إعداد وحوار: أسعد الجبوري
كان نائمًا تحت شجرة بلوط ضخمة، وبحضنه قطة سيامية بعينين براقتين بأشعة من مختلف الألوان، ومصحوبة بأدخنة عطرية كانت تغطي المحيط. ما أن اقتربنا من جسم النائم ذاك، حتى نهض أمامنا الشاعر التركي رفعت إيلغاز،( 24 أبريل 1911ـ 7 يوليو 1993) وهو يحمل بيديه تلك القطة. صاح بنا مرحّبًا: ها قد وصلتم إلى مكان إقامتي بسلام. تصافحنا ثم أخذ بنا إلى طريق زراعي تقع في نهايته ما يشبه الشرفة الخشبية. جلسنا هناك، فيما كانت طيور ((الهاور)) الزرقاء الشبيهة بالنوارس تحلّق فوق المكان بكثافة، وهي تطلق بأصواتها ألحانًا حزينة تصلح للأفلام التراجيدية.
وبعد أن هدأ كل شيء، طرحنا على الشاعر هذا السؤال:
س: هل خُلِقتَ من الطين يا رفعت؟
ج: لا، فالتركي عادة ما يُخلق من الذهب.
س: ذهب الإمبراطورية العثمانية تقصد؟!
ج: بالتأكيد. ذاك هو المعدن الذي اُغتُصِبَ وجُمع من المدن المحتلة من قبل سلاطين الباب العالي.
س: هل كان ذهبًا نظيفًا مثقفًا برأيك؟
ج: لا أعتقد بذلك، فقد كان معدنًا ملوثًا بالقهر والدم والاغتصاب.
س: مذ متى بدأ رأسك بالامتلاء السياسي والمحاكمات العقلية لقضايا التاريخ؟
ج: منذ أن بدأ عقلي ينمو خارج الغرف السوداء لإمبراطوريتنا العثمانية.
س: هل من أجل ذلك أصبحت ماركسيًا؟
ج: لا. ليس من أجل تنظيف رأسي من مخلفات العثمنة، إنما لأنني كنت مهتمًا بتحريك المشاعر الجماهيرية ضدّ الكساد الفكري وفساد الدولة.
س: هل من أجل ذلك كانت إشادة الشاعر التركي ناظم حكمت بدورك الأدبي في قلب موازين القوى داخل المجتمع من خلال تطوير مفهوم الأدب الاشتراكي؟
ج: بالضبط. حافظ الشاعر ناظم حكمت على بقائي كسمكة في المياه.
س: ومرضك بالسلّ.. ألم يساهم بإخراجك من تلك المياه ورميك خارجًا على الرمال؟
ج: لقد أرسلني السلّ إلى مصحّة ياكاجيك بإسطنبول، ومن هناك بدأت بتأمل الوجودَ والموجودات التركية.
س: وماذا وجدت بعد فترة العلاج والنقاهة تلك؟
ج: لم يأتِ لي العطف من أحد، فقد اعتبرتني الدولة التركية المضطربة كاتبًا من صفّ المشاغبين، فرمت بي في السجن.
س: وما الترياق الذي يقدمه السجن للشاعر يا رفعت إيلغاز؟
ج: لقد جعلني السجن أكثر حرية بكتابة الشعر.
س: كيف؟
ج: لأن السجن كسر قالب الخوف بنفسي، ليجعل كلماتي أشبه بالمناطيد الطائرة وهي تحمل الأضواء تحت سماء إسطنبول.
س: متى تتم عمليات التحام القصائد بالأنفس؟
ج: أعتقد أن ذلك يحدث بمجرد تسرب الموسيقى إلى داخل الجسد.
س: عبر الأذن تقصد؟
ج: لا. هناك قنوات سرية موصولة ما بين غرف الجسد وما بين الكون الموسيقي على ما أعتقد. حينما تتفاعل ينجم الاندماج باللذائذ النافعة.
س: أتعتبر الموسيقى من المعادن؟
ج: بالتأكيد. وكل ذلك محكوم بما في البواطن من معادن.
س: هل كان باطن رفعت إيلغاز مغرومًا بتراب ظاهره الشعري مثلًا؟
ج: كنت ضعيف الإيمان بالحبّ. السياسة فعلت بي ذلك. وحينما دخلت الجيش في عام 1933 وجدت جسدي في مكان وروحي في آخر، آنذاك أدركت ضرورة الربط ما بينهما موسيقيًا على الرغم من دخان الحرب العالمية الثانية.
س: على أية جبهة قاتلت آنذاك؟
ج: جبهة الذباب الأزرق.
س: ما المقصود من وراء ذبابك الأزرق؟!!
ج: المجهول الذي ما زالت بلادي التركية تنتمي إليه براغماتيًا.
س: على أي خط كنت أكثر انتماء: الشعر أم الرواية؟
ج: كلما كتبت بفرع أدبي، وجدت نفسي شجرةً محمّلة بثمار الفرع الآخر. لذا لا أرى مسافة طويلة تفصل ما بين الاثنين.
س: أكان ذلك ينطبق على روايتك ((الليالي المظلمة)) وحدها؟
ج: لا أعتقد ذلك. على الرغم من أن تلك الرواية تسببت بنفيي إلى ((نيشانتاش))، فثمة ما يقابل أحداث تلك الرواية أحداث ما جرى في أكثر من قصيدة.
س: وكانت كل تلك المؤلفات تذهب بك إلى السجن. أليس كذلك يا رفعت؟
ج: وفقدان المعاش والوظيفة والصحة أيضًا.
س: هل كان ذلك وراء انتقالك للعمل في المسرح؟
ج: تمامًا. فبعد أن حُرمت من العلاج في مصحّة ((هايبالي آدا)) بعد تدهور صحتي عام 1947 ومصادرة كتاب لي، تم تعديل رواية لي ليتم إخراجها مسرحية ((صف المشاغبين)) ليتم وضعي تحت المراقبة بعد انتقاد التعليم وشؤون الطلبة.
س: أين تلتقي الكوميديا بالتراجيديا؟
ج: في المقبرة طبعًا.
س: وَلِمَ تعتقد بذلك يا رفعت؟
ج: بعد أن نال المرض مني، كنت أشعر بالدوامة الضبابية التي تعصف من حولي، وأنا كالنقطة في مركزها.
س: هل كان الموت يرعبك؟
ج: بالتأكيد. لكن الذي كان يرعبني أكثر هو الانتظار.
س: كيف؟
ج: ما كان على الموت أن ينتظر الوقوف على بابي طويلًا. بل كان عليه أن يقتحم ويحمل زبالتي قبل التعفّن في مشارح الوطن، ويقدمها إلى حكّام السماوات.
س: أتظن بأنك بريء؟
ج: لا. أنا لست بريئًا منذ أن بدأت حياتي الشعرية بقصيدة ((في قبر حبيبتي)) عام 1921 التي أثارت الانتباه بوجود شاعر مشاغب وتراجيدي، وربما يملك مواصفات الملحد.
س: وكنت تنشر باسم مستعار؟
ج: بالضبط. فذلك ما كان يحدث. لم تبقِ لنا تركيا ما يُعوَّل عليه من الحريات الخاصة بالآداب والفنون. كانت أجساد الجميع مطلوبة للخوازيق.
س: هل شعرت بدونية أو محاصرة اللغة التركية لمخيلتك؟
ج: نعم. لقد ولدت فينا عقد النقص إزاء اللغات الأخرى، على الرغم من عدم قناعتنا بضرورة التسول أو القبول بالهجرة نحو اللغات الأخرى.
س: هل لأنك كنت مهزومًا من الداخل؟
ج: ربما. فالطفل الذي وُلد في مدينة (كاستامونو) عانى من الاضطهاد والرقابة من قبل الذين كانوا يرون في الشمس موقد حطب جاهزًا لشوي اللحوم المتوفرة من الشعوب الماشية للموت.
س: وماذا رأيت بالموت؟
ج: رأيت نصوصي التي سبق لي أن فقدتها على الطريق الشيوعي.
س: هل التقيت بشعراء حزبيين اشتراكيين في السماوات يا رفعت؟
ج: أنا رأيت الكثير منهم هناك، ولكن أحدًا منهم لم يفكر بدعوتي لاجتماع حزبي!!
س: وماذا حدث بعد ذلك؟
ج: وقفت على باب جهنم بانتظار السهرة مع السلاطين ما بين النيران.
س: وهل يجرؤ هؤلاء على السهر بين النيران؟
ج: أجل. فقد تدرّبوا طويلًا على إشعال مزيد من النيران على الأرض، لذا فهم لا يخشون دخول جهنم مستثمرين.





