حوار مع الشاعر العراقي جان دمو

جان دمو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

في ساعة متأخرة من الليل، وجدناه في المنطقة الغامضة من مدينة الملاهي، وهو ينهبُ الحيطان بشعره، حيث لم يترك حائطاً هناك، إلا وكتب عليه مقاطعاً من شعره، دون أن يرف له جفن.كأسٌ بيد.قالبُ الطباشير باليد الأخرى. فيما كانت رأس الشاعر جان دمو (1943-2003) مليئة بالأفكار وبالدموع والملاعق وبالغيوم وبالقواميس التي تركت أثراً في نفسه وثقافته وكأسه. 

وجدناه في صحة غير منحرفة عن الخط الطبيعي، فقد امتلأ فمه بالأسنان، وتجاوز وزنه وزن الذبابة، فصار دمو شاعر الدفاع عن الحريات والمشتغل بهواية جمع الطّوابع البريدية ومعلم الهاربين من طقوس القمع ومحاكمات الإرهاب.

كأنه حارس الأرواح الممزقة على باب الآخرة، يريد قول نفسه، ثم يسقطُ في تراتيل ما كان يكتبه ضدّ الأسلاف المشبّعين بالرمل ونظرات التحسر والكبت المتواري في أقسام الجسد.

ما أن اقتربنا من الشاعر جان دمو، حتى رأيناه كمثل قامة من بخار، وهو يمدّ إلينا أصابعهُ دون أن ينهض.وكذلك، فقد كان الشاعرُ غير مكترث بوجودنا، ولا رغبة عنده للحوار.مع ذلك طرحنا عليه السؤال الأول بالضدّ من رغبته.

  ■ هل تظنُ الشعرَ مخلوقاً من اللحم والموسيقى يا جان؟

_ ليس عندي من الأسنان إلا واحداً،  ويفضلُ الشرب على اللحم.

 ■ والليل الذي تعيشهُ وتمشي به مثل ذلك الراعي الذي يقودُ قطيعاً ! ألا تَعُدّهُ من الأثاث الشعري؟

_ أنا لا أعتبرُ الليلَ إلا سريراً للشراب، وصولاً إلى خراب الوعي المؤلم الذي لم يتركنا وشأننا في الثمالة الشعرية التي نريدها.

 ■ أتقصدُ الثمالةَ التي تجعلُ من الكأس مدينةً، ومن الخمر أنهراً تجري بين الشعوب؟!!

_ أجل.فأنا أفضل طوفان الثمالة على طوفان الدم.كل السفن وكلّ المراكب التي توهمنا بامتلاكها في دمعنا، وجدناها افتراضية ومحطمة، وليست متوفرة إلا على ورق من رسوم أطفال، سرعان ما شبوا وانتهوا قرابين للحرائق التي ما تزال مشتعلةً بنا كأوراق وأسمال وساعات تملؤها الزيوتُ مع الدماء .

 ■ وهل يعتبر جان دمو نفسَهُ حنفية الربّ في صحراء خَلقه؟

_ حنفية عرق.نعم.بعد أن فشلت كل الأدوية بمعالجة آلام الناس من الكوارث ومن آثام سلاطين الحريم والسيوف والبصاق.

 ■ هل تعتقد بأن إغراق الآلام بالخمور، سيحدّ من ضجيج الموت حولكَ وحول الآخرين؟

_ بالتأكيد. فكل قنينة عرق زحلاوي أو مستكي، لهي أفضل من مؤلفات عفلق وماركس وميكافيلي.الخمر غير الحبر.أنه الماء الأول للكتابة التي تقودك نحو الفردوس الموجود داخل أعماقك دون حراس، فيما يقودك الحبرُ إلى غرف الإعدام ومعسكرات الاعتقال وخنادق الحرب.بمعنى أدق،  فالحبرُ لا يقود إلا إلى العدم.

 ■ حتى الحبر الذي تدوّن به شعركَ يا جان؟

_ لم أفكر يوماً بملاحم التدوين، ولا بحفلات الطباعة. فأنا عشت مدوّناً أسمالي على حبال الريح.

 ■ ولم تخش من الريح لو دخلت عليك، فقلبت كأسك؟

_ لم أخفْ من ذلك أبداً، فأنا عقدتُ صلحاً مع الريح،  لمحو ما يعكر مزاجنا ونحن في الطريق إلى اللغة الأم.

 ■ ومن هي اللغةُ الأم عندك يا جان؟

_ القنينةُ الممتلئة بالمجوهرات التي تقودك إلى عوالم الغيب، فتسبر.فتدرك.فتعلن.فترتجف قليلاً، بعد ذلك تصافح الآلهة دون خوف، وتجلسُ على حافة الكون لتشرب نخبك الأعظم.

 ■ كأن كلّ شئ عند الشاعر جان دمو، يرتبط بالخمر ومشتقاته؟!!

_ولمَ لا يكون ذلك تشريفاً، إذا كان الخمرُ أبو المخترعات، والحاكمُ الشرعي الذي تتحولُ بموجبه المادةُ في أجسانا إلى أسلاك لاستدرار الكهرباء.ألا تدرك بأن كل كأس من العرق، هو في حقيقته لمبّة على الطريق.

 ■ ألا تظن بأنك خنقتَ حياتكَ داخل قنينة  يا جان دمو؟!

_ لا تخف.فأنا سمكةُ سردين تستطيعُ التنفس في أضيق مجاري الحياة وأقساها ظلمةً وجاهليةً.وإلا فبماذا تفسرُ وجودنا كمواكب لعزاء التاريخ في هذا المرحاض الاستراتيجي المهوّل؟!!

 ■ هل تتعامل مع جسدكَ مثل قطعة نقود سقطت قيمتها النَّقدية، فلم تبالِ كثيراً حتى لو تحوّل العالم إلى بنك ليس فيه من الأوراق سوى شهادات دفن الموتى؟

_ لم تكن المسألةُ عندي عَويصةً.فأنا خرجت من رحم شبيه بمقبرة، وعشت حياتي حارساً لمقبرة أخرى، تُسمى سفر الموتى الأحياء.

 ■ ولكن جان دمو لم يكن متوحشاً.مثلما هو غير مختص بعلوم الأنثروبولوجيا ذات الاختصاص بعلم الإنسان من حيث هو كائنٌ طبيعي واجتماعي وحضاري، لتحكم على مصير الكون؟!!

_  سأتنازل لك عن ممتلكاتي المعرفية بالمجان.وبإمكانك اعتباري من  اللَّقَي التي تم اكتشافها متحجرةً في أي موقع أثري عراقي بعد تنقيب عرضي بالمصادفة.

 ■ متحجرةً بالشعر !  

_ أجل.فأنا من مقتطفات الشعر الذي سكن الأرض قبل ملايين السنين.كنت مشمولاً بقاموس البرق كمُشعلٍ للشموع في حانات الآلهة.

■ وماذا تظن شعركَ بحامل من جينات قرون زمان؟

_ كنت مثل نجمٍ سيّار في ساعة مليئة بالنحل.كلما حاولت الخروج من الوقت، يبدلُ لي الربُّ وجهي، فأستعيدُ نفسي بمخلوق آخر.وهكذا كانت النتيجة بالأخير:جان دمو لا عب الغُولْف تحت عرائش العنب في الحقول الثملة اللامتناهية.

■ ثمة من يقول بأن ((الإنسان يجيد الهدم دون بناء شئ آخر غير ما يهدم.وهكذا إذا كانت لدى ((دادا)) الإرادة والحاجة لهدم كل أشكال الفن الخاضعة للمذاهب، فكانت بصورة متوازية، خاصة لضرورة التعبير عن نفسها )) فما رأيك بما تحدث جورج ريبمون ديسانيو عنه؟

_ أنا لم أهدم إلا في عالم الكلمات. هدمتُ بعض الجدران، ولم استطع أن أحفر في السقف، ولا أن تشرفتُ بتقويض الأعمدة أو الدعائم التي تقوم عليها المذاهب الأدبية.بعبارة أدق، وجدتُ حريتي بإطلاق النار على صور الشعر القديمة ورموزه.

■ هكذا كانت أداة التعبير عندك وحسب؟

_ بالضبط.فأنا لا أملك مصفحة أو دبابةً لاقتحام مرآة الشعر التي كان يتناظر عليها رؤساء القبائل من رواد ومعلمين ونقاد خردّة.جان دمو الذي أمامك الآن،  استطاع التعبير بواسطة البخار الشعري عن نفس قلقة من شدّة اضطرابها وسط الحقائق الميتة.

■ ولم تكن منشداً إلا عن طبيعة نفسك الغارقة في كأس؟

_ ذلك كان صحيحاً.فطالما تصورت نفسي وكأنني باخرة تايتنك في قدح من عرق هبهب.

■ بما يؤمن جان دمو؟

_ بالحَبْل

■ أي حَبْل تقصدُ يا جان؟

_ حَبْل المتاعِ الروحي الذي يشدُّ الكائنات إلى حبلِ غسيلٍ آخر، هو موصولٌ  ما بين الإيمان وبين الكفر.

كنت تدفع بنفسك إلى سطح اللغة، فيما ظلالك تبقى محتجزة في البواطن.كيف يفسر لنا ذلك الشاعرُ جان دمو؟

_ اللغة الشعرية كما عرّفها صاحب الأرض اليباب توماس إليوت، هي لغة شخص يتوجه إلى شخص آخر. وأنا لم أدخر جهداً بالهروب من جميع القوانين التي تحاول تنظيم الأرواح داخل مواسير اللغة، بلاغةً ومجازاً.غباراً وحديداً.كآبةً وجنساً.نموراً أم ملائكةً.كل الكلام الذي يتكوم بفمي، سرعان أجدهُ نزيفاً يسرعُ بالهجرة من الداخل إلى الخارج، سواء أكان ورقاً أو هذياناً أو سبورةً تبكي عليها كل مخلوقات حروف الحنين الاستوائي.

■ كيف يمكن لجسد ضئيل مثل جسد جان دمو،  أن يحمل بداخله كل هذا التكاثر الشجني.وكلّ تلك الصخور التي تساقط من أجل أن تعيد على مسامعنا الأساطير المرفقة بذَوّاقة الآلام التي تتداخل ما بين السوريالي والملحمي والبياض العدمي؟

_ البوهيمي الذي يتمرّن على الحياة بالإعاشة على مذكرات الذهن، وتراب الدم المتطاير من لوحة الجسد، لن يبتعد عن هذا التصادم الرومنطيقي ما بين الغيوم، لحظة أن ترتفع عقيرةُ الرعد، فيكتب لنا عن أحاسيسنا بذلك الحبر مجهول المصدر.لقد كنتُ أشبه ببلم – زورق صغير – يطفو على مياه مُسكِرة، ولذلك حافظ على التوازن ما بين كثافة الكحول وكثافة الماء.

■ يبدو أن عقلك رياضي.هل تعتقد بذلك؟

_ الرياضيات تخوف.إنها الوحدة غير المستقر تماماً.فأنت إن كنت واحداً، يجلس بمعزل عن بقية المخلوقات، سرعان ما يضربك أحدهم بمجموعة أرقام،  قد تذهب بك إلى وراء الشمس، بمجرد عملية حسابية عابرة.

■ ولكنكَ لم تدخل باحة الشعر الرياضي الجاهلي العمودي، بل قفزت من على ظهر الدابة الشعرية العراقية إلى حوض بناء الشعر الأوروبي من خلال قراءاتك وترجماتك لبعض رموزه بشكل مبكر من حياتك.فما الشئ الذي سحرَ دمو إلى أوروبا الشعرية بالضبط؟

_ كانت تلك المرحلةُ هي زمني الطفولي بالضبط.فكلما كنت أقرأ نصاً لشاعر غربي خَلّاق ومميز، أحسُ بأن عَظماً من عِظامي ينكسر، وحتى فقدتُ كل شئ، ولم يبق من جسدي سوى العمود الفقري الذي كنتُ أستعين به على للالتصاق بجدران الحانات التي أخذت هي الأخرى تتقلصُ وتختفي بالتدريج تحت تأثير رياح الدين السموم والأنظمة التي بدأت التمظهر بالأسلمة، تماشياً مع ذئاب المذاهب وثعابين الطوائف، ممن أحاط الحكامُ أنفسهم بها.كانت تجربتي الأولى مع الشعر الغربي، تعتمدُ على التنزه في تلك الحقول، ومن ثم نقل بعض ثمارها إلى اللغة العربية، لكسر الجمود والترهل والميكانيكية العمياء التي كان يكتب بها شعراء الستينات.

■ وكانت كتابات شعراء الستينات فما فوق تضحكك، وكأنك الرصاصة الخارقة الحارقة للأجيال.أليس في ذلك تعالياً وشموخاً لا سند له شعرياً عندك؟  

_ السخرية من الرموز هي الملح في شوربة الشعر العراقي.كان السياب والبياتي ومن في جيوبهم، لا يكتبون شعراً، إنما يصنعون أثاثاً –كراسي ورحلات وتخوت وشبابيك، مثلهم من النجارين الذين لم يفقهوا علم ( الديزاين ) والتصاميم الحديثة بعد. كنت أطردهم من حضوري ومن ذهني في آن واحد.وأستريح.

■ كنت تستريح في الصعلكة والتشرد؟!!

_ ما من مكان للاستقرار إلا التشرد.الله أراد لي تمضية الوقت عارياً من كل إقامة ومن كل نظام اجتماعي وأدبي وسيكولوجي.فالوجود الذي أنا موجود فيه، إنما هو وجودٌ بلا ستائر.حتماً ستبتسم الأرانبُ لهذا الجواب الفلسفي.وربما أنت أيضاً.أليس كذلك؟

■ هل يمكنُ اعتبار جان دمو شاعراً ملوثاً بالسوريالية فقط، أم كان من أحد قرابينها على الصعيد الشعري؟

_ يمكنكَ إدراجي مع مخلوقات ((غيرنيكا)) بيكاسو.  فأنا أيضاً تعرضت للقصف التعسفي، وما زلت غائباً عن الوعي حتى وأنا في هذا المكان غير المأهول بالسكان في هذه المناطق من السموات.

■ هل سبق لكَ وأن دخلتَ حرباً يا سيد جان؟

_ لقد سبقني الموت إلى تلك الحروب، بعدما تركني عموداً فقرياً في زجاجة فارغة من الكحول.ربما أراد أن يحتل مكاني في القتل وفي القتال على حدّ سواء.

■ كيف تكون إقامة الشعر في الحرب؟ كيف يتنفس؟كيف يتحرك؟كيف يهربُ من المدافن العظمى

_ الشعرُ بندقيةٌ من الشيكولاتو، رصاصُها لوزٌ وسكر.وكلنا موتى حبّ تحت تأثير عاصفة الشغف.قد تسألني عن نسواني، فأقول لك بأنهنّ حبالى وشبعنّ من تراثي، وقد تراهنّ ينهضن من موتهنّ للبحث عني في هذا الفراغ الكوني عبثاً.

■ أنتَ خرجت من الدنيا بلا امرأة.ودخلت الشعر بضجة شتائم وعطالة وصعلكة، أكثر مما كتبتَ شعراً في حياتك التي جعلتها أشبه بصندوق الدنيا، مفتوح النوافذ لمختلف الرياح والعواصف.

_ ما كان ينقصُ عالمي، بَطّانيّةٌ صغيرةٌ لتَغْطية سّيقان القصائد.

■ كان ذلك في العالم السفلي يا جان دمو، فماذا أنت بفاعل في العالم العلوي؟

_ انتظر مرور  (ياقوقة) الربّ من هنا، لأرسل معها لليل الأول قصيدة كتبتها عن فراق أختي الأرض.أريد تكرار تلك الأغنية القديمة : ((ياقوقتي..وين أختي؟ ))

■ هل تستغلك ذكريات لشئ ما؟

_ ذكرياتي فَطيرتي اليومية المحشُوة بالمُرَبيّات الذميمة، تلك  التي ما تزال تحفزني على أن أكون مستعاداً من قبل ذلك الماضي اللذّيذ.

■ هل تريد العودة للأرض يا جان؟

_ أجل. وذلك عندما يلزمونني بمهنة أو عمل ما هنا، وإذا كان لابدّ من ذلك وحتماً،  فما على الله أن يرمي بي إلى التيه القديم، لأكون في شارع أبي نواس ثانية هناك هناك هناك في أكثر مناطق الخمور نفوذاً في التاريخ.

■ ولكن برلمان جمهورية الموز قام بحظر بيع  الخمور، مُحرماً إنتاج المسكرات  يا جان.

_  لماذا؟!

هل رحلَ ثلاثة أرباع الشعب من العراق إلى الخارج، لممارسة حقهم بتخمير البلح والعنب والبتيتا فيما وراء الحدود، ليقوموا بتهريبها زجاجات إلى الداخل بعشرات أضعاف التكلفة؟!!

■ لا أعرف.ولكن قد يكون من وراء ذلك الحظر منفعة ما أو حكمة؟

_ما زلتُ ثابتاً على أقوالي بهذا الشأن.فحاجة بلادي للكحول، تتعدى الملايين من الأمتار المكعبة من الكحول، لغرض غسل العراق من الفساد والجراد والحرامية.

■ هل فكرت بضرورة أن ينحتوكَ نَصباً في شوارع بغداد؟

_ لا أبداً.لست في ذلك الوارد بالمطلق.وجودي في بغداد، كان تمثالاً متجولاً بين مختلف الأمكنة، لأنني وجدت في تلك العيشة حريةً أقوى من جماليات أي نَصبٍ في الوجود.

■ ثمة من يقول،  بأن الدخول في باطن الشاعر جان دمو، لا يحتاج إلى رفش أو بلدوزر، وإنما يحتاج إلى تحريض على الكتابة.ما رأيك؟ 

_ ربما يكون ذلك صحيحاً.فأنا ما زلتُ شاعراً تحت الحساب.وشاعر مثل حالي، يبقى بحاجة إلى ميكروسكوب لرؤية وجوده بين هذه الأفلاك.

■كأنك ترغب بتطهير صفحتك من كلّ ما كان يعتريك من شذوذ في الزمن الغابر؟!

_ أنا أحبُ بوذا.ونقطة على السطر.

■ عن أي سطر تتحدث يا دمو؟

_ عن السطر الذي تمشي عليه أحذيتي.

■ هل تحبها بالتوابل.

_ أبداً أبداً.لا أحبُ أحذيتي بالتوابل.وإلا لكنت قد التحقتُ بالخدمة العسكرية، وأدخلتُ قدميّ في ذلك  البُسْطَال، لتنتهي بي الحياة في ثكنة.

■ والشعر..أيخلو من الثكنات برأيك؟

_ غالبية الشعراء العرب من أصل ثكناتي. منهم من يقاتل طواحين الهواء.ومنهم من يعجن نفسه بالصراخ والأنين.ومنهم آخرون قرابين في محافل محاكاة الكلاب السائبة على ورق الأساطير.

■ ألا تخاف من أن يصل هجاؤك هذا إلى عبد الوهاب البياتي، فيؤنبك وتزعل؟.

_ ولكنني لم أغتصب عائشة، صاحبته المريضة التي هربت منه ومن مرض السكري، ليفعل بي ما تراه أنت.

■ هل اجتمعت بالبياتي على أرض هذه المناطق الرمادية؟

_ لا أبداً.ولكنني قضيت سهرةً ممتعة مع هرمان هيسّه كاتب رواية ((لعبة الكرات الزجاجية)) الذي أهداني نسخة معدلةً منها، لأنكبّ على قراءتها للمرة الأولى.  

■ وأنت.ألا يساورك التفكير بكتابة رواية ما؟

_ رواية !! 

أنا بالكاد أكتبُ مقطعاً شعرياً مرة كل عام.فكيف تريد أن أزجّ نفسي في داخل أنابيب المجرى الصحي للعالم، لأكتبَ عن أوجاع ناس وأحداث حروب وكوارث مرعبة؟ذلك أمرٌ فوق طاقة جان دمو بالتأكيد.

■ إذا كان هذا العمل مريعاً بالنسبة لجان دمو، فما المهنة التي ستختارها هنا؟

_  بائع ((لبلبي)) –حمص مسلوق- على عربة صغيرة من الخشب بخمسة دواليب.

■ بخمسة دواليب!! لماذا الدولاب الخامس يا دمو؟

_ ذلك هو الدولاب الفلكي الاحتياطي من أجلي بعد السكرة.وإلا، فهل نسيتَ بأن المخلوق البشري هو أقدم العجلات اللحمية على وجه البسيطة؟!!

■ هل تعتقد بأنك ستخضع لمحاكمة من نوع ما أمام الله؟

_ على ماذا مثلاً؟ على الصعلكة والتشرد والنعاس والأبواب المقفلة والإفلاس والسعال واللقمة الباردة والفراش النيئ والخمور الرخيصة؟!!

■ لا أعرف.ولكن ربما لتُمنح جائزةً ما!

_  جائزة الكبت تقصد ! قد أستحقها، ولكن ليس أفضل من أولئك الذين أصبح كبتهم مثل كلاب تنبح تحت جلودهم في تلك الأراضي البعيدة.الكبتُ قنٌ للصمت، وملجأ للآثام.  

مقالات من نفس القسم