حكايات من عالم أنهكه الدوران
آية جمال
كل الذي حدث وسوف أقصه على مسامعك كان صباح يوم العيد، الشوارع تعج بالناس كأنهم نزلوا لتوهم من السماء، الابتسامات ترتسم على الوجوه، والملابس الجديدة تبعث البهجة إلى القلوب، كل يسير في دربه، كل في فلكه شارد الفكر، الصبايا تتفنن فن الضحك ومشاركة الحكايات التي لا تنتهي، والأولاد ينظرون إلى الفتيات بعيون جريئة ووقحة ومترددة أحياناً، ينتظر البعض منهم تلك الفرصة التي تمكنه من اختلاس نظرة إعجاب منهن، والبعض الآخر ينتظر الفرصة التي تمكنه من ملامسة جسد أي أنثى طالما أن هذا الفعل سيحقق له انتصار حيوانياً، العالم يدور ولا يتوقف أبداً..
نحن الآن على مقربة من الفتاة ذات الفستان الوردي، إنها من أجمل الفتيات في هذا المكان الذي يمثل صورة نقيضة لها تماماً، تمتك أعين واسعة في لون حبة اللوز، وأنف رقيق، وفم لا يعرف سوى الابتسام والسخرية، تبدو للناظر للوهلة الأولى كأنها من جيل وعالم آخر تماماً، وجُدت سهواً هنا حينما كان العالم يلتقط أنفاسه الأخيرة، لها نبرة صوت حادة قليلاً وجافة لا تنتمي بأي صلة لجملها الأخاذ الذي يسرق الأعين والقلوب التي تهوى الجمال في صورته الأولية المتواضعة ومفهومه البسيط، تتحدث دوماً بكل أريحية وجراءة عن أن هذا العالم لا يعنيها في شيء، تنعت الناس بأقبح الألفاظ، وترد الصاع صاعين لكل من يحاول أن يملي عليها أفعالاً معينة أو يقيدها، هى تعلم جيداً كيف تأخذ حقها وكيف تطعم السمك وتلفظ الشعر وتخفي الأسرار وتلعن الدولة وتضع أحمر الشفاه وتجفف دموعها وتكره الخائن وتحب الحرية ، إنها لا تشبه المكان الذي تقف فيه الآن، المكان الذي ترقص عليه الجثث التي فلتت من سجاني القبور..
نحن الآن أمام شاب يبسط كفيه للريح ويرفع قدميه عن الأرض، ويترنح في مشيته في اتجاه الكورنيش، يرفع قدمه على السور ثم يمسك بيده اليمنى طرف السور الحديدي ثم يكرر نفس الفعل بالقدم اليسرى، فيعطي ظهره للناس ويدع قدميه للهواء على عكس الناس الذين يجلسون في نفس المكان حيث إنهم ينظرون إلى هذه الجهة ولا يولون ظهورهم لنا، بعد دقائق يقف على السور سانداً على اللا شئ، ينظر إلى حيث لا نهاية، أقول لنفسي ”ماذا لو كان يجهل السباحة؟“ لن تنقذه قشة في عرض البحر ولا هؤلاء الناس ، كف الناس هنا عن مساعدة بعضهم البعض، كف الناس هنا عن النظر من دون غرض سيء إلى بعضهم البعض، لا أحد هنا ينظر إليه..
على بعد مترين من ذاك الشاب، تقف طفلة تقدّم البالونات للمارة وتوزع الحلوى، خمنت أنها بالتأكيد أخت شخص من هؤلاء الذين ينتمون لجمعيات تنتشر في الأعياد بغرض إسعاد الناس خاصة الأطفال، الطفلة جميلة بشكل عبثي، تضحك دونما أي سبب للضحك، تمشى وهى في نفس المكان، تغلق عينيها ثم تفتحهما فجأة كأنها رأت كنزاً يجب رؤيته بوضوح، ”أحب الأطفال“ أقول لنفسي وأتمنى أن يكون لدي يوماً طفلة جميلة كهذه، ثم يخطر على بالي تلك الزوجة التي رمت طفلتها لأنها في غير حاجة إلى طفلة تجعل حياتها جحيم ولا تدرك أنها هى الجحيم ذاته. ”يا الله، اجعل قلبي كما هو مهما دق على الراس طبول ومهما أصابه من البشر ولا تدع قلبي بلا حبك وحب من يحبك“..
أسير في اتجاه مغاير تماماً إلى أن أصل إلى المقهى الأجمل على الإطلاق في هذه المدينة، يشبه بألوانه الزاهية التي أحب ”غمازة“ في وجه لا يعرف أي سبيل للابتسام، يدور في هذا المقهى دائماً أغاني قد عفى عنها الزمن ولم يعف عنها قلبي، وأحياناً تكون السيدة فيروز هى ونيستنا في هذا المكان، ”يا قلبي لا تتعب قلبك، وبحبك على طول بحبك
بنقول رايحين بنكون راجعين على دار الحُب ومش عارفين“
قرأت من فترة أن أصحاب برج القوس عندما يقعون في الحب يشبهون تماماً تلك الأغنية، دائماً ما يكونون في هذه الحالة من التخبط وعدم استيعاب الموقف والرغبة في القرب ثم الرغبة في الهروب ، وما بين هذا وذاك لا تتعثر أقدامهم في الراحة. قلوبهم مفتوحة على مصرعيها لأي عابر يلقى فيهم قدراً من المحبة الخالصة ليمنحوهم بدورهم قدوراً من السلام والعاطفة الجياشة الصادقة رغم تلك الحدة التي يحاولون بها إضافة إطار من الصلابة على تصرفاتهم .
يخطو الجرسون خطوات متزنة إلى الفتاة التي تجلس في الزاوية بعيداً عن الصخب ، تتناول كتاباً في يديها لم أتمكن من رؤية اسمه، تبدو مندمجة تماماً في القراءة وكأنها في حالة توحد مع الكتاب، تدون بين الحين والاخر جملة في النوتة ذات الألوان المبهجة، أستغرب من أن هناك فتاة في هذا القرن ترمي العالم خلف ظهرها وتجلس في هذا الركن القصي في صباح يوم العيد لتقرأ كتاباً بكل هذا النهم والخفة والرقة.
”اتفضلي يا آنسة، القهوة السكر زيادة“
ترفع رأسها قليلاً، ثم تنظر صوب الشاب وتخبره ”لكنني لم أطلب قهوة سكر زيادة، أنا لا أشرب سوى القهوة السادة بدون أي قطعة سكر“
ينظر إليها مندهشاً ثم يقول لها ”آسف يا فندم“ ثم يذهب إلى زميله ويقول له هامساً ”البنت عادت لعادتها القديمة، لقد أخبرتنا عشرات المرات أنها كفت عن تناول القهوة السادة مُنذ أن امتلأ جوفها بالمرارة، أعتقد أنها على شفا حفرة من الزهايمر وذهاب العقل“'
فيخبره زميله بعد أن طرق على مقدمة رأسه كأنه يريد استرجاع المعلومة ”إنها الآن في حالة سُكر، كلُ منا يسكر بطريقته، البعض يسكر بالحب، والبعض يسكره الخمر، والبعض الآخر مثلنا يسكره الهم، إنها سوف تعود بعد قليل لحالتها العادية"
وتقول والضحكة الرنانة تغزو المكان ”هل ينبغي في كل مرة أن أذكركم بأي نوع قهوة أتناوله؟! ماذا لو لم نكن أصحاب مكان؟“
أخرج من المقهى وأنا راغبة في أن يتوقف العالم قليلاً حتى أتمكن من التقاط أنفاسي وإدراك كل ما يحدث حولي، إدراك مثلاً لماذا عُمر الوردة قصير إلى هذا الحد ببنما الطغاة يعمرون في الأرض كأنها ملك لهم، ومعرفة لماذا الظلم دائما ما يكون هين بينما العدل أشبه بالمستحيل، واستيعاب تلك المقطوعة الموسيقية التي لم أعطها حقها أول مرة، والبكاء على الحكايات الحزينة التي خبأتها تلك الفتاة أسفل الوسادة قبل أن يسرقها النوم، ومعانقة ذلك الرجل الذي فقد زوجته منذ عشرين عاماً ومازال كل يوم يذهب إلى قبرها ويضع عليه الورود التي تحب، أريد أن يتوقف العالم حتى أتمكن من الكتابة عن وجع الظهر وصك الأسنان أثناء النوم والخوف من المجهول ومصادقة الكتب وقلوب الأمهات وأرواح العواجيز وعيون أطفال الشوارع والبكاء بلا دموع، ومذاق الآيس كريم في الشتاء ..
أريد أن يتوقف العالم ولا يعود ثانية إلى فلكه الطبيعي.
أثناء هذه الهوجة من الأفكار والرغبات التي لا تنتهي أرى مشهداً سيظل هنا في الذاكرة التي تخونني كلما كنت في حاجة إليها،الذاكرة اللعينة التي أُحسد على امتلاكها، هذا المشهد كالصفعة على الوجه، رجل يحبو كالأطفال تماماً، يزحف على الأرض ليصيب قلب كل من يراه بالحزن المثقل، يستمر في زحفه هكذا بجسده الضخم وعباءته اللبني وعقله الساذج الذي صور له أنه بهذه الطريقة سوف يحوز على تعاطف الناس وبالتالي أموالهم، هو في الستينات من عمره تقريباً، لم أتمكن من رؤية وجهه بوضوح، صدقاً أنا تحاشيت النظر إلى وجهه مباشرة، صادفته في الطريق أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت ارغب في أن تبتلعني الأرض.
كلما مر هو على مجموعة من الناس ظهر وكأنه جثة خرجت حالاً من القبر لتذهب بعقل كل من يراها، أو كعربة تجر أربعة أقدام وتغزو المكان ليبتعد كل من يراها حتى لا تتمكن من دهسه.
تمكنت بصعوبة من تخطي المشهد والمضى في طريق اخر ، لكن صورته ظلت تطاردني أينما مشيت، وقلبي يأخذ في الخفقان بسرعة كبيرة، ورأسي يصيبه الدوار، ولا أقوى على الوقوف وأعجز بالتأكيد عن الطيران، ليتني كنت مثل ذاك الشاب الذي أعطى ظهره للعالم ولم يعر اهتماما لأحد، أو مثل تلك الطفلة التي توزع الحلوى على الناس، أو مثل تلك الفتاة التى لا تكف عن نعت العالم، أو مثل الفتاة التي تسكر بالكتب وتضحك كالبلهاء. ليتني أكف عن رؤية العالم بهذه الصورة وهذا القلب وهذه الروح..
لماذا لا يتوقف العالم الآن؟!