فارس الشوك
إلى درّة، التي لم تتركني للوهم.
فاتحة
ما الهوس؟
حتى تتجنب الخلط فإنه أفق أبعد ما يكون عن الجنون، يمكنك معرفة عنه القليل إن كنت تعاني شيئا منه، أما من الخارج، من أعين الناس التي ترى الشخص المهوس، والتي لا تعرف منه ذائقة، فهو عتمة مظلمة.
لو كان بامكان الآنسة الشابة أميرة أن تنهض ذات صباح وتفقد شعر حاجبيها مثلما فقد بلاتون كوفاليوف أنفه في قصة غوغول لما كانت ستُمانع ذلك أبدا. بل على الأرجح لو حدث مثل هذا الأمر العجائبي فإنها لم تكن لترهق كاهلها يوما واحداً بالبحث عنهما وعوضا عن ذلك كانت لتكتفي فقط برسمهما كل صباح بقلم مكياج خفيف من ماركة كيكو الشهيرة أو بأن تضع مكانهما وشما احترافيا عند أقرب مركز عناية نسائية.
كانت آنستنا تنهض كل صباح على شكل مرآة حوض حنفية جديدة. وهذا سببٌ لأنها كانت كذلك تنهض كل يوم على مضجع نوم جديد. من المحتمل أنها قد رأت عشرات أحواض المياه في حياتها. بل في الغالب المئات من الحنفيات والشراشف والملاءات والفراشي والحوائط والأراضي. كان كل يوم جديد يعني رائحة غرفة جديدة. وكان كل صباح جديد يعني أشعة نور تلامس أرضا جديدة. كانت الديمومة لها من المحال، ومع ذلك فقد كان شعر حاجبيها المنعكس على كل تلك المرايا الوحيد الذي تجده نفسه متربعا مكانه كل صباح.
بالنسبة لامرأة لا يتجاوز دخلها الشهري الألف ونصف دولار فأن تنهض كل يوم على مكان جديد في دولة ما وعلى قارة مختلفة لهو أمر أكثر غرابة من قصة غوغول في حد ذاتها. حتى غوغول نفسه ما كان سيصدق شيئا كهذا ولو أخبره أحدهم بذلك لكان قد نسج منه حبكة رواية ما أو كنا لنرى مكان المعطف والأنف قصة باسم الطائرة. إلا أنه ولأن انستنا كانت مضيفة طيران تشغل خط طيران الاماراتية الجوية فقد كان هذا أمراً عادياً و شيئا في منتهى السهولة. روتينا مثل أي روتين حياة أخرى، تماما مثل النهوض يوما بعد الآخر على صوت منبهات السيارات المجنونه بغرفة مطلة على شارع الجمهورية بمنطقة أكودة الساحلية أو كالاستيقاظ على نغمات العصافير بفيله هادئة بحي الضباط بباردو.
دون أرق، عاشت أميرة في هذا اليومي الطائر طيلة الثلاث سنوات الفارطة حتى تغيرت حياتها نحو نشوة بداية جديدة إثر لقائها طبيبة الأمراض الجلدية وأخصائية العمليات التجميلية نائلة بطيخ، والتي كانت قد تعثرت بقدمها على طائرة متجهة من الامارات العربية إلى هونغ كونغ بعد أن أوقعت ودون قصد طبق الطعام على بلوزتها الحريرية التي ليس بإمكاننا تصور أنها كانت رخيصة أبدا.
أخرجت الطبيبة من محفظتها ورقا مبللا بعطر الأناناس كان محشوا بعلبة بلاستيكية مكتوب عليها بالأحرف الكبيرة بيولوجي ١٠٠٪ ثم مسحت الجاكات بلطف بدا أرستقراطيا للغاية.
“أعتذر بشدة مدام. اترك عنكِ سأعتني بذلك بنفسي” قالت أميرة التي لم تتعرض لمثل هذا الموقف إلا لهذه المرّة الأولى منذ أن باشرت عملها مع شركة الطيران.
بهدوء، نزعت الطبيبة البلوزة ومررتها إلى أيد أميرة ثم تفحصت قميصها الأبيض وتثبتت من أن لا بقايا طعام قد وطأت تنورتها وحذاء كعبها العالي. كان من حسن حظها أن الطعام كان قطعة صغيرة من كعك الشيكولاته قدمت كتحلية مع كوب عصير حسب الاختيار وأن التقديم كان عبر تسبقة جولة الكعك على جولة العصير.
” عزيزتي، لا عليكِ. الفائدة أن القميص على ما يرام. ممم، أرى أنك تبدين في حالة جيّدة بالنسبة لفتاة تبدو في الثامنة والعشرين من عمرها. لكن هل جيّدة علامة كافية؟ الاجابة هي لا. عليك أن تكون في حالة ممتازة. جمالكِ خلاب، حجر الأساس موضوع هناك بعناية، فعلت الجينات ما يجب عليها أن تفعل، لقد قامت بدورها جيدا في أن تُرسّخ على وجهكِ معايير الجمال الحديث، وجه مستدير، ليس كبيرا ولا صغيرا، بشرة صافية وأعين واسعة مع رموش كثيفة، كيراتين الشعر على أفضل مستوياته وكذلك تصبغ الميلانين الخفيف عليه يعمل بشكل جيّد. آه، أرعبتكِ أليس كذلك؟ ليس سهلا مقاومة ذلك. أضن إنكِ إمرأة متكاملة، كما أجزم أنك على عناية فائقة بهندامك العام ونظافة جسمك. هذا طبيعي، فطبيعة عملك هذه تفرض عليك الأمرين بصفة وجوبية ودورية. لكن الجينات والعناية ليس لهما أفق أبعد من علامة -في حالة جيّدة-، إنهما في عرضة دائمة لمداهمة الزمن. إنهما تحت وطأته الآن بالفعل. قد لا ترين ذلك لكن أنظرِ، خبرتي العملية تستوجب اشتشارة فورية، إني ألمح ظهور تجاعيد مبكرة فوق الجبين، كما لا يمكنني التغاضي عن تقلص الشفاه وتشققها مع الوقت. قد تفقدين نعومتهما إلى الأبد وهذا خطر عليك بدرئه. لا أعلم الكثير عن مهنتك هذه ولكن الشائع أن الجمال والشباب يحتكمانها، عليك اذن العمل على ألا تفقديهما أبدا. ”
ذهلت أميرة لهذه البداهة والدقة في التحليل. تكمشّت مكانها خوفا من ملاحظة حول حاجبيها لكنها لم تحصل عليها. نظرت للكرسي المحاذي لمكان الطبيبة خوفا من أن يلتقط الشخص الجالس هناك هذه الملاحظات التي ليس لها من العادة أن تكون خارج عيادة الطبيب الا أن ذلك لم يحدث أيضا.
“لا تلقِ له بالاً، إنه أنطوان زميل لي وطبيب مباشر بمستشفيات باريس. كان في الامارات يشارك ندوة علمية حول طبقة الأدمة وهي طبقة الجلد بين البشرة والطبقة الدهنية لفروة الرأس لها علاقة مباشرة بنوعية الشعر. لن أطيل عليكِ، في اعتقادي أنك لستِ في حاجة إلا للقليل من الفيلر والبوتوكس. حقنة على الجبين وأخرى على الشفاه. ستضمنان لك سنة فائقة. سأكون مشغولة على مدى الاسبوعين القادمين بهذا المؤتمر العالمي لطب التجميل بلبنان لهذا لن أستطيع رؤيتكِ إلا بعد هذه المدّة. خذِ عندك بطاقة الزيارة، تجدين العيادة بمجمع بانوراما الطبي بسوسة، تعالي، لا تتردي، سأعمل لك الحقنتين بالمجان، فقط لأنني سعيدة اليوم. في العادة كنتُ سأغضب بسبب سكب الطعام ولكني شاكرة أن مشوباتك الاستيتكية قد حفزت عقلي للعمل. حسنا، في النهاية لقد استغرقت في الحديث ،فقط لو تفضلتِ أرجو منك أن تخبريني باسمك ؟ .”
” إنه أميرة. أميرة اللوزي
” اسم جميل بالنسبة لفتاة جميلة. أميرة. نلتقي إذا بعد أسبوعين. كما لا تزعجي نفسكِ حول الجاكات سأضع غيرها ما أن نصل إلى المطار.”
التفتت الطبيبة إلى زميلها متجاهلة أميرة وكأن المحادثة لم تحدث إلا في ذهن هذه الأخيرة وحدها، وببرود تام كانت قادرة على المرور من أتموسفار إلى آخر على عكس الآنسة الشابة التي بدى عليها الحيرة في أن تعود إلى واجبات عملها وكأن شيئا لم يكن أو أن تضل واقفة هناك بسخافة.
” مشوباتك الاستيتيكية” خفقت الكلمتين في ذهن الفتاة بشدة. أعادت استعراضهما بمسامعها في حلقة لا متناهية بنفس الألفة المصطنعة التي وجهت إليها الطبيبة نائلة حديثها. دعونا ألا نتجاهل ذلك، إن ملاحظة حول جمال امراة من إمرأة أخرى يدعو دائما إلى التوتر. مهما كانت على درجة من الوعي الوجودي فإنه كسكب سطل ديدان على جثة، في النهاية توجد بالفعل ديدان من الداخل وها الآن سيصبح التحلل من الداخل والخارج معا. عادت أميرة إلى حجرة تقديم الطعام لتملأ المزلاج بعبوات العصير من أجل جولة ثانية. كانت نوعا ما مهيمنة على وسطها العملي طيلة السنوات الثلاث الماضية ولكونها إلى جانب لسانها السليط الفتاة الاكثر تحصيل للمستوى الجامعي بين طاقم عملها باستثناء قبطان الطائرة والقبطان المساعد فإن حادثة سهوها البسيط وإتساخ بلوزة الطبيبة لم يثر أية كلمة بين زميلاتها الفتيات ،ومع ذلك لا شيء كان بإمكانه كبح فضولهن في معرفة ما دار بينها وبين الطبيبة.
قامت بلهفة بتعبئة المزلاج بالعصير وسألت أحد تلك الفتيات في أن تقوم بدورها ثم أغلقت على نفسها غرفة المرحاض الضيقة. جلست على مقعد المرحاض بعد أن أطبقت عليه غطاءه وأخذ قلبها في الخفقان كأنه عبوة ديناميت في ثوانيها الأخيرة وخُيّل إليها أن الطائرة بأكملها وهي تهتز.كان من حسن حظها أنها لا تتعرق أبدا وإلا لأفسد ذلك عليها ميكياجها. أخذت نفسا عميقا ثم أخذت آخرا وآخرا. أخرجت من محفظة جيبية قطعة مرآة صغيرة كانت تخفيها دائما معها حتى تتسنى لها فرصة تفقد ثبات حاجيبيها مكانهما ثم بدأت تدقق النظر في جبينها وشفاهها كبداية. قادها فيم بعد التوجس إلى التركيز على وجنتيها وأنفها حتى شمل التوجس تدريجيا بقية تفاصيل خلقتها. كانت لأول مرّة تنسى أن تُمعن النظر في حاجيبيها بافراط فكان بالامكان تمييز هذه اللحظة، اللحظة التي انتهت فيها معاناتها القهرية حول حاجيبيها فقط وبدأت مكانها معاناة قهرية أكبر بكثير لتشمل كامل تفاصيل وجهها.
اعترتها رغبة شديدة في دفن وجهها المزيّن بين كفيها، إلا أنها لم تقدر على ذلك فاكتفت بأخذ نفس عميق آخر وأرسلت رسالة نصية بالميسنجر إلى أقرب صديقاتها آمنة عبر خدمة انترنات الATG الجوية التي توفر انترنت الطائرة عبر إشارة الأبراج المتاحة ثم عادت لمباشرة عملها.
كانت آمنة عرڨوبي إحدى أود صديقات أميرة اللاتي جمعت بينهن زمالة الدراسة بمعهد العلوم الجبائية بسوسة قبل سبع سنوات. هذا علاوة على أنها كانت رفيقة سكنها في المبيت الجامعي أين تشاركن عدة ليال في التعارف على زُمر الشباب على منصة تيندر حديثة الإطلاق وقت إذن. نجح الثنائي في جميع سنوات الإجازة بسرعة وبمعدلات تراوحت بين المقبولة والجيّدة، ورغم تسكعاتهما الليلية التي لم تنته أبدا لم يواجه كلاهما العناء أبدا. لكن في سنتهما الأولى من سنة الماجيستير عبث رجل أعمال في مجال “المانيكان” كانت قد تعرفت عليه أمنة على تطبيق التيندر بعقلها ليفتح لها أفقا واسعا نحو هذا المجال. ولمجرد مواعدته لها لليلة واحدة كان قد عرض عليها ديفيلي تقوم به بمدينة الحمامات. كانت دعوة ستثير الريبة في نفس أي فتاة أخرى إلّا أنه وبالنسبة لآمنة كانت الفرصة الذهبية التي وأخيرا بسببها سوف تستغل المئة وسبعين سنتيمتراً من طولها والاثنين وخمسين كيلوغراماً من وزنها في مكانهما الصحيح. لم تكن هذه المعايير التي تتسم بها إلى جانب تناسق خصرها الذي لا يتجاوز الستة والستين سنتيمتر مع صدرها المسطح من قبيل الصدفة فهي لم تتهاون في الحمية الغذائية التي كانت تتخذها لأربع سنوات يوما واحدا. فقد ألبست صدرها أضيق وأصغر حمالات الصدر منذ أن لمعت في ذهنها فكرة العمل كعارضة أزياء إثر مشاهدتها لفيلم “جِيا-GIA” والذي كان من بطولة انجلينا جولي ومن إخراج الأمريكي مايكل كريستوفر. كان هذا الفيلم لقاء الخارج مع الداخل فقد ألمع في عتمات ذهنها ضوءا حول حرية العيش كما يجب عليها أن تفعل و في أن تثور أمام كل القيود الممكنة.
” وينك يا قحبة!” قالت أميرة لآمنة بعد أن التقتها في غضون يومين من حادثة الطائرة في نزل ذي ڨايت-The gate، بمحافظة كوماموتو اليابانية.
جلستا الفتاتين بغرفة النزل وكانت أميرة تثور غضبا في وجه آمنة بسبب تأخرها على رد ارسالياتها القصيرة خلال الثمان وأربعين ساعة الفارطة. “لا يعجبني ذلك، ذلك لا يعجبني أبدا، عليك أن ترد سريعا ما أن أحتاجكِ، لقد كدت أفقد أعصابي منذ البارحة إلى اليوم، لم تفارق مرآة الجيب يدي طيلة هذه المدة، حتى أنني كدت أستسلم لسؤال أحد تلك العاهرات التي تعملن رفقتي عمّ يجول بخاطري، وهذا كله بسببك، لماذا لا تردين على اتصالاتي، هاه؟، أقسم أنني اتصلت بك ستة وثلاثين مرة حتى علمت أنك باليابان، أتدركين كم كلفني من جهد ومال أن أصعد مع فريق طائرة أخرى متجهة إلى اليابان؟. حسنا، ذلك الآن لا يهم، تعالي وألق نظرة جيدة على وجهي ثم أخبريني بما ترينه بكل دقة . ” !
” أميرة!، كفاكِ عبثا، أتسمعين نفسك بماذا تتفوهين؟. لم أكن في حالة جيدة طيلة الأسبوع وها قد استعدت البعض من عافيتي فقط لأسمع منكِ هذا الهراء”. قابلت آمنة ثوران أميرة بشيء من مثله لكن ذلك كان معتادا في ما بينهما فسرعان ما تهمد غضبهما.
أجلست أميرة صديقتها قسرا على كرسي بجانب مرآة الحائط، أمسكت بأناملها تجمعهما بين يديها وقرّبت وجهها إلى وجهها، الأعين تقابل الأعين، الأنف يقابل الأنف والشفاه تقابل الشفاه. ليستا قريبتان وليست بعيدتان. “شعرة، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة… ممم أرى سادسة في طور النمو وربما سابعة بعد يومين، حسنا إذا، قريبا سيكون عليك تنظيف المنطقة بين حاجبيك….ماذا؟ هل أضعت ملقط شعر الحاجبين؟ أتريدين أخذ الملقط خاصتي؟ لا أمانع أبدا، بامكانك دوما ذلك. أهذا ما تريدين سماعه؟ ملاحظاتي الرشيقة حول حاجبيك؟ حسنا لك ذلك، لنفعل هذا طيلة اليوم .” قالت أمنة.
“ سحقا، ليس ذلك” نهضت أميرة من على الكرسي وقامت بجولة حول الغرفة في محاولة لاستعادة أنفاسها. كان قلبها يخفق بشدة فهي ما أن تتلقى ملاحظة حول حاجبيها حتى تدخل في حالة من الذهان العصبي. كان الأمر أقل وطئة مع آمنة حين يحصل معها الأمر ومع ذلك لم تتهاون في كبح مشاعرها في هذه المرّة وتركت دموعها تنهمر بغزارة. “ ليس ذلك لا ليس ذلك. قالت وهي تدور من جديد حول نفسها ثم قالت مرة أخرى “أعلم أنك سئمت مني ولكني أشعر بتوجس خطير حول شيء آخر، لا أطلب منك الكثير، فقط النظر مليا في وجهي وادلاء ملاحظة واحدة .”
حاولت آمنة أن تكسر توترها فأعادت اجلاسها إلى كرسيها قُبالة مرآة الحائط ثم طوقت يديها حول رقبتها وأسندت رأسها إلى جانب رأسها كعناق خفيف من الخلف.
نظرت لوجه أميرة المرتسم من خلال المرآة وبدل أن تدقق النظر في تفاصيل خلقته جاءت على حين غرة أعينها على وجهها نفسها: خصلات شعر أفحم متضررة من أثر السشوار غطت جبينها، وجه طويل خال من التورد، أنف بارز، شفاه أرجوانية وفك تبرز منه عظام كالأجنحة بفعل المضغ الدائم للعلكة. تذكرت أيام الجامعة حين كانت لاتزال غير مدمنة بعد على مادة الكوكايين. حينها كان وجهها رغم هزالته متورداً. بعد عقد تقريبا صارت تظهر عليه تورمات وبقع سوداء في كل مكان ومن الصعب اخفاءها إلا بالمكياج الثقيل. كانت تبدو قلقة وتتمنى أن تبادل مكانها مع أميرة، أن تكون هي الطرف الذي يشتكي وينحب ولكنها عوض ذلك شعرت أنها مجبرة على سماع هراء أميرة المتكرر مرة أخرى بعد وأن تسمعه بآذان صاغية وصدر رحب.
” ها أنا أنظر يا أميرة، ها أنا أنظر. جميلة كعادتك وشعرك في أبهى حالاته. فقط لو تضعين أكثر قليلا من الغلوس على شفتيك فهما تبدوان متشققتان بعض الشيء. كما أنه يبدو وكأنك لم تضع بودرة الوجه جيدا على جبينك فهي في حاجة لإصلاح سريع بإسفنجة الزينة. ربما لأنك أتيت مسرعة فلم تنتبهي لذلك ” .
“ هذا هو” نظرت أميرة لآمنة عبر المرآة بحدقتان واسعتان كأنهما قعر حزن لا متناه.
خلال الأسبوع التالي، عاشت فترة من ضروب التوتر الشديد فقد عادت لتونس بعد أن طلبت إجازة مرضية مدفوعة الأجر. وفي عصر خميس موافق ليوم ١٢ من تشرين الأول كانت على بعد خطوة صغيرة من تطأ قدمها مدخل المركب الطبي بانوراما. لم يستحوذ عليها هاجس التفكير في المغادرة كمثل شخصية من فلم تحفيزي كانت على مقربة شبر واحد من أن تدمر حياتها ثم انثنت عن ذلك. بل على عكس تماما كان اللهف نحو كابينة الطبيبة ينهش الفجوات بين أصابع قدميها حتى تُسرع أكثر في وصولها. كم كان من المروّعِ أنها صارت تعلم أن التوجس حول مشوباتها الجمالية لم يعد فكرة مارّة فحسب وإنما ضيفاً يتغذى على خوفها الدائم، كائن يدب ابرَهُ من الداخل كلما شعر ببطء مضيّْفه، نسيانه، هدوئه وسعادته. كائن يهاجم بسرعة خاطفة مناطق حساسة في العقل ليستعمر كامل أعضاء الجسد البعيدة. كان من المروع أنها تفهم كل ذلك وهي تضغط على زر الرقم ثلاثة بعد تأكدها من يافطة الطبيبة عند المدخل والتي كانت على لوح برونزي لا يشبه اليافطات الأخرى التي تجاوره وكأنه شيء من البهرجة الاستعراضية.
في مرآة المصعد الداخلية، نظرت إلى وجهها بتأكد وكأنها تودعه. كانت أمواج التجاعيد الرقيقة تلك على جبهتها تناديها بصوت سوداوي. ليست كثيرة وليست حتى ظاهرة للعيان ولكن الانسان يرى ما يتوجسه. خطفت نظرات سريعة تتفقد شعر حاجبيها.كان مُقلماً حتى آخر شعرة زائدة منه ومع هذا لم يبعث فيها ولو القليل من الطمأنينة. على العكس تماما جعلها تخرج مشطاً صغيرةً لتعيد بها ترتيبه قبل أن يفتح باب المصعد مصرعيه من جديد. وهكذا ،كانت بعد برهة في غرفة الانتظار بعد أن قامت بالتأكد من موعدها مع السكرتيرة.
“ هاهي صاحبة الحظ السعيد” قالت الدكتورة نائلة بطيخ بوجه متبجح وكأنها إزاء تسليم جائزة الفوز باليناصيب.
دخلت أميرة لكابينة الطبيبة وهي ترتدي جينزا ضيقا عالي الخصر بأرجل طويلة ومفتوحة. ومن الأعلى ‘توب’ قصيرا معلقا على أكتافها بتلك الخيوط الرقيقة غطى منطقة صدرها فقط. ولأنها لم تكن فاخرة الجسم لنتصور أنها لم تكن ترتدي حمالات صدر. أما في قدميها فقد ارتدت حذاءً ‘كاجوال’ أبيض اللون وقد كان كل شيء متناسقاً بعناية. تقدمت نحو مكتب الطبيبة وجلست إلى أحد الكراسي الاثنين قبالة المكتب وأخذت السيدة الطبيبة والآنسة الشابة في الحديث عن الأحوال السياسية بشكل مسطح و رديء للغاية. لا يستطيع الانسان التونسي مقاومة الانجذاب إلى مثل هذه الحكايات، فما أن تسمع أحد اثنين قال “غلات الدنيا” حتى يبدأ الآخر في سرد المقاربة السياسية التونسية ومقارنتها بأخرى. ببلدان الشرق الأوسط أو البلدان الآسيوية على سبيل المثال. وقد كان هذا رأي الطبيبة نفسه بعد أن عرضت على أميرة كتلا من المعلومات حول دبي وعن هونغ كونع بعد زياراتها الأخيرة.
رن هاتف الفيكس على طاولة المكتب فاستأذنت الدكتورة من أميرة أن تجيب فوراً وحتى قبل أن تسمع اذن أميرة كانت بالفعل على الخط. “ مدام نايلة، مساء الفُلْ” قال كريم طريطر مُحاسب الطبيبة والمهتم بجدول خلاص أداءها.
” كريييم. شيء بداخلي أحس أنه أنت .”
” هاها، كعادتك مبتهجة يا دكتورة. كيف كانت رحلتك؟ أخبرتني سكرتيرتك أنك قد عدت قبل يومين. أعتذر عن كل هذه السرعة، وددت لو تركتك ترتاحين أسبوعاً على الأقل ثم اتصلت بك ولكن الأمر لا يقبل الانتظار. حسنا بما أنني قد تحصلت عليك على فيكس العمل سأفترض أنك خارج الخدمة. ما رأيك إذن في أن نشرب القهوة بمقهى البيليني، مع تمامِ الخامسة؟ ” .
“ لا يا كريم، إني أعمل مع مريضة بالفعل ، كما أنني على موعد عشاء الليلة ولذا ستكون رؤيتك مستحيلة. لكنك لن تتركني فريسة للفضول، أليس كذلك؟ هيا أخبرني ما الجديد عندك، ثم حين نلتقي سأحدثك عن رحلتي ” .
” آه، لن أطيل عليك إذن. قريبا سيكون علينا مد المصالح الجبائية بالفوترة، وبما أنني تحصلت على معلومة شبه مؤكدة أنك دخلت مجال زيارة أعوان الجباية من أجل المراجعة فسيكون من المنطقي و الآمن أن نتمهل قليلا في هذه المرّة. سأرسل إليك مساعدي خلال هذا الأسبوع وأرجو أن تمديه بكامل الوثائق الصحيحة لأتمكن من صياغتها داخل مذكرة الأتعاب “ .
أنهت الطبيبة اتصالها مع المحاسب بألفة مصطنعة وعادت معتذرة بشأن ذلك لأميرة. وقد كانت تلك المرة الأولى منذ أن باشرت العمل كأخصية تجميل ترفع فيها سماعة هاتف الفيكس ومريض من مرضاها بكابينة العلاج. وهو ما كان كسرا مفاجئا لاستقامة مهنية دامت على مدار عشرون عاما من الاستشارات المدفوعة.
عم الصمت لبرهة في أجواء الكابينة … “ مذكرة أتعاب “ ثم قالت الطبيبة.
لكن أميرة لم تفهم.
“ الفواتير. صارت تسمى مذكرة أتعاب. لقد احتججنا طويلا حتى تمكنا من تغيير المصطلح من ذاك إلى هذا. أعتقد أنك تغيبت طويلاً عن مجال الجباية، ولهذا سأعلمك بالخبر. السنة الفائتة كنا قد تحركنا نحن أصحاب المهن الحرة بمطالب عديدة من أجل تنقيح الفصل التشريعي الخاص بالواجبات المتعلقة بالفوترة. ماذا؟ أنحن “حمّاصة” أم “عطّارة” حتى نمدهم بفواتير؟. لم أدرس لعقود حتى أساو ببائع البقالة. القصيد هنا يا أميرة أن أصل التفاوت بين الناس هو البهرجة. يجب أن يكون كل شيء مُبهرج، لامع واستثنائي. والبهرجة شيء نُضيفه إلى حياتنا بالرغبة في ذلك. أنظرِ حالتك مثلاً، لا فرق بين سيرفوز بمقهى ومُقدمة طعامٍ على الطائرة سوى أن أخيرة تُسمى hôtesse de l’air . إن ذلك مُبهرج بشكل عجيب وأظن أن عليك قوله بصوت عال أينما حللت.