الثقافة في محاربة الإرهاب: رؤية استراتيجية لهيكلة وزارة الثقافة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تتأثر محاولة تقديم استراتيجية ثقافية مستقبلية بطريقة النظر للثقافة نفسها، ومن ناحية أخرى تتأثر طريقة النظر للثقافة بمتغيرات الواقع. ومن ثم فأية «استراتيجية ثقافية» لا تمتلك وعيا بنظرتها للثقافة وبضغط متغيرات الواقع عليها، لن تكون ناجحة في تحقيق أهدافها؛ وعليه فنقطة الانطلاق الأولى هي تحديد «الثقافة» وفق وجهة النظر المتأثرة بضغط الواقع، وبعيدا عن التأصيل النظري ومتابعة تعريفات «الثقافة» ومشكلاتها عبر التاريخ في جذورها الألمانية والفرنسية([1])، فإنني أُقَدِّم نظرتي للـ«ثقافة» بوصفها مسئولة عن تحديد وجهة نظر الإنسان تجاه العالم، وتحديد رؤيته لقضاياه وكيفية التصرف بشأنها. إنها ما لا تقوله «الثقافة» بمنتجاتها من أدب وفن ومعرفة، ويتوجب على الإنسان أن يقوله ويفعله تجاه مشكلاته بالاعتماد على ثقافته. والملاحظة من هذا التعريف أني أميل – في وقتنا الراهن - لرؤية الثقافة من جانبها الاجرائي في تأثيرها على «المتلقي» - المواطن العادي، باعتبارها مُوَجِّهَة لرد فعله ومحددة لوجهات نظره.

ولا شك أن هذه النظرة متأثرة بالظرف الطارئ الذي نعيشه مع هجمة الارهاب على الدولة المصرية، وبملاحظة تأثير خطابات تتخذ مظهرا ثقافيا وفي جوهرها تحث على كراهية الوطن أحيانا، فتحول بعض المواطنين إلى إرهابيين؛ لذا فإن نظرتي هنا مغايرة من حيث المُنْطَلَق عما هو معهود من نظرة «الثقافة الرفيعة» دون أن يعني ذلك التقليل من قيمة «الثقافة الرفيعة» وإنما الهدف هو الانطلاق نحوها من نقطة محددة في زمان ومكان لهما ظروف بعينها.

ومن هذا المنظور يصبح «المثقف» صاحب رؤية تجاه مجتمعه وتجاه واقعه، ويرغب في نشر رؤيته؛ لاعتقاده أنها قد تؤدي لتزويد «المتلقي» بما يمكنه من حل مشكلاته. هذا المنظور يناهض وجود «مركزية» لأحد أطراف الثقافة على حسا أخر. حيث تتوزع أطرافها بين «المثقف» المنتج للثقافة، و«المتلقي» بمستوياته، و«السلطة»، وفي ظل غياب «المتلقي» الذي قد يكون متلقيا واعيا يتابع ويرصد ما تقدمه مؤسسات الثقافة دون التفكير في أن يكون صاحب انتاج ثقافي، أو مجرد متلقي عادي لا يهتم بأن يُثَقِّف نفسه، إلا أن كليهما – المتلقي بنوعيه – غائب عن الدخول في دائرة مؤسسات الثقافة، ليصبح الصراع ومنذ زمن حول الاستحواذ على المركزية الثقافية من قبل «السلطة» أو «المثقف».

وبديهي أن أية «سلطة» تمول أنشطة ثقافية ستحاول استغلال هذه الأنشطة كأداة داعمة لها، والطريف في الأمر أنه حتى هذا الهدف البسيط – توفير تدعيم شعبي للسلطة من خلال الثقافة – والذي يتحتم على المثقف أن يكون دوره مناهضة ذلك متى اعتقد أن هذه السلطة لا تعمل لصالح الشعب، أو أن يكون داعما لذلك متى اقتنع أن هذه السلطة تعمل لصالح الشعب. رغم هذا، سجلت مؤسساتنا الثقافية في ذلك فشلا ذريعا؛ لتتحول منذ فترة كبيرة إلى أدوات لتسطيح الثقافة والمثقفين، مما جعل التيار الآخر: «الارهاب» يصبح الأعلى صوتا والأكثر قدرة على استقطاب الشباب في مواجهة مؤسسات ثقافية لم تَغْرِس مفاهيم الوطنية وبناء الوطن. وعليه سأفترض أن «السلطة» في المرحلة الحالية عليها أن تنظر للمؤسسات الثقافية بوصفها المنوط بها ايجاد دعم شعبي لفكرة «الوطنية» نفسها، ولمحاولة بناء الدولة ومحاربة الإرهاب، دون تحميلها بأكثر من ذلك. خاصة مع ميراث طويل من الاخفاق الثقافي المؤسسي.

وبناءً على ما تقدم يمكن القول أن رسالة الثقافة في وقتنا الراهن وفق ما أراها يجدر أن تكون: إيجاد المواطنِ الصالح، والإسهام في تكوين وجهات النظر والقناعات الصائبة لدى المواطنين، وتعليم المواطن كيفية تحليل المواقف وفهم الأبعاد واتخاذ القرارات السليمة، وتقدير خطورة تأثير قراراتهم على مستقبلهم، وعلى مستقبل الوطن، إنها أداةٌ أساسية لتطوير السلوك وتقنين ردود الأفعال تجاه القرارات المستقبلية. وأدواتها في ذلك المعارف والفنون والآداب والإعلام وغيرها من وسائل الاتصال المختلفة التي تتجلى فيها مظاهر الثقافة، كالمسرح والسينما والتليفزيون والراديو والندوات والمؤتمرات والجرائد والمجلات والفضائيات حتى المقاهي ولقاءات الأصدقاء، فهي تجليات ثقافية يحدث فيها فعل ثقافي بشكل واعٍ أو غير واعٍ من جميع أطراف اللقاء.

يقول ((ادوارد سعيد)): «وأنا أرى أن المثقفَ الحق يتفاعل مع أوسع جمهور ممكن، أي أنه يتوجه إليه (ولا يستهجنه) فهذا الجمهور الواسع هو السند الطبيعي الذي يستمد منه المثقف قوته»([2]). ويمكننا سحب الأمر ذاته على المؤسسات الثقافية، ومن ثم لتحقيق الرسالة التي ذكرتها، لا بد من مراعاة أن يكون التخطيط للنشاط الثقافي يستهدف أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة، ويتم الوضع في الحسبان مقدار الانفاق مقارنة بمقدار التأثير، فالأنشطة التي تدور في القاعات المكيفة المغلقة، والمسابقات والجوائز التي يجني ثمارها مثقفون متعالون منعزلون عن الواقع، ليس لها تأثير حقيقي على الأرض. ومن ثم يجدر التحول لأنشطة رحبة ذات كثافة جماهيرية، تستطيع أن تناهض ما أحدثته قيم المراء والجدل وإرباك العقل في برامج «التوك شو»، والقنوات المُوَجَّهْة(!).

من المنطلقات السابقة فإنني اقترح أن يتم إعادة هيكلة وزارة الثقافة، وفق ثلاث قطاعات، «قطاع الفنون»، و«قطاع الاصدارات»، وقطاع «التخطيط الثقافي». يختص الأول بأدوار وزارة الثقافة في المسرح والسينما والفنون المرئية والمسموعة، مع دمج الهيئات المختلفة الخاصة بذلك تحت ادارة هذا القطاع، وبلائحة مالية موحدة. وفي اعتقادي، أنه بعدما تعرضت مصر لضربات في ريادتها الاخبارية، في ظل عدم قدرة القنوات المصرية بشقيها الخاص والحكومي، أن تواجه ضغط بعض القنوات الخارجية المُحَرِّضَة مواجهة فعالة؛ فإننا يجب – على الأقل – أن نسترجع ريادة الدراما والتمثيل.

يمكن لوزارة الثقافة بفاعليه وبتكلفة زهيدة أن تسترجع ريادة المسرح، وريادة الفيلم المصري، وتخيل إذا ما تم توظيف قضايا الوطن والمواطنة في فيلم مصري، فكم مواطن سيشاهد هذا العمل، ويتأثر به، قارن هذه التكلفة، بتكلفة الأنشطة الأخرى مهما كانت زهيدة في الثمن، فكم من التأثير تتركه في أعداد المواطنين؟ بمنطق الحسابات هذا سنكتشف أن فيلما روائيا أو مسرحية أو مسلسلا أو أغنية أقل تكلفة بالمقارنة بنتائجها عن الندوات، أو المطبوعات، شريطة أن تقدم هذه القضايا في أسلوب فني راقي وجمالي وليس في أسلوب توجيهي مباشر.

تمتلك وزارة الثقافة بالفعل العديد من الفرق المسرحية الموهوبة على مستوى الجمهورية بما يُمَكِّنْها عرض كم خرافي من المسرحيات على مستوى الدولة، اتخيل لو وضعت خطة لنشاط على مستوى الجمهورية بفتح قاعات المسارح في جميع المحافظات لتقدم عليها مسرحيات عن بناء البلد، ومحاربة الفكر المتطرف مع عمل تدوير لهذه المسرحيات؟ ماذا إن أمكن مشاركة بعض الفنانين المشهورين في مثل هذه التجربة في أماكن هنا أو هناك على سبيل التطوع؟ إن خطة جيدة لمسرحيات ذات نصوص مدروسة ومشاركة معقولة حتى من نجوم الصف الثاني مع الفِرَق المسرحية على مستوى الجمهورية كفيلة بإحداث حالة تأثير تفوق بكثير طباعة ألف كتاب، وأرجو ألا يفهم من كلامي أنني أقلل من قيمة الكتب والدوريات والمطبوعات.

بل لأهمية الكتب والدوريات ستكون من نصيب «قطاع الاصدارات»، على أن تكون مهمة هذا القطاع موزعة بين: اصدار المؤلفات بأنواعها ما بين الابداع أو التراث أو الترجمات وغيرها، واصدار الدوريات والمجلات العلمية، لكن ما أؤكد عليه هنا ضرورة أن تكون جميع الاصدارات نابعة من جهة واحدة فقط مركزها في القاهرة واصدارها يخرج من القاهرة، وتمثل أفرعها في المحافظات والأقاليم أماكن تلقي المساهمات وأماكن توزيع المطبوعات في الوقت نفسه، وهو ما يعني تحقيق العدالة بين جميع المؤلفين على مستوى الجمهورية دون أن يوصم مؤلف عن آخر بلقب يقلل من قيمته مثل ألقاب: «أدباء الأقاليم»، ليصبح التقدم بطلبات المشاركة في النشر والتأليف عبر الانترنت. وبعدما يقدم المؤلف مشاركته، يحصل على رقم كودي، يمكنه به الدخول بعد فترة محددة يعرف من خلالها التقرير الذي كُتب عنه من لجنة القراءة، ويمكن التظلم للجنة فض منازعات القراءة، إذا ما شعر بأنه ظُلم، أو إذا اعتقد أن مؤلفا معينا لا يستحق النشر، وهو ما يعمق فكرة العدالة، ويسهم في عدم حرمان مصر من مؤلفيها الجيدين أيا كان موقعهم، ويقلل من المحسوبية والوساطة، وطبعا بالنسبة للمؤلفات الدورية، هي بحاجة ماسة للدمج بين الكثير من الاصدارات التي ستتحقق فاعليتها أكثر لو تجاورت معا.

القطاع الأخير هو قطاع «التخطيط الثقافي»، وهذا القطاع في تصوري ينقسم لجزأين، الأول: «أكاديمية الدراسات الثقافية»، التي يجدر أن تنشأ ويكون دورها رصد ما هو موجود على الواقع المصري من خطابات ثقافية متنوعة أيا كان مصدر هذه الخطابات، وتحليل ما في هذه الخطابات من قوة ومنطلقات وعمق، على أن تكون دراساتها متبعة لأسس تحليل الخطاب على الغرار العلمي، وليس على غرار الحراسة الثقافية والتربص، لأن الهدف هو الالمام بالخريطة الثقافية العربية، والمصرية، والعالمية، والتحليل الثقافي بالأسس العلمية هو القادر على أن ينبه لما في أرض الواقع من خطابات يمكن تطويرها والاستفادة منها في تطوير الواقع المعاش، وأيضا التنبيه لما في بعضها من خطورة حتى إن كانت لا تُظْهِر ذلك في وقتها، ولنا مثال في خطابات بعض من قدموا أنفسهم في الثمانينيات على أنهم خطاب ديني معتدل، ثم كشف الوقت أنهم قناع لفكر متطرف ينتظر تحقيق أهداف معينة في توقيتات معينة.

وعلينا ألا نغفل أيضا دور تحليل الخطابات الأجنبية التي تتناول الثقافة المصرية، والسياقات العربية بعامة، ويمكن الاستعانة في هذا بما تتيحه نظريات ما بعد الاستعمارية من قدرة على اعادة النظر في علاقات الشرق والغرب، بشكل يسهم في كشف المسكوت عنه وتوضيح الكامن في عمق الخطابات الغربية عن الشرق، وعمق المتسرب من هيمنة غربية في خطابات الشرق، مهما كانت جهات اصدار ذلك تدعي الحيادية أو المناهضة.

الفرع الثاني من التخطيط الثقافي يجب أن يتضمن بناء قطاعات المتابعة لدراسة تنفيذ ما يتم وضعه من استراتيجيات وخطط، وتقييم مردودها، واقتراح تعديلها إن لزم الأمر، واقتراح ما يتحتم فعله في المستقبل أيضا، بالإضافة بالطبع لمتابعة المهام الادارية والمالية لقطاعات الوزارة، وتقييم مردود نجاح الوزارة في أرض الواقع من خلال استطلاعات الرأي والاستبيانات وغيرها.

لقد اختزلت الكثير من المنطلقات التي تحتاج لتفصيل فيها حول كيفية وسبل وتوقيتات وطريقة تقديمها وعرضها للجمهور لكون ذلك أكثر مما تحتمله الدراسة هنا. من ناحية، ولكونه يحتاج الإرادة السياسية الداعمة لذلك من ناحية أخرى؛ لذا أؤكد على ضرورة فهم أن تطوير مؤسسات الثقافة في مصر لن يكون من خلال طرح رؤى في مقالات ثقافية فحسب، بل أعتقد أن الخطوة الأولى يجب أن تكون مؤتمرا قوميا للثقافة برعاية رئاسة الجمهورية، يطرح فيه مثل هذه المقترحات، ويتم مناقشتها بحرية وباستفاضة وبحساب للتكلفة المادية والمردود المتوقع والمحاذير أيضا، وما ينتج من هذا المؤتمر من توافق فعلي حول هيكلة وزارة الثقافة، يتم اقراره بمرسوم قانون مع توفير الدعم المالي الممكن لها في ظل الظروف الراهنة. فالحل الأمثل لمواجهة الإرهاب هو غرس ثقافة البناء والمحبة والتحضر والتطور وفتح الأفق لتحقيق مستقبل أفضل.

 

 



[1] – راجع: عن تطور كلمة (Culture) كتاب:  دنيس كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة د.منير السعيداني، مراجعة الطاهر لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007م، صـ20-28.

[2] – ادوارد سعيد: المثقف والسلطة، ترجمة د.محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2005، صـ23.

!يجدر هنا أيضا مناهضة الفكرة التي ارتبطت في أذهان البعض بربط ما هو جماهيري وشعبي بما هو متدني ثقافيا، بل الهدف الأساسي هو الرقي الجماهيري، وتحقيق أهداف من هذه الأنشطة الجماهيرية تسهم في الارتقاء بالذوق العام وتعظيم القيمة الثقافية لما هو شعبي أو جماهيري، ليصبح على طاقة وقدرة مواجهة التحديات الراهنة.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار