعكس هوية الانتماء الى “الوطن” بصفته المكون الأساس في بناء الشخصية، بقدر ما تعكس ترهل الشخصية بأدران مكونها الأساس. ومثلها الهوية القومية العالقة بمفهوم القوم والأمة، فقد تنحدر عنها عصبية تقوم على الاستعلاء وتمجيد الذات القومية واستبعاد الآخر. وأكثرها تعقيدا العصبية العقائدية المنحدرة عن الدين المشترك ووحدة تاريخه بالاستعلاء على عقيدة الآخر أو الخروج عليها، أو التناحر داخل فضاء العقيدة الواحدة بما تفرزه من عصبيات طائفية ومذهبية وخلافه.
وقد لعبت “العصبيات” دورا رياديا في تشرذم الهوية الإنسانية والنزوع الى حروب عسكرية، كالحروب الصليبية، والحروب الإسلامية أو ما يسمى بـ “الفتوحات الإسلامية”، أو ظهور النازية والصهوينة بتداعيات التعصب القومي الذي ساهم من جهة أخرى في سقوط الأندلس مثالا، وهلم جرا وحتى يومنا هذا المُستنزَف بمثالب عصبياته. فكثر ما تعقد مقارنات عبثية بين الهويات الثلاث بذات العصبية المراد تفضيل هويتها وتحقيق سيادتها على الأخريات. وفي هذا المعترك يهتك الفن فهما وتقييما لمسوغات عصبية بحته.
والصعيد الجامع لما ورد من عصبيات وما لم يرد، هي العصبية الواقعية أو التعصب للواقع. ولأن الفن كثر ما يطالب بتجسيد حقيقة أو التعبير عن واقع؛ نبدأ بسؤال عن المحطة الأولى لركوب الواقع أو مطالعته، وهو سؤال صعب لسحر بساطته: ما الوطن؟
هل هو الأرض التي يولد عليها الإنسان ويأكل من خيراتها معززا مكرما.. الخ.. وحسب التقرير النظري المبسط لتربية النشء، أم هو الأرض التي يولد عليها الإنسان مهمشا مقموعا، أو محبطا، ويأكل اللصوص خيراتها.. الخ.. وحسب التقرير الواقعي؟
أي التقريرين يبدو زائفا، النظري المتخيل والممنهج تربولوجيا، أم المعاش المنظور واقعا؟
أو أيهما يمثل الحقيقة، المتحقق على الأرض، أم الغير متحقق الذي يحلم الإنسان بتحقيقه ؟
والسؤال “الأهم والأبسط” لكونه مزدوج: ما الواقع وما الحقيقة؟
هل الحقيقة هي زيف الواقع، أم الواقع هو زيف الحقيقة؟ أو- بمعنى آخر- ما حقيقة الواقع وما واقع الحقيقة؟
حيرت “الحقيقة” الإنسان منذ بداية التأريخ وأتعبت مفكري العالم وفلاسفته على مر العصور. فهي إيجازا عالم المثل، أو جوهر الأشياء، وهي الفكر المطابق للواقع، ثم المحايث له؛ كما صورها فلاسفة الإغريق مختلفين فيما بينهم كما أختلف اللاحقون بعدهم. وحتى ظهور مفهوم “نسبية الحقيقة” مع ظهور الفلسفة التشكيكية والنتشوية والوجودية وغيرها، وحتى قيل أواسط القرن العشرين (لحسم الأمر لربما)؛ أن جوهر الفلسفة هو البحث عن الحقيقة وليس إدعاء امتلاكها.
وكل البشر بتقديرنا يؤمنون بنسبية الحقيقة من حيث يدرون أو لا يدرون. والذين لا يدرون يؤمنون بنسبيتها حد التعصب من حيث لا يعلمون. فالإنسان المتعصب طائفيا على سبيل المثال لا الحصر، يؤمن بأن هويته الطائفية هي “الحقيقة الراجحة أو الأرجح”، المتفوقة بنظره على “حقائق” الهويات الآخر المنتمية لنفس العقيدة، فهو يعلن “لاشعوريا” عن “نسبية الحقيقة العقائدية” عبر تعصبه لما يراه من نافذة طائفته.
أما “الواقع” فبثقافاته ومجرياته لا ينفك عن السلطات الصانعة له، السلطة السياسية أولا، وهي “سلطة لا أخلاقية” كما وصفها ميكافيللي أحد أقطاب الواقعية السياسية، وهي هكذا على مستوى التطبيق بتقديرنا. تتبعها السلطة الدينية التي تحاول تشكيل الواقع ليكون مدخلا حسنا لآخرة تشبع الإنسان بعد مماته، وهذا إعلان ضمني بتصورنا، عن إخفاقها في صناعة واقع مشبع في الحياة الدنيا يحقق طموحاته. وتتبعها سلطات شتى متنفذة برؤوس أموالها وأفكارها أو فلسفاتها.
والفن نافذة حرة لاسلطوية، مشرعة على “الواقع” المتمترس بهذه السلطات والمصاغ بها، يستلهم منه إبداعيا أو يعيد صياغته عبر مؤثراته على ذات الفنان وعناصره المحفِزة لها، وينأى عن تقديمه بشكول تقريرية أو صيغ شعاراتية أو نسخه بورق الكاربون. وبتقديرنا، ابتعاد الفن عن واقع أو حقيقة الى ضفة أخري أو عالم متخيل، هو بحد ذاته تعبير عن واقع غير مُشبِع أو حقيقة. والتصادم معه أو زحزحته فنتازيا، ثضمين لواقع مؤلم. تخريبه أو تجريده هو إحالة الى واقع مرفوض. وهذه أمور يلهج بها عالم الفن بوسائله الخاصة ويستلهم محفزاتها الجمالية عبر علاقة جدل وجداني مع العالم توحد أضداده أو تتصارع معها بكيفيات مبتكرة، فالسخرية والنكتة السليطة على سبيل المثال، هي المكون الجمالي في الكوميديا السوداء. والانتقال من التركيز على الشكول الكلية للأجسام الى ابراز سطوح أجزائها هندسيا، هي المكون الجمالي في الرسم التكعيبي. وتحرير متشظيات المكبوت في مكامن اللاوعي هي مكون جمالي في الفن السوريالي.. وهلم جرا.
للواقع والحقيقة قراءات لا تنتهي مرحليا أو بعد مضي المرحلة، ومطالبة الفن بتناول حقيقة أو واقع هي مطالبة غرضية هشة لفرض قراءة بعينها ومن نافذة محددة تقيد الفن وتتصادم مع نافذته الحرة. فلكل فنان فلسفته فيما يقرأ ويحيل الى أسلوبه الفني، بهذا تتسع نافذة الفن وتمتد آفاقه في كل الجهات والشعاب، وتتنوع مناخاته ومساراته بمصداقية بعيدا عن التصنعات الجبرية. والتأثر بمدرسة أو فلسفة بعينها يفقد مشروعيته إذا تقهقر الى نعرة عصبية ضاغطة باتجاه محدد. وكان الرسام والنحات الإيطالي مايكيل انجيلو على سبيل المثال، يرى في كل صخرة تمثالا يسكنها، يسعى النحات الى اكتشافه والاشتغال على تحريره من ثقل أوصالها الزائدة. تلك كانت فلسفته أو تصوراته الخاصة التي أثمرت عن منحوتات فنية باذخة الجودة والجمال. وكل الفنون بتقديرنا نحت في صخور صماء يرى الفنان فيها ما لا يراه غيره ويحاول تحريره بأزميله الخاص.
عودة وجيزة الى “الذكاء التذوقي” الذي ذكرناه هامشيا في الجزء الأول كضرورة لقراءة الفن. مع أن الذكاء بمفهومه العام، يرتبط بعوامل كثيرة مثل الوراثة والبيئة والثقافة، وترتبط به الذائقة تباعا؛ إلا أنه لا ينتج بالضرورة “ذكاءً تذوقيا” ما لم يتفوق على التعصب بشتى صوره ويتجاوز الحقيقة الى نسبيتها. فحتى القيم العليا المتفق عليها عالميا هي مطلقة فقط بدلالاتها اللغوية المجردة، فهي نسبية حال ارتباطها بموقف أو حدث. بالذكاء التذوقي يتسنى للإنسان فتح نافذة سايكولوجية صافية لفهم الفن لا تعكرها العصبيات. فلا يطلق أحكاما متوترة ولا يدفع بالفن كما يحلو له أن يكون، وطنياً أو قومياً أو عقائدياً، أو فناً سياسياً أو تراثيا، فالفن يحتمل كل شيء فلا يحتمل الجبرية. وينأى بنفسه عن غائيات التدنيس والتقديس الموحشة الى غايات فارهة تسع الهوية الإنسانية بذخيرتها الجمالية وأساليبها التعبيرية وذائقاتها المختلفة، والفن في النهاية ليس موضوعا بل أسلوبا، والأسلوب لصيق بكينونة الفنان وجوهره الوجداني، مع ضرورة التفريق بين الأسلوب والذاتية.
والإنسان وحسب الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز، هو “الحقيقة الأساسية” التي يمكن إدراكها في العالم، وبالإنسان وحده، يصبح كل ممكن واقعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوحة “الجذور1943” للفنانة المكسيكية: فريدا كاهلو
ـــــــــــــــ
خاص الكتابة