مبارك وساط
إنّها الرّابعة وخمس دقائق من يوم الخميس هذا. لقد أنهى حمزة السُّمْكي جولتَه في ساحة الثّانويّة، حيثُ كان يتمشّى بين التّلاميذ ومن حين لآخر يَصْفِق راحتيه ببعضهما، مُردّداً عبارة: “يَلّاه، يلّاه، إلى أقسامكم، يَلّاه”، مستحثّاً التّلاميذ على الالتحاق فوراً بقاعات الدَّرس. وبالفعل، فالدّقائق العشر المُخَصّصة للاستراحة قد انتهت.
حمزة السُّمكي يشتغل مُعيداً بثانويّة أحمد شوقي التأهيلية بِبَرديشة، رغم أنّه، بِحسب مؤهّلاته، أستاذ ريّاضيات. وها هو الآن يمضي نحو مكتبه، الموجود في صفّ مكاتبَ مُقابِلٍ للّذي يقع فيه مكتب المدير، وبين ذَينك الصّفّين، تقبع قاعة الأساتذة، وخلفها حديقة مربّعة صغيرة…
يتمشّى ويُدير رأسَه يساراً، مُحَدِّقاً في زجاج نافذة قِسْمٍ بالطّابَق الأرضيّ. هذه هي المرّة الثّالثة أو الرّابعة الّتي تستثيره فيها هذه النّافذة بِالتّحديد، منذ زيارته الأخيرة لمكتب المدير – وقد تمّت قبل ثلاثة أيّام – فهي نافذة القِسم الذي وقعت فيه الحادثة المرتبطة بالسّي امحمّد البوهالي، وبهذه الصّورة يتذكّرها حمزة ويبتسم.
يُفكِّر حمزة : كنتُ قد سبّبتُ لِمديرنا الحاليّ، السّي عبد المجيد السّاخي – الذي كان يُدرّسني وقتها، في هذه الثّانويّة نفسِها، مادّة التّاريخ والجغرافيا- حالة انفعال وغضب ذات صباح من أصباح سنتي الثّالثة بالإعداديّ. وقد عبّر السّي عبدالمجيد عن غضبه المُبالَغ فيه بطريقة تهكّميّة. كان سنّي إذّاك يُناهز الرّابعة عشرة. وفي الصّباح المذكور، كان يتحدّث إلينا عن وقائع دارت في أنطاكية ذات قَرن.
أفهم من كلامه أنّ أنطاكية بقيت سوريّة لفترة ثمّ عادت لِتُصبح تحت سيطرة الأتراك. يتحدّثُ عن لواء إسكندرون. إنّه جادّ الآن في كلامه. أحياناً، يتخلّى عن رصانته ويتحدّث إلينا عن شؤونه العائليّة، عن تطليقه لزوجة سابقة واقترانه بأخرى، أو عن مغامرة غراميّة لأخ له أكبر منه سِنّاً، انتهت بأن قفز أخوه من نافذة في طابق ثان فانكسرت كلتا ساقيه. لكنْ كلّما استثار كلامُه ضحكاً مُطوَّلاً مِن قِبَلِنا، فهو ينفعل بسرعة ولا يبخل على بعضنا بشتيمة أو شتيمتين.
في ذلك الصّباح كنتُ أجلس إلى طاولتي المعهودة، وهي في الخلف. كنّا، نحن تلاميذ الفصل، متقاربين في السّن، فيما عدا استثناءات قليلة، وكان أغلبنا في نحو الرّابعة عشرة. كان المكان الّذي إلى جانبي الأيمن فارغاً في ذلك الصّباح، فالذي يجلس بجانبي في العادة هو حميد سرور، لكنّه كان وقتها مريضاً، فأخوه الأكبر كان قد أعداه بِالسُّلّ.
قُبيل اللحظة التي فوجِئتُ فيها بِوقوف الأستاذ عبد المجيد بجانبي على غير انتظار، كنتُ شاردَ الذّهن ومتعباً، ووضعت جبيني على الطّاولة وأغمضتُ عينيّ، لعلّ مخّي يتخفّف من تعبه. لكنْ سرعان ما رأيت قدماً كبيرة في فردة حذاء سوداء تحتلّ مكاناً قريباً من قدمي اليُسرى. رفعتُ رأسي عن الطّاولة وتطلّعتُ إلى أعلى، فرطمَتْ ناظريَّ تحديقةُ اندهاشٍ وغضب مِن عينَي السّي عبد المجيد. وقد توجّه إليّ بِصوت جهوريّ فيه احتداد : واش هذا وقت النّعاسْ؟ تلعثمتُ قليلاً في الجواب. قلت له إنّي لم أكن نائماً، والدّليل على ذلك أنّي كنت أتابع ما يقوله عن الأناضول وأنطاكية. قلت: “حَطّيتْ جبهتي فوق الطّابلة باشْ ارْتاحْ ثْلاثَةْ الثّواني أُوَلا رَبْعة”. صَمت وحدّق فيّ لحظة، ثمّ تناول دفتر التّاريخ من أمامي وفتحه، فلاحظ أنّي أكتب الدّروس بعناية وبخطّ جيّد. ولا أدري أيّ حَدْس شيطاني جعله يَقلب صفحات الدّفتر فلا يتوقّف إلّا عند الصّفحة الأخيرة، وعلى هذه الصّفحة قرأ جملة أثارت مِن قِبَله ابتسامة تهكّم، ثمّ ضحكة قصيرة. بعدها قرأ العبارة بصوت جهوريّ : “هذا هُو السّي امْحَمَّد البهلول اللي قْتَلْ سْبَع وُغولْ”. وسُرّ عدد من التّلاميذ لتوقّفه عن سرد أحداث تاريخيّة لم تكن لِتُثير اهتمامهم، وأعجبتهم العبارة، فقد التقطتها أسماعهم وكأنّها صادرة عن أحد الحلايقيّة الّذين يَرْوُون سِيَراً لأبطال تاريخيّين أو مُتخَيّلين. وسُمِعت ضحكات مُقتضَبة، لكنّها لم تُغْضِب السّي عبد المجيد، بل بدا راضياً عنها معتقداً أنّها مشحونة بالسّخريّة مِنّي. وقد رغب في إطالة المسرحيّة، فطلب منّي الوقوف، وسأل التّلاميذ : “مَن هذا؟ فأجابه بِضعة تلاميذ : “إنّه حمزة السّمكي”، لكنّه بادرهم بالقول : “لاواهْ. هذا ماشي حمزة السّمكي…”، وصمتوا وضحك هو وأضاف : “هذا هُو السّي امْحَمَّد البهلول اللي قْتَلْ سْبَع وُغولْ”، وضحك فجاراه عدد من التّلاميذ، بل إنّي أنا نفسي ابتسمت. بقي مُتفرِّساً فِيّ، فقلتُ : “ماشي أنا اللي كتبتها، كتبْها واحد وَلْد جيراننا”. وانتهت القضيّة عند ذلك الحدّ، فلم يطردني من القسم. وفي ما تلا ذلك من أيّام، حدث أن حنق عليّ بِضع مرّات، وفي كلّ منها كان يُبدي سُخطه عليّ، مثلما يحدث أن يقوم به مع غيري، لكنّه، معي أنا، كان يُحاول أن يُنهي غضبته بشيء من التّهكّم، وكان يرغب في أنْ يُشْرِك فيه التّلاميذ حتّى أتأذّى إلى أقصى حدّ، ومن أجل هذا كان يُكرّر عبارته : “هذا راه ماشي حمزة السُّمكي، هذا هو السّي امحمّد البهلول، اللي قْتَل سْبَع وُغُول”. لكنْ سَيتبيّن له بعد وقت أنّ تكرار تلك العبارة أفقدها غرابتها، فلم تَعد تستثير من تلاميذ القسم إلّا ابتسامات باهتة. وانتهى الأمر بالسّي عبد المجيد إلى نسيانها، فلم يتذكّرها ويُفاجئني بها إلّا قبل ثلاثة أيّام، حين كنتُ عنده في مكتبه، لأناقش معه مسألة اقتطاع أجرة يومين من حَوالتي الأخيرة. وقد قالها عند انتهاء حديثنا ثمّ قهقه، أمّا أنا فلم أضحك بل إنّ ملامح وجهي بدا عليها استنكاري لقهقهته، التي بَدَت لي في غير محلّها، رغم أنّي في العادة ذو مزاج مَرِح.
***
يَدلف حمزة إلى مَكتبه، ثمّ يَخرج منه بعد ثوان. يتوجّه إلى مراحيض الإداريّين والأساتذة، وهي في الطّرفٍ الأيسر من الرّواق المُقابل، حيث مكاتب المدير وسكرتيرته والحارس العام. أمّا الرّواق الذي إلى يسار حمزة الآن، فيوجد به مكتبا المقتصد والنّاظر.
يَمضي إلى مقصده مِن خلف قاعة الأساتذة، عبر ممشى في الحديقة الصّغيرة. يلتفت يميناً، فيرى السّكرتيرة سُعاد وهي تخرج من مكتبها الملاصق لمكتب المدير، إذْ يوجد باب داخليّ يَصل بين مكتبيهما. هي بصدد إنهاء حديثها مع المدير، الذي يبدو أنّه بداخل مكتبها، مُقَلِّباً أوراقاً ولا شكّ. يتناهى إلى أذنَي حمزة قِسْط من حديثهما، يَفهم منه أنّ المُدير رخّص لسكرتيرته بمغادرة الثّانوية من الآن، وذلك لتجلب أُمَّها من المستشفى التي ترقد فيه إلى بيت العائلة. يسمع السّكرتيرة وهي تُجزل الشّكر لعبد المجيد السّاخي، قبل أن تحثّ الخطى نحو باب الثّانويّة.
بعد لحظات، يُغادر حمزة دورة المياه. يلتفت يساراً هذه المرّة، فيرى السّي المجذوبي، الحارس العامّ، واقفاً لوحده. ثمّ يبدو له المدير وهو يخرج من مكتبه، ساحباً الباب من قبضة القفل، قبل أن يَلحق بالمجذوبي، ويسيرا معاً بِخطى وئيدة، مُولٍيَين ظهريهما لحمزة. ما لاحظه حمزة هو أنّ المدير لم يُغلِق مكتبه بالمفتاح.
وها حمزة مُجَدَّداً في مكتبه. يَطرق تلميذ بابه نصف المفتوح ويدخل. يطلب من حمزة “ورقة غياب”، أيْ إذناً بالدّخول بعد أن تغيّب خلال حصّة سابقة أو أكثر. يقول له حمزة: “كم تغيّبتَ مِن ساعة، ولماذا؟”. يُغمغم الطّفل جواباً غائماً، ويكتب حمزة اسم التّلميذ على ورقةِ إذنٍ بالدّخول ويُسلّمها إليه.
قُرْب باب قاعة الأساتذة، يقف المدير مع الحارس العامّ. من مكتبه، يسمع حمزة نُتَفاً من حديثهما. ثمّ تتناهى إلى مسامعه ضحكة أطلق المدير لها العنان، ضحكة صاخبة حلّقتْ مُفَرْقِعةً في الهواء. يتصوّر حمزة بَطن السّي عبد المجيد السّاخي وهو يتهزهز نتيجة إغراقه في الضّحك، فالرّجل أَكْرَشُ بعض الشّيء. في مثل هذه الحالة، بعد أنْ ينتهي من الضّحك، يَعمد السّي عبد المجيد إلى التّرْبِيت مرّتين أو ثلاثاً على بَطنه، ثُمّ يَجتذب جلّابيته مِن تَقويرتها إلى تَحت، إنْ كان لابساً جلّابيَة، أو يُمسك بِجَانبيِ سُترته الأيمن والأيسر ويُقَرّبهما مِن بَعضهما، إن كان لابساً سُترة. يقول حمزة في نفسه إنّ المدير يلبس اليوم جلّابيته الخضراء، ولا بدّ أنّه نترها من ياقتها المُقوّرة بعد أنْ صَفَق بطنه مرّات بِيُمناه.
ثمّ سمع حمزة صوتاً أجشّ لتلميذ نَزل من قسم بالطّابق العلويّ. قال التّلميذ للمدير إنّ الأستاذة حبيبة قد أرسلته ليُبلّغ عن جماعة مشاغبين يثيرون بلبلة وصخباً ويعرقلون سَير الدّرس في قسمها. قال له المدير، بِصوتٍ جهوريّ وغاضبٍ قليلاً، إنّه قادم على الفور إلى قِسمهم، فعاد التّلميذ مِن حيثُ أتى. وبدأ المُدير حديثاً مع المجذوبي عن المشاكل التي تلاقيها الآنسة حبيبة مع تلاميذها، ثمّ مَضيا صوب الدَّرَج الحَجَرِيّ لِيصعدا إلى الطّابق الأوّل، حيثُ القسم الذي تُدَرّس فيه تلك الأستاذة اللغةَ الإنجليزيّة. وسمع حمزة السّي المجذوبي وهو يُهمهم ويَكُحّ، فابتسم إذ وَرَد في ذهنه أنّ التّلاميذ يُطْلقون على حارسهم العامّ هذا تسمية: دِيلْطا! ذلك أنّ “دِيلْطا” حرف يُونانيّ يَعتمده التّلاميذ رمزاً في الرّياضيات، فيما يَخُصّ حلّ معادلات الدّرجة الثّانيّة تحديداً! فهذا الحرف، في هيئته الكبيرة التي يُستعمَل بها في النّطاق المذكور، يتبدّى مُثلَّثاً ذا ضلعين مُتساويين. والحال أنّ السّي المجذوبي يكاد يكون مُثَلّثَ الجِذع… فهو أقصر من المدير الذي ليس بالطّويل بِدَوره، وساقاه قصيرتان، ووَسَطُه أعرضُ مِن كتفيه بِشكل لا تُخْطِئه العين. هكذا، لا يَعسُر على شخصٍ ذي خيالٍ مَرِح أنْ يتصوّر أنّ هنالك ضِلعَي مُثَلّث يَنزلان مِن جانبي رأسه إلى كتفيه ويَنتهيان عِند خاصرتيه!
تحرّك المدير والحارس العامّ نحو الدَّرَج، وربّما شرعا في الصّعود. يُفكّر حمزة في تلك الأستاذة، ويتراءى له وجهُها اللّطيف، النّحيف قليلاً، الّذي لا يزال مُحتفظاً بِملامحَ وتعابيرَ مِن زَمن طفولتها. لقد سمعها، أكثر من مَرّة، تتشكّى من شَغب بعض التّلاميذ وتكاد تُطلق العنان لِدموعها، وبالفعل تعاطف معها. يَذكر حمزة أنّه كان قد تعاطف مع المدير أيضاً، في أواخر السّنة الماضية، حين ماتتْ له طفلته الوحيدة، وهي في السّابعة مِن عُمرها، بِسبب التهاب السّحايا. كان حمزة قد رآها مرّاتٍ عِدّة مع أبيها، وعرف أنّ اسمها شامة، وحَزن كثيراً لِموتها… أمّا الآن، فحمزة حانق على المُدير. ليس حاقِداً عليه فِعْلاً، ولكنْ يَكَاد.
***
خفض حمزة بَصَره، وجَنْب إحدى قوائم المكتب، رأى “الموزيط”. يعتقد حمزة أنّ كلمة “الموزيط” هي أحسن وَقْعاً في الأذن من مرادفتيها: الجِراب والقِراب. ثمّ جاءته فكرة، فبقي مُتأمِّلاً لِلحظة، وشعر بالتّردّد، لكنّه حَزم أمره فاجتذب موزيطَه بِقدمه اليُمنى، وانحنى والتقطه بِسرعة وهَبّ واقفاً، وهو يضحك في سريرته
كانت الفكرة قد انبثقتْ في رأسه على حِين غِرّة، لكنّها كانت مكتملةً ومُلِحّة. فَكَّر: إضاعة الوقت الآن غير مقبولة! هكذا، حَمل جِرابه بِيُمناه، ثمّ أخرج مِقَصّاُ من جارورِ مكتبه وَوَضعه في جيب جاكيتته السّوداء، وهي بِدون أكمام. إثْرَ ذلك، خَطا نحو باب مكتبه، وخرج وجذب الباب مِن خلفِه.
يُهروِل الآن على رؤوس أصابعه تقريباً. يَشعر بما يُشبِه الانتشاء أو الدّوخة الطّفيفة. يَسلك الممشى القصير الذي يُوجَد خلف قاعة الأساتذة. يتلفّتُ يميناً وشمالاً، قبل أن يتوجّه صوب مكتب المُدير.
تسلّل حمزة إلى مكتب المُدير بِمرونةِ قِطّ، ثمّ أغلق الباب خلفه بأناة. لكنّه، فَجْأة، لَم يَعُد مَزْهوّاً بفكرة الانتقام الرّمزيّ الّتي شَرَع الآن في تنفيذها. فما هي إلّا ثَوانٍ حتّى شَعَر، في العتمة الخفيفة لِمكتب المدير، بأنّ فكرته الانتقاميّة قد لا تكون سديدةً. لقد راودتْ ذهنه على حِين غِرّة وَمَالأَ نفسه على تنفيذها. هل يعود إلى مكتبه دون أن يُكْمِل ما كان عازماً عليه؟ كَلّا، أجاب نَفسه بلا تردّد. لمْ يَعُد هنالك مجال للتّراجع. إنّه يشعر بالزّاوية اليُمنى لِشفتيه تتقلّص وتَنْمَطّ. إنّه ليس مرتاحاً تماماً لِما سيقوم به. يَقول أيضاً لِنفسه إنّ ما سيقوم به الآن لا يُمكن أنْ يُعتبرَ سَرِقة، لأنّه لا يتوخّى من ورائه منفعة مادّيّة، وإلّا فلماذا لا يُحْسَب اقتطاع يومين مِنْ راتبه – وقد تمّ ذلك مؤخّراً – سَرِقةً أَوْعَز بِها المدير، السّي عبد المجيد السّاخي، إذْ بلّغَ عنْ تأخّره مرّتين وتغيّبِه خلال صَبيحتين؟ فلنقلْ إنّ الهَدف مِنْ “عَمَلِيَّتي” هاته هو إثبات قُدْرتي على رَدّ الفعل حين أُظلَم، فكّر حمزة، ثمّ تساءل: “لكنْ هل أنا فِعلاً مَظلوم؟”
وها هو يشعُر الآن بِنفحاتٍ مِن نسيم بارد مُنْعِش تَهبّ وئيدة في ربُوع ذِهنه، ثمّ تَشرع في الاضمحلال، فيبتسم بلا سبب ويُخْرِج من جيبه المقصّ الصّغير الّذي جَلَبه معه، ويضغط هاتفَ مكتب المُدير بِيُسْراه ويقطع أسلاكه بِالمِقَصّ، ثمّ يَحشره في الموزيط.
أستشعر بعض التّخوّف، لكنّ ذلك لا يُوهِن عزيمتي. ما هي إلّا توجّسات غامضة، لَربّما تَجْعل الدّم يَغيض من وجهي قليلاً، لكنْ لا خطورة مِن ذلك. فجأةً، أُحرّك قَدمي اليُمنى فَتَركل، في الآن نفسِه، إحدى قوائم مَكتب المُدير والموزيطَ الباهت الصُّفرة الذي وضعتُه أرضاً إثر اقتحامي لهذا المكان. يَنجم عن ذلك الرَّطم اللّاإراديّ صوتٌ غريب، أسمعه مزيجاً من الخشخشة والقرقعة والطّنين. للوهلة الأولى، أسمع ذلك الصّوت مُكبَّراً مرّات ومرّات، فأتخيّل مِقْرعة تَهوي على طبلٍ قريب منّي. لكنْ ليس على المكتب سوى أوراق وملفات وروزنامة وأقلام، والهاتف طبعاً، فلا وجود للطّبل إلّا في خيالي.
يَضَع حمزة مُوزيطَه على كتفه الأيمن، ممسكاً إيّاه من الخيط المفتول الملفوف حول فُوهّته المُغلَقة، ويُغادرُ مكتب المُدير مثلما كان قد دخل إليه: مُتسلّلاً حَذِراً. بعد أن يخطو خطوتين مبتعداً عن مكتب السّيّد عبد المجيد السّاخي، يَشعر بضحكة صغيرة تمور في صدره، لكنّه يُسارِع إلى إخمادها. ينعرج يساراً إلى الممرّ القصير الذي تُشَكّله فَجوة بين مكتب سُعاد ومكتب الحارس العامّ.
يصل إلى السّور. يتسلّقه ويقفز إلى الخارج. جِرابه على كتفه، وطَرَفُ الخيط الأخضر المفتول، اللّيّن المَلمس، الّذي أُنْفِذ في ثقوب مُقوّاة الحوافّ بحلقات معدنيّة صغيرة تُحيط بفوهة الجراب، قد انضمّت عليه يُسراه. أُووووف! زَفر حمزة. ثمّ شعر بارتياح مفاجئ، بل عاد النّسيم الخفيف المُنعش إلى الهبوب بِلطف في أرجاء مُخّه.
يقطع حمزة الشّارع بعد هبوطه من فوق سور الثّانوية. ينعطف يساراً، حاثّاً الخُطى، وبعد ذلك ينعرج يميناً، فيقطع الشّارع ويجد نفسه أمام سلسلة دكاكين وبيوت، قُبالتها طريق ضيّق، إلى يساره رقعة مستطيلة بها أشجار متناثرة ونباتات. يسمع حمزة للهواء المنعش السّاري بين تلافيف مُخِّه مُوسيقى خافتة. إنّها موسيقى شَرْقِيَّة بالتَّحْديد. يَغُذّ السّير، طَرِباً. يرى، وسط أشجار متباعدة إلى يساره، ثياباً منشورة على حبل غسيل، وعلى حبل آخر يبدو له إزار أبيض مُخَطّط بالأصفر، تنهال عليه حزمة عريضة من أشِعّة الضّوء. ما تزال أذناه تلتقطان أنغام الموسيقى الشّرقِيّة، وفرائصه تسري فيها انتشاءة طرب خفيفة. الإزار الأبيض المُخَطّط يُصبِح ذا قِوام، ويبدو أنّ كائناً أنثويّاً يلتفّ به. بالفعل، إنّها امرأة مشرقة الوجه والابتسامة تتقدّم نحوه شِبه راقصة على إيقاع الموسيقى. يتفرّس في الوجه الباسم المشرق ولا يُصَدِّق ما تراه عيناه. إنّها هي، المُغنّية صباح، شابّةً، تنظر إليه وينظر إليها، ابتسامتُها عريضة وفَرَحٌ عجيب تنضح به بَشرتُها. تتحرّك بِخِفّة، ثمّ تتوجّه إليه، مُرتجِلَةً بداية أغنية باللهجة المغربيّة: “آشْ فِي المُوزيطْ يا حمزة؟” فيردّ عليها هو، مُغَنِّياً بِدوره: “فيه الهاتيييفْ يا سِتّي!”.
يَقف حمزة أمام دكّان لبيع التّبغ، بعد انقشاعِ طَيفِ صباح الّذي لم يبق منه إلّا الإزار الأبيض المُخَطّط المُتدلّي من حبل الغسيل. بِجانب الدّكّان، محلّ كُتِبَ فوق بابِه: مِصَحّة السّاعات. يُفكّر حمزة أنّ هاته التّسْمِية لها بعض الفرادة. خلف كونتوار دكّان التّبغ، هنالك كمال، بعينيه الضّيّقتين وصدره السّمين. نظر كمال باستغراب إلى صديقه حمزة، إذ لاحظ السّرعة التي كان يُهرول بها وهو قادم نحو باب الدّكّان. قال له حمزة: “السّلام عليك، ولا تسألني عنْ أَيِّ شيء”. أجابه كمال: “عليكَ السّلام، وعاش مَن شافك يا حمزة”. وضع هذا الأخير الموزيط أمام كمال على الكونتوار، وطلب مِنه أنْ يُبْقِيَه عنده حتّى وقت لاحِق. أضاف حمزة: “به شيء قابل للانكسار”. سأله كمال، مُمازِحاً: “قنّينة مَاحْيا؟”. ردّ هو: “لا، ليست ماحيا. هاتف فحسب”. أخذ منه كمال جِرابه، ورَكَنه في زاوية تحت الكونتوار.
وها حمزة، مُجَدّداً، يُناوب بين الجَري والهرولة آيِباً إلى الثّانويّة. سيقطع السّور قفزاً من جديد، لِيَجد نفسه واقفاً خلف مَكتب المدير هذه المرّة، وبعدها يمرق بسرعة نحو باب مكتبه هو.
****
حمزة هو الآن في مكتبة. يُفَكِّر بأنّ ما قام بِه ليس بالأمر السّيئ جِدّاً، ما دام المدير هو البادئ بِالإساءة. ثمّ يتساءل: هل المدير هو البادئ حقّاً بالإساءة. تتوالى عليه مشاعر الاقتناع بما فعل والشّكّ في كونه على صواب، فينتقل من الاطمئنان إلى التّوتّر. ثمّ ماذا عن ردّ فعل المدير حين يكتشف اختفاء هاتفه وآثار العدوان على مكتبه، ولا شكّ أنّه بالفعل اكتشف كلّ ذلك الآن؟
يُقرَع جرس السّاعة الخامسة. يَخرج حمزة مِن مكتبه لِيتوجّه نحو السّاحة. لكنْ يظهر أمامه السّي المجذوبي، الحارس العامّ، ويقول له، باسِماً، إنّ هنالك اجتماعاً “مُصغَّراً” برئاسة المُدير في قاعة الأساتذة، وهو مَدعوّ للالتحاق به. يَرنو حمزة إلى الحارس العامّ مُستفهماُ، لكنّ الجواب الوحيد الذي يتلقّاه هو ابتسامة عاديّة لا تحمل معنىً خاصّاً… يمضي حمزة صوب باب قاعة الأساتذة.
يدخل إلى القاعة. المدير جالس قبالة أربعة أساتذة. يقول حمزة بصوتٍ خافت: “السّلام عليكم”. بين الأساتذة الحاضرين للاجتماع وبين المدير طاولة مستطيلة مديدة. وها هو الحارس العامّ يدخل بِدوره. يقول له المُدير: “آسّي المجذوبي، في هؤلاء السّادة الأساتذة الحاضرين الكفاية”. تُراود حمزة فكرة غريبة فيبتسم، ويزمّ شفتيه كي لا يضحك. فقد تساءل، بشكلٍ لاإراديّ، عمّا ستكون عليه ردّة فِعل الحارس العامّ لو أنّ المدير نَسي نفسه لِلحظة، وقال له: “آسّي ديلْطا…”. ثم يشعر حمزة بشيء من التّوتّر ويفكّر أنّه قد يكون ممتقع الوجه قليلاً، فيسارع إلى استعادة مظهره الجادّ.
ثمّ يتوجّه إايه المدير قائلاً: “اِقترِب قليلاً آالسّي حمزة”، ويشير إلى كرسيّ فارغ في صفّ الكراسِيّ الأماميّ. لمْ تَفُت حمزة نبرة الحَنَق الشّديد التي نطق بها المُدير اسمَه. يشَعر بالتّوتّر ثمّ يُفكِّر أنّ الجَوّ المُخَيِّم في القاعة لا يخلو من تشويق.
ينتقل حمزة للجلوس على الكرسيّ الفارغ القريب من المدير. وجه المُدير ما ينفكّ يتغيّر بصورة لا تخفى على مَن حَوله. يُدرك الحاضرون أنّ أمراً ما يعتمل في دخيلته، مسبّباً له انفعالاً يتكتّم عليه بِصعوبة. يسود الصّمتُ لِثوانٍ. ثمّ يتكلّم المدير: “السّادة الأساتذة، السّلام عليكم. دَعَوتكم في هذه السّاعة لهذا الاجتماع بِسبب واقعة غريبة، بَل مُؤسِفة”. وتضطرب الكلمات في فم المُدير، ويُحاوِل الابتسام، لكنّ شفتيه تتقلّصان قليلاً، بعدها يُعاوِد الكلام: “الواقعة التي اتحدّث عنها هي ممّا لا يُصدّقه العقل… شيء مؤسِف، مُحزن، مؤلِم، لذا ترونني مُنفعلاً”. أصبح الآن يتكلّم وكأنّه يكبتُ رغبة في الزّئير. فَنبراته مُشْبَعَة بغضب بيّن. فجأةً، يتوجّه لِحمزة: “إيوا، آشْ ظْهَرْ لِيكْ آسّي حمزة فْهَاذ الشِّي؟”. يتصنّع حمزة الاستغراب مِن أن يتوجّه المُدير إليه هو بالذّات بهذا السّؤال، ويبرم شفتيه كأنّه يتساءل: “وما علاقتي أنا بِمشكلتك؟”، لكنّ ملامحه لَم تكن تُوحِي بأنّه حقّاً لا يَفهم ما يَقصِده المُدير. كان وجه حمزة مسرحاً لانفعالات كتيمة وتبدُّلات قد تكون طفيفة لكنّها تتواتر ولا تَخفَى عمّن ينظر إليه. كانت أبصار الحاضرين مُتّجِهةً إلى حمزة، ومِن بينهم مَن ظهر على شفتيه طيفُ ابتسامة. قال حمزة للمدير: “لا أفهم قَصدك جيّداً يا أستاذ”. كان جوابه هذا هو القطرة التي أفاضت الكأس. ففجأةً، استشاط المُدير غَضباً، وارتعشتْ عضلات وجهه، وبرزتْ عيناه من مَحجِريهما وحَدّق في حمزة كأنّما يُحَدّق في الشّيطان نَفْسِه، وتوجّه إليه بصوت مُحتدّ، جهير: “بل تفهم قصدي جيِّداً. أعِد الهاتف الذي أخذتَ مِن مكتبي… أعرف أنّك فعلتَ ذلك لِلمزاح… لكنّ المزحة يجب أن تنتهي… يا السّي حمزة”. لم يقل حمزة شيئاً، فقال المدير: “مُصيبةٌ هذه واللّه… اعِد الهاتف”. أراد حمزة أنْ يتصنّع الاندهاش لكنْ كانت شفتاه ترتعشان، وحاول أن يتظاهر بالبرود التّامّ دون أن يتمكّن من ذلك. كان المدير يعرف حمزة منذ سنوات، وكان يُدرك أنّه متمرّد بِطبعه، وأنّه إذا اقتنع بِمخطّط ما، سيقوم بتنفيذه ولو تطلّب منه ذلك تهوّراً شديداً. وقد أدرك، حين اكتشف اختفاء الهاتف مِن مكتبه، أنّ تلميذه السّابق حمزة السُّمكي هو الوحيد الذي يُمكنه أن يُقدم على تلك الفعلة كردّ فعل متهوّر على التقارير الأخيرة الّتي رُفِعتْ في حَقّه…
وها هو المُدير يُحَدّق في حمزة بِغضبٍ وعُدوانيّة، ويقول له بِصوتٍ مختلج، مُتلجلج، مُضطرب: “أعِد الهاتف يا حمزة. هل ترضى لنفسك أن تُصبِح لِصّاً؟”. وقد بَقي حمزة لا يُحير جواباً لِثوانٍ، ثمّ افترّتْ شفتاه وانفتح فمه قليلاً كأنّه ذاهل، لكنّه استعاد السّيطرة على نفسه، وفجأةً بَدرتْ منه ضحكة مسموعة جعلتْ وجه المدير يكتسي لوناً قرمزيّاً، أمّا حمزة فقال: “يا أستاذي، أنت تعرف أنّي لستُ لِصّاً. ولا علاقة لي بحكاية الهاتف هاته، بل إنّها تُضحِكني”. تضاعف غضب السّي عبد المجيد وانتفخ وَدِجاه، لكنّه سرعان ما تَصنّع الهدوء، وتوجّه لِحمزة بنبرة أرادها أن تكون أبويّة رقيقة، غير أنّ ما صدر عنه كان صوتاً غريباً مُتهدّجاً مُصطنَعاً كأنّه صوتُ روبوط، الأمر الذي جَعل ضحكات خافتة تصدر عن عدد من الأساتذة الحاضرين، وسارع السّي عبد المجيد إلى مُجاراتِهم فأصدر بِدورة ضحكة خافتة، كأنّها مُبطّنة بِنشيج، أتبعها بِكلام مشحون بالتشنّج: “أَعِد الهاتف يا ولدي يا حمزة”، فلم يُجِبه هذا الأخير، بل ضرب كفّاً بكفّ، كأنّه يستنكر ما يسمع. هنا وقف المدير وجسدُه يرتعش قليلاً، ورفع مِن عقيرته قائلاً: “أليس في وجهك حياء، والله لأُشبِعنّك ضرباً”. وكان جواب حمزة هو ضحكة مسموعة جديدة، وقف على إثْرها وقد تبدّل لونُ وجه، ثمّ غادر القاعة، وبعد أنْ تجاوز الباب وأغلقه مِن خلفه، وجد نفسه يقف متسمّراً بالقرب منه.
ساد الصّمت لِلحظة بداخل القاعة، وتوجّه المدير بعدها للجالسين، قائلاً بنبرة حزينة: “يا الله نْديرو لِيهْ فاتْحة مَقلوبة”. وأنا، حمزة، سمعت ما قال المدير، كما تنامت إلى أذنيّ همهمات مِن داخل القاعة. أعرف أنّ وجهي ممتقع قليلاً أو كثيراً، لكنّي ابتسمت حين سمعت هاتين الكلمتين: “فاتحة مقلوبة”، بل إنّي، والحقّ يُقال، تعاطفتُ قليلاً مع المدير، فقد أدركتُ أنّ محاولة اللّجوء إلى “الفاتحة المقلوبة” مِن طرفه، إنّما هي ناتجة عن شعوره بالعجز وبأنّه أُهين. أمّا الفاتحة المقلوبة، فلا شكّ أنّها تعني أنْ يَرفع الحاضرونَ أكُفّهم ويُوَجّهوها إِلى أسفل، وبعدها يقرؤون الفاتحة ويَدعون بالسّوء على شخصي الضّعيف! وسمعت السّيّد باهي، وهو أستاذ للتّربيّة الإسلاميّة، يتوجّه للمدير قائلاً: “أنت رجل شهم والمُسامح كريم، فلنكتفِ بأنْ نطلب له الهداية…”
عاد حمزة إلى مكتبه، وحاول أنْ يرى في كلّ ما حدث كوميديا مُضحكة نَجَمتْ عن مُزحة أراد منها النّيل قليلاً مِن المُدير ومضايقته، كردّ فِعل على الاقتطاع الأخير من حوالته، وخاصّة على محاولة المدير التّهكّم عليه من خلال استرجاع حكاية “السّي امْحمّد البهلول، اللّي قْتَلْ سْبَعْ وُغُولْ”. بل إنّ ضحكة مُقتضبة ندّت عن فم حمزة حين ذكر في سِرّه اسم السّي امْحمّد البهلول. مع هذا، فإنّ أعماقه لم تستعد سَكينتها. لذا نهض وغادر مكتبه، مغلقاً الباب مِن خلفه، ثمّ يمّم شطر باب الثّانويّة، لِيغادرها. “وإنْ كانت السّادسة لم تَحُلّ بعد فلم تبق عليها سوى دقائق”، فكّر وحثّ خُطاه، كأنّه يفرّ مِن شيءٍ مّا.
يخرج حمزة من الثّانويّة. ينعرج يساراً. يرفع رأسه إلى اعلى، فيرى، على غصون بعيدة لِشجرة، عُشّاً تتبدّى منه رؤوس ومناقير صغيرة لِعصافير وَليدة. وهو ينظر إلى فوق، يتعثّر بِحجر، ويتماسك، مُحافِظاً على توازنه. لكنّه الآن مُنزعج، ومتخاصم مع نفسه.
لِماذا أَقدمتُ على تلك المغامرة الصّغيرة الرّديئة؟ فأنا لا أحتمل أن يُعتبَر ما قمتُ به سَرقة. ولكن ِبمَ سيُنعَتُ فِعلٌ مثل ذاك؟ لقد فكّرتُ بأنْ أثأر لنفسي مِن السّي عبد المجيد السّاخي، لكونه أساء إليّ. لكنْ هل هو أساء إليّ فِعْلاً؟ ألم يَقُم فحسب بواجبه الإداريّ؟ وحتّى مسألة التّفكّه بحكاية السّي امحمّد البهلول، ألم يكن ممكناً تقبّلها كَمزحة لا أكثر؟
ثمّ يَسمع حمزة هرجاً خلفه ويلتفت: إنّهم أوائل مغادري الثّانويّةمن تلميذات وتلاميذ. والرّصيف الذي يمشي عليه هو مألوف لديه منذ أن كان تلميذاً بهذه الثّانويّة… لو أنّه ينوي الآن المُضِيّ إلى بيت عائلته لتابع السّير على هذا الرّصيف حتّى يجد أمامه شارعاً عريضاً، فيقطعه ثمّ ينعطف مقدار خمس وأربعين درجة يساراً، فيمضي بين بيوت ومبان، وبعدها يسلك طريقاً ترابيّة صاعدة، إلى أنْ يصل إلى “دْيور لَحجر”، فهذا هو اسم الحيّ الذي يُوجَد به بيت عائلته. أمّا الآن، فلن يقصد البيت. لذا يتوقّف ويلتفت يميناً، ويقطع الشّارع إلى الرّصيف الآخر. لقد خلّفَ وراءه الشّارع الفرعيّ الذي يُوجد به محلّ كمال. لا رغبة لديه في أن يأخذ جِرابه الآن، فالهاتف الذي بِداخله أصبح مشكلة بالنّسبة إليه. وها هو يصل إلى الزّاوية التي يُوجدُ بها مقهى الأمل. لن يجلس أيضاً في هذا المقهى، الذي يؤمّه عدد من أساتذة الثّانويّة. ما يُريده هو أن يمشي ويمشي. وحين يتعب سيجلس إلى طاولة بِتيراس أيّ مقهى يَجده أمامه.
كيف أُعالِج مشكلة الهاتف التي ورّطتُ فيها نفسي؟ لا أطيق أنْ يظنّ أحدٌ أنّني سارق، ولا أن أشعر أنّي كنتُ سارِقاً ولو لِلحظة عابرة. لا يُمكنني طبعاً أن أعيد الهاتف إلى المدير، لأنّ في ذلك إقراراً بِما سيعتبره الكثيرون سرقة، رغم أنّ الأمر لا يعدو أنْ يكون مزحة، فظّة ولا شكّ، أقدمتُ عليها نِكايةً في سي عبد المجيد… ربّما لو لم يكن قد لجأ إلى السّخريّة في حديثه معي لما أقدمتُ على… لكنْ هل ما أزال مُقتنعاً بأنّه تعمّد السّخريّة حقّاً أم تُراه تذكّر فحسب حكاية “سي امحمّد البهلول” وأدرجها في كلامه في لحظة مَرَح؟ لكنْ، هل كنتُ أمرح وأمزح معه في تلك الآونة؟
ذلك أنّي كنتُ في مكتبه لِأحتجّ على اقتطاع يومين مِن راتبي رغم أنّي لم أتغيّب إلّا لِصبيحتين، وذلك إثر تقرير رفعه هو إلى الوزارة، وكان هو يُحاول إقناعي بِأنّ ما حدث عاديّ وأنّه يأمل ألّا تتكرّر تغيّباتي، وفي لحظة ما أبديتُ له أنّي اقتنعتُ بما قال، فنهضتُ لأنسحب قائلاً له: “ما كاين مشكل. السّيّد المدير، الله يهنّيك”، ووقتها فاجأني بضحكة تنطلق مِن فمه المفتوح، أردفها بِقوله: “الله يهنّيك آسّي امحمّد البهلول، اللي قْتل سْبَعْ وُغولْ”، فلم أجبه ولم أضحك وغادرتُ مكتبه، حانقاً عليه بكلّ تأكيد.
هل كان لازماً أن أحنق عليه؟ ذلك ماوقع، لكنْ ربّما كان عليّ أن أعتبر الأمر تافهاً وبلا أهمّية. ربّما.
في هذه اللحظة، أراني جالساً في قسم التّاريخ والجغرافيا وأنا بعد طفل، وإلى جانبي حميد، ابن جيراننا وصديقي وقتها، الذي يجذب دفتري مِن أمامي، ويُدير أوراقه إلى أنْ يصِل إلى الأخيرة، فيكتب عليها تلك العبارة التي سيكتشفها سي عبد المجيد، أستاذنا آنذاك، ويجعلها موضوعاً لِسخريّته.
كان أخو حميد الأكبر، سليمان، قد أصيب بالسّلّ، وكان يشتغل في منجمِ فوسفاط ويُعيل عائلته، المكوّنة مِنه ومن حميد وأمّهما. وأعدى أخاه الأصغر، وشُفيا بعد فترة طويلة نسبيّاً، وحميد هو الآن مُعلِّم في قرية بعيدة، أمّا سليمان فأصبح حارساً في مستودع لشركة الفوسفاط. في أيّام طفولتنا، كان بّا سلّام من الشّخصيّات الّتي تحلّ بحيّنا بانتظام ونُسَرّ برؤيتها. كان يظهر في “دْيُور لَحجر” بانتظام، وكان يعزف على الهجهوج بشكل يُطرِبنا، وكان عددٌ مِن الأطفال يَتبعونه وهو يجوب جنبات الحيّ، لابِساً رداءه الصّوفيّ الملوّن الطّويل قليلاً، المطرّز بالودع مثلما قلنسوّته ذات الشّرّابة الّتي تدور في الهواء دورات حين يُدير رأسه على إيقاع أنغام هَجْهُوجِه. وحين لا يعزف، كان يتصنّع تخويف بعض الأطفال على سبيل المزاح، وكانت له جملة مأثورة كثيراً ما كرّرها ضاحكاً: “هذا هو السّي امحمّد البهلول، اللّي قْتَل سْبَع وُغُولْ”. هكذا أصبح السّي محمّد البهلول من أبطال طفولتنا المَهيبين.
أشعل حمزة سيجارة. عبر من شارع إلى آخر. في الأخير جلس في تيراس مقهى وَلِيلي المحاذي للسّينما الّتي تحمل نفس الاسم. يُفكِّر: آخر فيلم شاهدته على شاشة هذه السّينما، كان عنوانه: نيكيتا الصّغير.
يطلب حمزة قهوة إكسبريس. يُفكّر أنّه ، في الواقع، انتقم لِلسّي امْحَمّد البهلول من مدير الثّانويّة الّذي سخر منه. وفي هذه الحالة، فإنّ السّي امْحمّد البهلول أوشك أن يُسَبِّب لمديرنا العتيد نوبة عصبيّة فادحة، يُفكِّر حمزة. مهما يَكُنْ مِن أمر – يقول في نفسه- ينبغي أن أُعيد الهاتف، حتّى لا أُعتبرَ لِصّاً. لكنْ، إذا أَعَدْتُه بِشكل مباشر، أفلنْ يُنظَر إليّ كَلِصّ أدرك أنّ أمره افتضح فأراد الحفاظ على بعض ماء الوجه؟ إذن، ماذا سأفعل؟
سرّح حمزة بصره في اتجاه البنايات القائمة على الجانب الآخر من الشّارع، وقرأ على يافطة عريضة فوق محلّ قبالَتَه: “سيّارات للكراء”. شعر أنّه مُتوتّر الأعصاب. التفتَ حواليه وتنبّه إلى شخص يجلس منكمشاً على نفسه، غيرَ بعيد عنه، رأسه محشُوّ في طاقية سوداء. يتأمّل هذا الشّخص شيئاً ما على شاشة هاتفه المَحمول وتَتّسع ابتسامتُه. يرمقه حمزة فيبتسم بدوره. تلتقي عيونهما، ثمّ يُلقي ذو الطّاقية السّوداء بنظرة أُخرى على شاشة هاتفه ويرفع رأسه ويشرع في القهقهة، رانياً إلى حمزة، كأنّ بينهما معرفة سابقة وتوطؤاً ما. بتلقائيّة، يضحك حمزة بدوره. بغتة، يُفكّر أنّه وجد الحلّ المُلائم لمشكلة هاتف المُدير.
*
يُرافق يقظتي تَرْجيع الحمام، يقول حمزة في نفسه وهو يُغادر منزل أسرته لِيمضي إلى الثّانويّة. بتساءل: “هل تمكّن عُمَر من إقناع المدير ويكون مُشكل الهاتف قد حُلّ؟”. يبدو لي أنّ المدير سيسارع إلى إبداء الاقتناع، لأنّه هو أيضاً في حَرَج شديد ممّا حدث.
البارحة، وأنا أشربُ قهوتي في مقهى وَليلي، انبثق الحلّ في ذهني كوميض برق، فذهبت عند كمال وأخدتُ موزيطي، والهاتف طبعاً بِداخله. الهاتف يبدو في أتمّ جِدّته، لا خدشة في سواده المتلامع. مضيت إلى محلّ صديق طفولة آخر، يبيع هواتف نقّالة وأخرى ثابتة وأشياء أخرى، وقلت له: “يا إبراهيم، لقد جعلتُ نفسي في ورطة أنا في غِنىً عنها، والحلّ هو أن أحصل على هاتف ثابت مثل هذا، لكن بلون مختلف”. نظر إلى الهاتف الأسود الذي جلبته معي، وقال: “هذا سهل جِدّاً، الهواتف موجودة وبألوان مختلفة”. قلت له إنّي لا أريد أن أحتفظ بالهاتف الأسود ويمكنني أن أتركه له وأزيد مبلغاً مادّياً وآخذ هاتفاً آخر”. ضحك وكأنّه فهم أنّني أقدمتُ على حماقة ما وأريد أن أطمس آثارها. جاءني بهاتف ثابت نبيذيّ اللّون، أجمل شكلاً من الأسود، وقال لي: “نتبادل ولا آخذ منك نقوداً”. بعد ذلك، قصدت مسكن الأستاذ عُمر، وهو صديق لي، فبادرني سائلاً: “ما حكايتك مع هاتف المُدير؟”. رددتُ عليه: “كانت نزوة بالنّسبة إليّ، نوعاً من كَيل الصّاع صاعَين للمدير. لكنّ المسألة أخذتْ أبعاداً لا تُعجبني. لا أطيل عليك: لقد أخذتُ هاتف المدير إلى واحد مِن معارفي يَبيع الهواتف، ووافق على أن يُبَدّله لي بِآخر… لذا جلبتُ إليك هاتفاً له نفس قيمة هاتف المُدير المادّية، لكنْ لهُ شكل ولون مختلفان. أطلب منك يا عُمر أنْ تأخذه غداً صباحاً إلى المدير وتقول له: حمزة لا يُطيق أنْ يُتّهم بالسّرقة، لذا فقد اشترى هذا الهاتف مِن حُرّ ماله، وهو يُقَدِّمه عن طِيبِ خاطر هديّة لإدارة هذه المؤسّسة التي دَرَس فيها قبل أن يُصبح مُوظّفاً بها”. وبعد أن أكمل حمزة كلامه، قهقه عُمَر طويلاً، فَضحك حمزة بِدوره.
وها أنا في طريقي إلى الثّانويّة في هذا الصّباح. لا شكّ أنّ عُمر ماضٍ بِدوره صوب الثّانوية، في إحدى يديه محفظته، وفي الأخرى جِرابي وبداخله الهاتف الذي أريد أن “أتفضّل” به على الإدارة. سأتعمّد التّأخّر لدقائق حتّى يكون قد أنجز مهمّته.
يجلس حمزة الآن إلى مكتبه، ويتساءل: “تُرى ما الجديد الذي ستأتيني به اللّحظات القادمة؟”. لا بدّ أنّ عُمَر الآن في قِسمه… بعد دقائق، يُفاجئه المدير الّذي دفع الباب الموارب ودخل وهو يجتذب جلّابيته الخضراء من وسطها إلى الأسفل، كما يفعل في أحايين عديدة. وَجْه المدير غَزَتْه حُمرة وعَلَت فَمَه ابتسامة. وفي يده اليُسرى، كان جِراب حمزة، فارغاً.
قال المدير: – السلام عليك. يا السّي حمزة، إنّ هديّتك مقبولة، وسأُخبر الأساتذة بهذه اليد البيضاء التي أسْديتها لثانوّيتنا”. (يَضحك المدير هذه المرّة بشكل صريح، ثمّ يَستعيدُ وقاره). وها هو جِرابك قد جِئتك بك، فشكراً لك، وكلّ شيء سيكون على ما يُرام.
ينصرف المدير ويبقى حمزة وحده في المكتب. يشعر أنّ سحابة سوداء تتبدّد وتختفي من ذهنه. يتنفّس الصُّعَداء. يبتسم ويقول في نفسه: “لقد ثأرتُ للسّي امحمّد البهلول، ثمّ جبرتُ الضَّرر”. يرفع رأسه إلى أعلى، فيرى ما يُشبه وجهاً في فضاء المكتب. وجه يتشكّل وتنطمس بعض ملامحه ثمّ تتكوّن مِن جديد. الوجه أنثويّ. شفتاه قانيتا الحمرة، ريّانتان وتعلوهما ابتسامة. إنّه وجه صباح الشّابّة. وها الشّفتان تنفتحان وتُغنّيان: – كيف الأحوال ياحمزة؟ وَيُجيب هو، مُبتسِماً ومُغنّيّاً بِصوت خافت: – كُلّْ شِي مَزْيااانْ ياسِتّي… ثمّ يغيب الوجه، ويبقى حمزة، مُسنداً ذقنه إلى قبضة يده.














