كتبه: أسعد الجبوري
أن تبحث عنه في السموات، ولا تجد له أثراً أو تعثر له عن بصمةٍ ما، فتلك هي الحيرة التامة بالضبط. تساءلنا مع أنفسنا حائرين، كيف لشاعر صوفي ذائب بحب ربّهِ، ولا يكون بين يدي خالقه الآن بعد المواقف وتلك المخاطبات؟!
وما أن ارتفعت بنا حرارةُ الحيرة إلى سقف اليأس من خلال انعدام معرفة سر غياب الشاعر محمد بن عبد الجبار النفّري عن هذا الحوار، حتى أطل علينا حيوان ضخمُ الجسم برأسين متجاورين، وعليه شخصٌ يرتدي قميصاً رمادياً من الشيفون، تحته بنطلون جينز.
لم نتوقع إن نكون أمام النفّري بلحمه وعظمه في تلك الأثناء،وإنه هو الذي كان يمدّ لنا يده ويتعذر عن التأخير بسبب، لنمتطي حيوان “التاولينو” الأليف الذي أخبرنا عنه الشاعر، مؤكداً أن الرأسين الخاصين بحيوانه الجميل والاستثنائي، هما أشبه بهاردسكين، واحد لتخزين المواقف عن أهل الأرض، والآخر للمخاطبات الخاصة بأحوال السموات.
لم نتحاور معه بشأن خصائص ذلك الحيوان. تركنا السيد النفّري يفيض بالشرح ويكيل المدائح له،فيما كان ((التاولينو)) يغذّ السير بينا نحو تكية محاطة بأشجار الجوز.هناك نزلنا.وهنا طرحنا عليه أول الأسئلة المتعلقة بوجوده الأول.قلنا له :
■ هل ثمة رابط ما بين مسقط رأسكَ جغرافياً في العراق وما بين موقع رأسك المعرفي؟
_ لا أظن ذلك. فالقلقُ تربةُ العارف وموطنهُ بالدرجة الأولى.
■ القلقُ أولاً. وما هي الدرجة الثانية عند النفّري؟
_ الهوس اللغوي. ففيه من الغيوم ما يعرقلُ نمو الخريف على صفحات حقول الكلمات وبساتين المعاني.
■ وهل العقلُ عابرٌ لنفسهِ، أم مستقرٌ في تربة الرأس. بماذا يُحصنُ العقلُ العابرُ وجودهُ في عالم مخلخل؟
_ كلّ مُخلخلٍ كسرٌ لقيدٍ.وليس أفظع هوّلاً من أصفاد المكتومين قيدياً عند أهل اللغة. وحلمياً عند الله. فأولئك وما أشبههم بالتائهين، ليسوا سوى أسراب جراد، تعيثُ فساداً بالحقول، ليس من أجل إعادة خلق مدخرات الكتابة من أدوات وطاقة وفنون،إنما لوجود رغبة لتشتيت المخلوق عن خالقة بمحتويات الجهالة والتجهيل .
■ وهل يرى النفّري في الجهالة مراتبَ تكثرُ وتقلُ؟
_ الجاهليةُ إعجازُ الجاهل.والتجهيل من منازل الخواء.والعربُ من عتمةٍ لأخرى،كأن ما أنزلهُ الله عليهم من رسلٍ وأنبياء،لم تكفِ أبداً !!
■ كأنك تبلغُ موقعَ البلاغة في الوصف،وتمنحنا الإشارة؟
_ كلُّ كتابٍ تناقضٌ مع الفراغ، وحتى امتلاء الفارغ بما يتسببُ بانعدامهِ.
■ هل الفلسفةُ توريثٌ لنكبة العقل باللامعقول كما يرى النفّري؟
_ الفلاسفةُ حيواناتُ اللغات، بهم الرؤى تَفترسُ الرؤى حتى زوال القوالب عن المذاهب والمقامات والأحوال وسكك الطريق.
■ أيمكن أن ترى فيلسوفاً بمقام نبي؟
_ كلُّ ديانةٍ قالبٌ. وكلّ قالبٍ مقبرةٌ للفلسفة. وثمة بون شاسع ما بين أن تكون مرشداً رسولياً، وما بين أن تكون بلدوزراً فلسفياً، يَقلبُ تربة العقل ويمسخها بالتهويمات التي لا تحدّ من سرعة التوغل الميتافيزيقي البارد.
■ وهل تريد أن تمضي مع القالب أم مع ما يناقضهُ في الفلسفة؟
_ أنا ما بعد النبوة بقدم من مسافة الوقفة، وببرزخ من الباطن الخفي للواقف على غير ذاك الصراط المستقيم.
■ كيف يستقيمُ الصراط تحت أقدام فلاسفة هم خلاصةُ تيهٍ،حيث لا طريق إلا في بوصلة العدم؟
_ العدمُ فعلٌ غير رباني.
■ كيف وهو لبُّ جوهر الموت؟
_ ما من ميتٍ على الأرض إلا وهو حيّ بطريقة ما.
■ ألا تظنن بأن كلاماً كهذا، ليس إلا من غبار الشعر؟
_ وصف الحالة بالشعر كما أدرك، ليس تعبيراً عن الموصوف.فالشعرُ تعويضٌ عن فشل الفلاسفة بتقديم مقترحات تزيلُ عن النفس التوتر والإحباط والقلق.
■ ثمة من قال إن النفّري كتبَ شعراً دون أن يسعى إليه؟
_ قد يكون ما جرى لي مع التأليف، كان حلقةً من رهانات كثيرة بخصوص التعويض عن مفقوداتنا في الحدس والإلهام والتجليات الصوفية.
■ وهل تعتقد بأن الشعر من اللاعبين الاحتياط في اللغة؟
_ ليس ذاك ما ذهبت إليه.ولكن باطن الفلسفة، عادةً ما يكون شعرياً، حتى وإن لم تطفح تلك البثور على جلود الفلاسفة، ممن تدربوا على صياغة المنطق بخلفيات تدنو من مواقد الشعر ونيرانه الزرقاء.
■ وأنتَ.هل أدركتَ شيئاً ما من هذي السماء؟
_ في الشعر نعم.
■ وفي غير الشعر الذي تعلمته فكتبته أنت؟
_ لا إدراك لعارف لم يكتمل وجوده إلا بعدمه أمام الله.
■ ولمَ تنظرُ إلى مشيئة الربّ بهذه الطريقة،وكأن الله لا يربيّ خلقهُ ومخلوقاته إلا كحطب للنار التي تمتلئ بها كتبهُ؟
_ أنا نظرتُ إليه،بعدما فرغتُ من النزول من الرحم،فكنتُ صورتهُ قبل الامتلاء باللغة، وبعد أن نضجتْ في داخلي شهودي،دلالةً على وجوده في الباطن والظاهر وما بينهما من أمكنةٍ، لا تبطلُ فيها الشمس من الإشراق،كما ولا تجعل من الليل مأوى لمن ليس برأسه مصباح ليزري،يأخذ قوته من نفسه، ولا يتعب من الإقامة وسط عواصف وزلازل وفيضانات وسفن جانحة،ما لها في خلقه إنقاذ أو تدبير.
■ أمن أجل ذلك الوضع قلتَ أنتَ: “كشفَ الحجاب لعارفيه فأبصروا/ما لا تعبّره حروف هجائه”؟
_ لقد فقدَ العالمُ الصوفي شهوة الكلام عن ذلك،خاصة بعدما استشعر جفاف ضروع اللغة في مآتم التأليف الروحاني العميق والشاق.
■ وأمام تلك المتاعب استحضرت جملتك الشهيرة “كلما اتسعت الرؤية،ضاقت العبارة” أليس كذلك؟
_ بالتأكيد.فقد أصبحت تلك الجملة بمثابة البوابة التي دخل علىّ من خلالها الملايين من البشر، اعترافاً برؤيتي للكون وملاعيب الكائنات ومصائرهم بشكل عام.
■ ألا تعتقد بأن خللاً ما صاحب عبارتك الشهيرة تلك؟!!
_ تقصد “كلما اتسعت الرؤية،ضاقت العبارة”؟!
■ أجل. فإنما نجد نحن، أن تقزيم العبارة أمام الرؤيا،إنما هي عدوان على اللغة أولاً،وقبل أن تكون الرؤيا طريقاً مفتوحاً إلى الله.
_ ليس في ذلك اعتداء على اللغة،بقدر ما أن الرؤيا اتحادٌ بالرب،بينما تبقى العبارة ظلاً لها،لا تتجلى بقوة الاندماج بالإلهي الذي تفعله الرؤى.
■ تقصد أن ضعفها،هو ما يمنعها من أن تكون شريكاً للرؤيا.الصورةُ برقياً تصلُ وتتفاعلُ بتجلياتها الإلهية،فيما العبارةُ صوتٌ يأتي على هامش ذلك الانسجام أو التجلي بالحقيقة المطلقة؟
_ليست الرؤية إلا تنشيط للعبارة.ولكنها الأخيرة،عادةً ما تخفتُ على ذلك الجسر القائم ما بين القلب والعقل.
■ ألا تظنُ أن الرؤية والعبارة سيناريو لفيلم،يمنحُ مخرجهُ البطولةَ للكاميرة،بحيث تُفرّغُ نجومَ الفيلم من محتوى ذريعة الاتساع،وذلك بالنظر إلى أن التوسع أو الاتساع شأنٌ سلبي،لا يخدمُ الصورة التي كلما اتسعت،تصبح ((فلو)) مشوشة الأبعاد.
من هنا،فالتوسع في الرؤية أو في اتساعها،يمنحنا مواقف تتفاعل مع الجنون،وتتحول بالتدريج إلى وقائع مضادّة للمنطق : فلا توسع العين واتساع حدقتها.ولا توسع المهبل واتساع المضيق المؤدي إلى الرحم.ولا اتساع حجم القلب،وتهطل العضلات باتساعها يخدم موقفك؟
_ العبارة التي تضيق،هي أرضٌ بالأصل.فيما الرؤية فضاء سماوي لا يضيق بوحدة الإله ولا بوحدانيته التي يظنها الصوفيون بالطاقة الكاملة المُحصَنة ((فمقام الرؤيا آخر أباب مقام الواقف في سُلّم المعنى الذاتي الإلهي.ومفتاح الرؤيا اللحظة المطلقة،بلا ذاكرة ولا عنوان ولا تسميات،فهي القدرة الذاتية والكمالية لاختراق كل شئ وسلب شيئيته وإزاحة محجوبيته كل الحجب والموانع والأستار،وإزاحة الإلوهية كل غيرية وسوائية عن ذاتها المستقلة)).
■ تريد أن نستفسر: كيف تضيقُ العبارةُ، وفي اللغة رادارات أوسع من كل صور الرؤية وتصاوير أفلامها المختلفة حتى في سينما الدوغما؟
_ قد أكون من الرائيين الكلاسيكيين،فاعتمدَ عقلي على نظرية تفككُ نظام العبارة،بجعلها من عبيد مرجعيات الرؤى.
■ وماذا لو قيل أن النفّري اتخذ من الرؤية فزاعةً أفقية، لإخافة الطير الفائض بالعبارات التي تجعل الرؤيا عموديةً؟!
_ ولمَ يكون علينا فعل ذلك،والرؤيا هي كل ذاك التوسع وكل هذا الاتساع؟
■ ربما تلافياً لمحق محاصيل العقل المُغَذى فلسفياً على فيتامينات الخواء وطلاسم الجدل الهرطقي.ألا يكون ذلك صحيحاً؟!
_ من عادتنا التكتم والتحفظ.وهذا ما أحيطُ سؤالك به.
■ هل لأن التحفظَ والكتمان والتقية الشديدة كما يقال،شأن صوفي بحتٌ؟
_ ما أصاب الحلاج من تعذيب وقتل،أصاب كبد التصوف .مما جعلني أتخفى مع أفكاري ورؤاي بالقدر المطلوب باطنياً.فالهروب من الإرهاب والزندقة والتكفير سرعان ما شتت المنابع العرفانية،وجعلت من أهل الطريق قوافل في تيه خانق.
■ ومن أجل ذلك أغلقت على نفسك الحُجبَ،ومنعتَ نفسكَ عن التواصل مع الآخرين،فكنت مخلوق عزلتك،من نافذتها كنت تتنفسُ،وداخل أغوارها كنت تشرق في التأليف؟
_ العزلةُ متنفسُ الأنفس النفيسة.
■ كيف كانت ولادة “المواقف والمخاطبات”؟ هل وِلِدتْ من ضيق النفس بالكون، أم من نار اللغة المكبوتة في باطن النفّري؟
_ لا من هذا ولا من ذاك.
■وإذاً كيف؟هل هبطت عليك المواقف والمخاطبات بالمنطاد من السموات مثلاً؟
_ لا.ولكنها جاءت مثل قارب شق ماءً، فتقافزت مخلوقات البحر من حوله،لتملأ له القارب ويغرق منتعشاً بثقل ثروته من ذلك الصيد.
■ ولكنك جعلت من اللغة سلّماً تعبيرياً إلى الله.
_ لأن الربَّ نصّ لا يقربهُ ذبولٌ، ولا تتداعى ذاته الإلهية في غير محل التوحد والبلاغة.
■ كم تبدو شديد الوله بالله؟!!
_ الكتابة لله،لا تعني الاستسلام له،بقدر ما هي أفضل الطرق للحوار معه.فمن يخلق،عليه أن ينصت لمخلوقاتهِ،وأن يفتح لهم من علمه مكتبةً إليكترونيةً عامرةً بمخطوط واحد:الحرية.
■ هل يريدُ النفّري أن يفشي لنا أسراراً عن الكتاب والكتابة والكاتب والمكتوب؟؟
_ ما أن يخرج المدادُ مُحبَرَاً بالأفكار،حتى يتلقفهُ الكتابُ بترابه،فهو خير السقاة.ندخل بعدها المجال الجوي للكتابة،حيث المدّ والجزر والسقوط والارتفاع.
■وماذا عن الكاتب والمكتوب؟
_ الكاتبُ نفقُ المكتوب.وبكليهما يُنعى الفراغ اللغوي،وحتى أن يبلغ الظاهرُ باطنَ المؤلف.ويتماه الباطنُ بالظاهر في جملة : ما كلّ عاشقٍ مقطوعٌ من شجرة.
■ إلى أين أخذت أنتَ الكتابةَ كما ترى؟
_ لست أنا الذي أخذتُ الكتابةَ معي،بل هي من اصطحبني من بوار النفس الموشكة على العدم إلى نقطة ارتكاز الكون على قرن مفردة تدعى الحب.
■ ثمة من يكتب عن مقامات النفّري قائلاً “لا يخفى على المتتبع لكتب الصوفية في ذكر مقاماتهم وأحوالهم،ان هذه المقامات أصبحت من الثوابت التي تُلزم كلّ صوفي بالخوض فيها.والمقامات كسبيكة،يسعى الصوفي لتحقيقها في مناهج سلوكه”. فما معنى الثوابت المُلزمة لنصّ من نصوصك في كتابك “المواقف والمخاطبات”؟
_ في كلّ نصّ عارفٌ،يعلمُ جزءاً من الطريق الذي يشقُ بالمعرفةِ الحياة،فيكون من تفرعاتها التي تبدأ من القلب،مروراً بمنازل المخ،وانتهاءً بسرير الشغف.
■وهل بلغَ الواقفُ منطقته في جسد النفّري، أم تراهُ تاهَ ففقدتَ أثرَهُ والبوصلة؟
_ ما من واصلٍ، يربطُ سلكاً ما بين قلبي وعقلي،إلا ويكون لدّناً،ومن معادن الماء. وإمّا عن واقفٍ ينتظرُ طيراني من بين يديه عمداً،فما عليه إلا تخيّل الفضاء قفصاً صَغُرت أضلاعهُ حتى تذمر الهواء من الإقامة فيه.
■ تريدُ أن تكسرَ الحجابَ، وفعلتَ،كي لا تضطر إلى التعايش مع الجدران لاهوتياً.فهل من أجل ذلك رفعتَ عن شعرك الأنظمة والقواعد،لتكون حرّاً متحرراً،فكنت أول مبتكرٍ لقصيدة النثر؟
_ كلّ من وَقعَ بحضن الحريةِ،تجاوزَ مشقة الإنصات للحجر.لذا تراني ناطقاً بكلمات لا ينفد منها غير ضوءٍ العرفان.
■ لماذا كلّ هذا التعقيد في الكلام وفي البناء وفي التصنيف؟!!
_ لأن الجهل مدرسةٌ جامعةٌ للعدم.فأنت،إن حجبتَ عليها،قتلتَ.وأنتَ إن تمشيتَ بمجراها،ذهبتَ بأهلك إلى الظلام.وما القتلُ والظلامُ إلا من مقامات التفكيك بالبشر وإهلاكهم.
■ لماذا نجد التعقيد بلغات الصوفيين ظاهرةً على الرغم من كلّ مكونات الباطن المُستَعرة بالتخفي في كهوف الجيولوجيات وخلاياها النائمة بين طبقات التراب الجسمي وخلافه من تراب العقل المتشتت بقوة الرياح؟!
_ اللغاتُ عن المتصوفة ملاجئ،ولا يمكن التخلي عن تحصينها بشكل دائم.لذا،وكأن القدرَ قد حكم علينا بقانون نفي النفي.
■ هل يمكن اعتبار المتصوفة من مرجعية قوانين الديالكتيك التي صاغها هيغل أيضا واقتبسها ماركس عنه؟!!
_ يمكن أن أجزم،بأن المتصوفة شيوعيون قبل ظهور الماركسية.
■ وهل ثمة وجودٍ لشيوعيين مؤمنون على سبيل المثال أو الادعاء؟؟
_ لم يكن ماركس شخصاً ديالكتيكياً بالقدر الكافي الذي كان يتمتع به الحلاج وابن عربي وعمر الخيام وابن رشد وأنا.المشكلة لا تتعلق بالوجود وبالعدم،بقدر ما هي متعلقة بنفس المنطلق الذي صاغه هيغل صياغةً مثالية غير مادية،تقلعُ للبحث الفكري عن قيم معرفية خارج حدود السيطرة البشرية.
■ هل هذا ما يُسمى بنظريات الشطح الروحاني؟
_ لا يصح لأحدٍ أن يظنَ إننا مشغولين بعلوم الباطن وحدها،أو بما يتعلق بالإلهي وحده.نحن نشطح مليّاً،لنجمع تفكك عظام أجسامنا أمام المحبوب،لنصل إلى اللذّة القصوى،جلباً للراحة وللسكون والاطمئنان على
■ وما المسافة الفاصلة ما بين لذّة الوصول لله، وما بين لذّة التماهي مع الشهوات التي تبعثها النساء في القلوب يا نفّري؟
_ اللذةُ بالله بيضاء.وهي انتشاءُ العقل بمفاعيل الحب.فيما اللذّة التي منشأها أنثوي،فإنما هي ثوب حرير مشتعل بورود شقائق النعمان. وعليك القياس بين الشهوتين.
■ ثمة من يلخص كتاب المواقف بالملامح التالية:التكثيف والإيجاز.الصناعة الفنية.الغموض والتعقيد. الإشارات والرموز.وتعدد القراءة.فهل لك أن تفتح للقارئ العادي باباً ينقذهُ من كل تلك التعقيدات؟
_ أن يقتحم باب المواقف،ويجلس على كرسيّ في فمي.
■ لماذا تهديه إلى الاقتحام وليس إلى حل آخر؟
_لأن تحطيمَ اللغاتِ يفرزُ ما بين الغث والسمين من الكلمات.وتالياً،فهو ينتزعُ القشور عنها، ويبددُ خوفها من الخوف ذاته،لتنطلقَ الحروفُ في مراعي الخالق الأعظم،دون أن تبقى رهينة أمراض المؤلفين ممن أصبحوا أشبه بصيدليات تملؤها العقاقيرُ.
■ منْ تفانى بحبه للآخر:أنتَ في اللغة،أم اللغة بكَ؟
_ كلانا اختصر حبه للآخر بالتكثيف والبلاغة.
■ إذا كنت قد كثفتَ اللغةَ ببلاغتك،فما الذي فعلته اللغةُ ببلاغتها نحو النفّري؟
_ ليس غير أن استصلحتِ اللغةُ تربتي البوار،لتفيض بي نحو الربّ.
■ وكنت سعياً بمجرى اللغة.
_أجل.كان مجرى أسلوبياً واسعاً تملؤه المياهُ،ولا يسودهُ مُعرقلٌ أو معيق.ٌ
■ ولم يحدث للنفّري وإن غرق في ذلك المجرى،أو ثقل به جسمهُ،فانحرف أو تحطم من صدمة ما؟
_ كنت مثل سمكة سلمون صاعداً بالبرزخ نحو الملكوت.
■ولكن من عادة السلمونيات أنها تقضي معظم عمرها في البحر،لكنها سرعان ما تعود إلى الأنهار للتكاثر فقط. وتسمى دورة الحياة هذه بـالهجرة التي يعقبها الموت.
_ وهكذا أنا. أعيش طوال الحياة في اللغة،وعندما يحين وقت تكاثري بالأقيانوس الإلهي،أضع بيض نصوصي هناك وأختفي مُجرِداً نفسي عن جسمي.
■ هل وجد الصوفيون أن اللعب مع الله بالمحمولات الروحانية والفلسفات الغامضة،أسهل وأرحم من اللعب بالنظريات مع سلاطين الأرض وأنظمة ملوكها ودول زعاماتها على سبيل المثال؟
_ أنا رجلٌ عروفٌ من أهل العرفان أعلم بأعين قلبي،لأنها طريقتنا بالمشاهدة، مستبعدين واسطة العقل أو التجربة الحسّية.لذلك طريقنا واضحةٌ إلى الله،مثلما هو فائضٌ حتى في نظامنا الغذائي.فالمعرفةُ قوتُ العرفاني الذائبِ بصحائفَ النشيد الأبدي.
■ وهل يحبُ الله أساليب المتصوفة في علم البديع،لتنخرطوا فيه بقوة مائة حصان أو أكثر؟
_ ما أن أشرقنا بالمعارف،حتى أدركنا معرفة التصوير والتأثير والتعمق البعيد بالاستعارات والمجاز إلى حدود جعل النصوص بساتين لؤلؤ وخمر وزبرجد وغرام.
■ على ذكر الغرام هنا،كيف كانت حرارة حوض الدم بصدر النفّري؟
_ لم يأتِ الغرامُ على ذكري بعد.
■ كيف؟ وما تعني بالك الجملة المربكة يا نفّري؟!!
_ وأنا كما قلت سابقاً ((القرآن يبني الدين،والأذكارُ غروس فيه ثمر القرب )).
■ نحن نسألك عن قلبك وتموجاته العاطفية،فتحيلنا إلى القرآن.أهو جواب ترهيبي لكسر سؤال يحاول التفتيش في سيرتك الخاصة؟
_أنا مديرُ خيالي في النصوص القصية،لا مترجم عواطف جسد،عادة ً ما يقع في الضلالة،ويقتفي آثار الشهوات العمياء.
■ هل ترى في الجنس مأثمةً؟
_ لا ذَّنْبَ على عاشق في أَن يعمَل ما لا يَحِلُّ له .
■ لكن ذلك يتعارض مع ما جاء في القرآن: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)).
_ما كان الحبّ يوماً فحشاً،فهو ليس كما الخطيئة.والله لا يعاقب المحبين.
■ يكتب أحدهم – وليد عبد الله – مصرحاً : ((لقد حافظ أهلُ التصوُّف والعرفان على براءة السؤال الخام والقلق الخام كي يتطابقوا مع الأصل، أصل الوجود، الذي تحمَّلوا في سبيله العناء العظيم وضحَّوا بكلِّ وجودهم من أجل الوصول إلى الحقيقة. فهم أهلُ الله الذين لا يستظلون بظلٍّ ولا ينتسبون إلى التسميات. أسَّسوا للمسلمين، بشكل خاص، وللبشرية، بشكل عام، مشروعاً خصباً، وتركوا تراثاً إنسانياً صافياً وعميقاً. فأهل هذا الطريق افتتنوا بالله افتتاناً أفقدَهمْ كلَّ شيء، وأحبوه حباً لامتناهياً، وهاموا في عشقه. ينحتون بوجودهم أسماءه، ويرسمون بدمائهم خرائط الوصول إليه. سكنوا الصحارى والجبال وغاصوا في الوديان، وركبوا البحار، واتخذوا من الهجرة بيتاً ومن الغربة زاداً. فماذا يمكن أن نقول عن أسفارهم – تلك الأسفار التي هي أكثرها تعقيداً على أرض البساطة، وأكثرها بساطةً على أرض التعقيد، في البحث عن مكنون البساطة، وهو الله – الله بسيط الحقيقة – وعن الفناء في هذا المعنى الإلهي. لهذا حملوا قلوبهم مناجلَ للتجريد وللغوص إلى أعماق الوجود بلذة الاختراق وفضول ألم الاستطلاع، لاستخراج كنوز المعارف وحقيقة الكمال المطلق. إنهم كلمات الله التي لا تنفد.. إنهم حقاً أهل الله. )) ما رأيك؟
_ ليس المتصوفة وحدهم أهلُ العرفان أهلُ الله.فعلى تلك الأرض،كما في بقية الأكوان مخلوقات على شاكلتنا،تجتهدُ بالذوبان بكل ما هو إلهي موصول بالعرش أو مرتبط بالملكوت.وهذه ليست أفكاراً وحسب،بل هي الثروة الوحيدة عندنا بخصوصيتها وبالجماليات التي تنبع عنها إيماناً وإشعاعاً مطلقين.
■ عندما يستغرق القارئ المعاصر بنصوص النفّري،سرعان ما يجد نفسه في قوالب من التداعيات المتراكمة فوق بعضها،حتى يظن أنه أمام نصوص تُشرعنّ اللغط واللا معنى، وكأن مؤلفيها نزلاء مشافي الأمراض العصبية.لنأخذ هذه النماذج لك في المواقف:
وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء.
وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني.
وقال لي: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف.
وقال لي: فإن العارف كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها.
وقال لي: المعرفة نارٌ تأكل المحبة.
وقال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل.
_ أجل.فكتابةُ القلبِ،هي خلافُ كتابة العقل.
■ وما نسبة الجنون في كل منهما برأي النفّري؟
_ ما يُعادلُ نسبة غلو الواقف بالوقفة.
■ هل منشأ الصوفية منشأ شعري وفقاً لاعتقادك؟
_ أجل.فالخيالُ هو السقف الذي تحاول الصوفية رفعهُ عالياً عن السقوف في منازل الجسد،للاندماج بالعبير السماوي الحرّ والبعيد والمتعدد.
■ ألا تجد نفسك شبه غيمة على اسطر شعر، كان يعاني من تحولات ما بين وزن وقافية وكسر لجميع القوالب المعروفة التي سبق وأن ارتهن لها شعراءُ الجاهلية وما تلاهم من قوافل تمرنت على الأنظمة القديمة ذاتها؟
_ كان نظام الفراهيدي ليس أكثر من حجاب،يمنعُ الشاعر من مد أجنحتهِ خارج مجموعة الأقفاص والقوالب التي نجح بصناعتها وأسماها ذات يوم بـ ((علم العروض)).
■ لماذا لا تبحث عن الفراهيدي في هذي السموات،فتجتمع به وتناقشه عن الأفكار التي تسود رأسك بخصوص ذلك العلم المسمى بالعروض؟
_ وذاك ما سأفعله بالضبط. فأنا أريد أن أطرح عليه سؤلاً واحداً لا غير: ألم يصبهُ القرفُ بمرض ما، من تكرار تلك الإيقاعات ذات الأوزان،التي فقدت خصوصيتها العلمية،لتصبح إيقاعات للتشهير أو المديح فقط.
■ ولكنه قد يردّ عليك بعنف،مُذكراً بأنك في مواقفك ومخاطباتك،لم تصنع شعراً،بقدر ما ألفت تهويمات فلسفية مغموسة بسوريالية كلاسيكية، تستطردُ بإنشاء منظومات من التعابير ذات المنشأ الباطني الذي لا يعوّلُ الشعرُ عليه بشكل دائم ومطلق،مما يعني أن وضعك الشعري مشكوك فيه أصلاً !!
_ ما تقوله واردٌ.فأنا لست بشاعر،إنما أنا ظلُ لغةٍ شاردةٍ إلى الشعر.أي أنني وضعت نفسي تحت وصاية شعريةٍ،عادةً ما لا تستطيع العيش بمعزل عن تربة الشهوات.
■وهل لا شِعرَ دون جذر شهواني برأي النفّري؟
_ قد لا يتعلق ذلك بالشعر وحدهُ،بل أن كلّ فعلٍ خارج الجذوة الشهوانية، يبقى شبيهاً بحفريات الشوارع الخاضعة لسيطرةِ الإسفلت والمعاول ومهندسي الطمر.
■ ثمة من يقول بأن “لغة الإنسان الصحيحة في كلام الله” وحدهُ.ما رأيك؟
_ ولكن الله ليس لغةً،إنه محركُ البحث الكوني .
■ على أي باب يقف النفّري في السموات الآن؟
_ على بابِ نفسِ تقفُ على جسرٍ مُوصل ما بيني وبين شعوبي المُعَرّفةِ بالفلزات الخاملة.
■كأنكَ تريدُ إحالة تلك الشعوب الضعيفة على محكمة إلهية،عقاباً على نومة العقل الكبرى.!!
_ ذلك ليس من اختصاصي،فكيف تريدني أن أفعل بما لا إيمان لي فيه.
■ ومنْ حارسُ رأسكَ هنا يا نفّري؟
_ ليس غير الله الذي انغمستُ به حباً،فتاه بي في نصوصيّ،مثلما أنا التائه به في مجرى الزمن،عندما يقف أمام عرشه،ويقصّ حكاية الحياة والموت.
■ وهل كنت في حياةٍ يملؤها التيه ويديرُ شؤونها،ولم يقصّ عليك أحدٌ سوى هذا الانخطاف المتكرر بالعدم؟
_ أنا لا أرى أرحام الأمهات غير حفرٍ مزورة للضلالة،بينما اللحدُ هو الرحمُ الابتدائي لسائر أنواع الخلق والمخلوقات.به ننبتُ لنتجدد بالتجليات،ومنه يتم الانبعاث.
■ أيجب أن نؤكد إذن أن التاريخ هو الآخر قبرٌ،يستوعبُ باطنهُ شعوباً بأكملها دون ضيق في مساحة أو في عبارة أو في رؤية أو في كتاب؟
_ أنت تدفعني إلى الاعتراف،بأن اللغةَ ليست إلا سيارة إسعاف.وهذا ما أعتقدُ بصحته.