خرقت السفينة مع ذلك خذها الملك غصبًا، وفصل عن جسدي الخصيتين، وعندما علم أنني أعول اخوتي، كانت الخمر تترقرق في دمه، فدبت الرحمة في قلبه، وأمر بجعلي من خصيان القصر.. هذه قصتي، ويعلم الله أنني لم أنقص، ولم أزد…
دلق ما تبقى من زجاجة العرق في جوفه، أتبعها بقطعة من الخيار، وأردف قائلًا:
– ولكنك لم تحكِ كيف أتيت إلى هنا؟
ارتبك صاحبنا، وارتعشت شفتاه كعادته عندما يشعر بالخجل، وأحنى رأسه قائلًا:
– لكن حكايتي مخجلة، فانت فقدت رجولتك لدفاعك عن حق لك، أما أنا فحكايتي جد مخجلة.. ولكن ماذا كنت أفعل؟ كانت الليلة باردة موحشة، وكنت عائدًا من الحانة التي أعمل بها عازفًا، وفي إحدى الحواري الضيقة المظلمة، سمعت مواء امرأة تعلن عن قوة بعلها.. دون تردد وجدتني اقترب من النافذة، واتابع الأحداث من إحدى الفتحات الصغيرة..
ظللت هكذا حتى شعرت بالدفء يسري في بدني، وبعدها شعرت بيد تقبض على قفاي، أقسمت إنني لم أر سوى إلية الرجل السوداء، لكنه ظل يصرخ حتى خرج الزوج، وفقأ عيني مباشرة.
شكر قاضي المدينة الزوج على حميته، وحبسني مع الفئران ثلاثة أشهر، وبعدما خرجت توسط لي مطرقع أصابع الأمير –وهو على علاقة بجاري وزوجه- وأتيت لأكون عازف المحظيات بالقصر… ولكن خبرني بالله عليك، كيف تعيش في هذه الدنيا هكذا؟ أقصد ما هي متعتك في الحياة، بعد أن…؟
– (مقاطعًا) الخمر…
– وهل تكفي الخمر فقط؟
وظل الأعمى يحدثه عن النساء هدية الله للفقراء، ليكنَّ متعتهم في هذه الدنيا البائسة.
وأخذ المخصي يتحدث عن الخمر، وامتلاك السحاب والبحار، واعتلاء ظهر الأمير نفسه –إذا لزم الأمر- بكأس واحدة.
تبادلا النكات، ودبت بينهما الألفة، كما دبر الأعمى، لكنه وجد الوقت ينفرط، والليل يوشك على الانتهاء، دون أن يصل إلى هدفه، فقاوم تردده قائلًا:
– ما رأيك في نصف زجاجة من النبيذ المعتق؟
– أعرف أنك كنت تتودد إليَّ لسبب ما.. هات ما عندك.
وهنا بدأ العازف الأعمى يرقق في صوته قائلًا:
– أنت تعلم مدى عشقي للنساء، ومذ فقدت بصري لم أر أنثى، ولم ألمس أنثى، لعلك لا تقدر ذلك، لكنني احترق.
– وماذا تريد مني؟
– فقط أريدك أن تصف لي ما يدور حولي، فكل يوم بعد صلاة العصر، يأمرني الأمير بالعزف في الرواق، وأشعر حولي بالهمسات وروائح العطور، ولا أفهم شيئًا.
– إذن زجاجة نبيذ كاملة غير منقوصة.
أخذ المخصي يصف له، ولكنه لم يكن يصف كل شيء، أو لم يكن يعير اهتمامًا كافيًا لما يريده الأعمى، وكان العازف يعلم ذلك جيدًا..
كان يعلم أن الخادم المخصي أسود الضمير، لكنه دفع زجاجة النبيذ مرغمًا، فقد كان حين يجن عليه الليل، ويلف فخذه حول وسادته، لا يجد ما يشعل خياله، ويمنطق الأحداث..
لكن لا أخفي عليكم، لم يكن الخادم المخصي أسود الضمير، كل ما في الأمر أنه لا يعرف قيمة ما يرى، فثدي المرأة بالنسبة له لا يعني أكثر من كتلة من الشحم واللحم بارزة دون فائدة.. لعلكم تفهمون قصدي إذا علمتم أن الملك ذبحه في سن الرابعة عشرة، لكن العازف لم يستسلم، وأخذ يستوحى من الكلمات ويستنطقه.
– لكني سمعت الخدم يطلقون عليك أبا تفاحة؟
– الخدم هنا متخصصون إلى أبعد مدى، وأنا تخصصي توصيل التفاحة.
– توصيل التفاحة، لا أفهم شيئًا؟
– اسمع يا سيدي، كل يوم في العصر تدخل المحظيات جميعهن للاستحمام والتعطر، ثم يخرجن ملفوفات بالبشاكير، ويجلسن في الرواق، على حافة النافورة، وتبدأ أنت في العزف، ويبدأن في التمايل مع ألحانك، أثناء تمشيط شعرهن، حتى تسقط البشاكير، ويصبحن عرايا تمامًا، حينئذ أكون بجانب الأمير بالدور العلوي، نراقب الموقف، حتى تستقر عينه على جسد إحداهن، فيرسلني إليها بالتفاحة، وبذلك تعلم أن الاختيار قد وقع عليها الليلة.
– كل ذلك يحدث دون علمي.. الطعام بجانبي، وأنا أكاد أموت جوعًا؟
– وهل تريد طعامًا؟
– أريده بعمري.
– كلا.. إليَّ فقط بزجاجة أخرى من النبيذ، وسأدلك على الطريق.
مندليف يُضحك المهرج
أتيت إليك وليس لي أمل سواك.. ليس لدي نبيذ أقدمه لك بعد ان سلبي المخصي اللئيم أخر زجاجة كانت معي، ولكني احتاج إلى مشورتك…
انحنى على يد مهرج القصر كي يقبلها فتركها له، وقد له الخرى ليقبلها أيضًا، ثم قهقه، وطلب منه عرض مشكلته.
بدأ العمى سرد حكايته، بأسلوب جعل المهرج يفكر في البكاء، لكنه في نهاية الحكاية، ابتسم قائلًا:
– الحل بسيط، ولكن لي طلبًا.
وهنا انتفض العازف والدموع بعينيه، وأقسم إنه لا يملك مالاً ولا نبيذًا، ولكن المهرج لم يكن يطلب ذلك.
– إن كل ما أطلبه، أن تحكي لي نكتة جديدة تضحكني.
– نكتة؟
– نعم فهي مالي ونبيذي.
– وهو كذلك.. سأحكي لك نكتة سمعت طبيب القصر يحكيها للعراف، ذات يوم كان هناك عالم كيمياء اسمه مندليف، كانت الدنيا كلها تحترمه، وتنهل من علمه، لكنه ظل مجهولاً داخل وطنه.. أتدري لِمَ؟
لأن القيصر كان لا يرضى عن أرائه السياسية.
يقهقه المهرج حتى يقلب على ظهره، ثم يقفز كأن به مسًا شيطانيًا من كثرة الضحك، فيبتلع العازف ريقه، وتهدأ دقات قلبه، ويتساءل:
– والآن ما هو الحل؟
– الحل يا سيدي بسيط.. أنت تعزف وهن يجلسن أمامك عاريات، أليس كذلك؟
– نعم.
– لمرة واحدة اجلس دون ارتداء سروال داخلي، بطريقة تكشف عن مكنونك، ارح بالك، ودع لمن تشتهيك التفكير في صيدك.
– يا لك من شيطان!
– ولكن خفيف الظل.
قالها المهرج، وظل يحكي للأعمى نكاتًا ودعابات، حتى دمعت عيناه من كثرة الضحك.
العازف يفقد سلاحه خارج المعركة
الحق أقول إن رأي المهرج رغم بساطته، عميق..
وستوافقونني الرأي إذا علمتم أن محظيات المير تسع عشرة، أي أنه مهما فعل لن يرضيهن جميعًا، وعازفنا العمى هذا سيكون صيدًا ثمينًا بالنسبة لهن، ولكن ليس كل ما يقبله المنطق، يقبله القدر..
فقد فعل كما أشار عليه المهرج الحكيم، ولم يره سوى الأمير، وبإشارة واحدة أفقده ما كان يفخر به، ويكشفه للجالسين.
عودة إلى المخصي
اقتنع الأمير – بعد جهد كبير من الخادم المخصي- أن الأعمى لم يكن يقصد شيئًا، بذلك لم يطرد من القصر عازفنا الأعمى، وعندما للشفاء، ذهب أول ما ذهب إلى الخادم المخصي..
– أتوس إليك، خبرني كيف تعيش هكذا؟
– إليك والخمر.
– خمر الدنيا كلها لا تغنيني عنهن، أريد ان أعود رجلًا.
– إذن إليَّ بزجاجتين فقط من النبيذ، وسأدلك على الطريق.
المهرج تنبت لحيته
يدق الباب على وتعظ القصر، الذي يمتلك الدواء هذه المرة، كما أخبره الخادم، لكنه يشم رائحة يعرفها، فيقول مدهشًا:
– أنت مرة أخرى أيها المهرج؟
– لم أعد مهرجًا يا بني.. أنت لا ترى لحيتي التي تملأ وجهي وقارًا.
– ما الأمر؟
– إنها الأقدار.. تركتها تنمو لعدة أيام كنت فيها مريضًا، فأعجبت الأمير، وأمر أن أتركها تنمو، وأعمل واعظًا للقصر، والأمر لا يخلو من نكتة في بعض الجلسات الخاصة.
يُخرج شيخنا مسبحته، يصرخ”:
“يا حي.. يا قيوم”
– أتوسل إليك نجني.
– النجاة في يده سبحانه.
– ماذا أفعل؟ أريد استعادة فحولتي؟
– لا تسألني.. اسأله هو مالك الملك.
– جف حلقي ولم يستجب.
– ابحث عن اسمه رقم مائة يا أحمق.. عنده ادعُ به، وسيجيبك قبل ان تكمل دعاءك.
مرت مئات السنين، وما زال عازفنا يبحث عن الاسم المجهول.. والمهرج تلتف مسبحته حول عنقه، ويبسم في سخرية.
…………..
من مجموعة قصصية بعنوان “إغماءة داخل تابوت”- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 2003