لم يكن يومًا غريبًا أو أى شئ, مجرد نهار عادى, حار وتقليدى, فمنذ بداية مارس بات الجو حارا على غير المتوقع وكأن الأمر قد اختلط على الشهور أو أنهم تبادلوا مواقعهم معا دون علم منا.
حلمتُ ليلة أمس بحنان, ولحنان نصيب كبير من اسمها, يتجلى فى رقتها اللافتة, أنوثتها الطاغية وعاطفتها الآسرة, ولكن, وبالرغم من رقتها التى عهدتها إلا أننى رأيتها فى حلمى تجلس بأحد مقاهى وسط البلد, لم أميزه تحديدا, تشرب الشيشة بعنفوان ذكورى لا يليق بجمالها, تنفخ أنفاسا متتالية من الدخان دون أن تنظر أبعد من موضع قدميها. أشرتُ لها فابتسمت, أخبرتنى دون سؤال منى أن ساقها كانت مكسورة بالأسابيع الماضية, رفعت ساقها فى وضع أفقى وأشارت إليها, ثم أخرجت ورقة وقلما من حقيبتها الصغيرة ورسمت لى ساقها فى جبس مزين بقلوب, إمضاءات ورسوم للذكرى, فعلت ذلك دون أن تتوقف عن حبس أنفاس الدخان بصدرها الممتلئ, كنت أنظر إلى عينها المنصبة على رسمتها, فمها الدقيق وهو يبتلع أنفاس الشيشة, ثم صدرها المضطرب صعودا وهبوطا. أخبرتنى أنها خرجت اليوم لأول مرة منذ إصابتها, لم تخبر أحدا وقررت أن تكون وحيدة لتختبر ساقها فى الشوارع التى اعتادت أن تطأها بالسنوات الماضية, قالت لى أنها لم تشعر بملمس الأرض كما اعتادته, ثمة شئ غريب, لم تعرف إن كان العيب بساقها أم بالأرض التى لم تعد كما كانت.
عندما استيقظتُ, شعرتُ بقلق تجاهها, فأنا أحب كل النساء الجميلات, أنا رجل تقليدى, قد تصفنى بالسطحى, أفضل المرأة الجميلة على من سواها, تماما كما فطرنا الله, ورغم أننى لا أذكر إن كنت أحببت حنان تحديدا أم لاأم لا, إلا أنه لا بد وأن أكون فعلت, حتى ولو على مستوى عقلى الباطن. دفعنى قلقى لمهاتفتها, لعل ساقها مكسورة بالفعل. اتصلت ولم ترد. كنت أصدق أحلامى, رئيسنا أيضا يصدق أحلامه, الجميع هنا يصدقون أحلامهم, ولكن قليلا فقط من تتحقق لهم الأحلام, قال لى أحدهم ذات مرة أن أتوقف عن تصديق مناماتى, حيث أننى لست نبيا أو قديسا كى تتحقق لى, أجبته بأن أحلام عزيز مصر التى فسرها يوسف قد تحققت رغم كفره, فقال لى أن عزيز مصر كان حاكما, وأحلام الحكام تتحقق.
قررت أن أذهب إلى وسط البلد, لعلنى أقابلها, كان انفجارا قد حدث منذ ساعات أمام مبنى دار القضاء العالى, ولكنى ذهبت على أية حال, لم تعد الانفجارات تثير الرعب كما يفترض بها, باتت معتادة, بتنا ننظر إلى الانفجارات بطرف أعيننا, نمر بين دخانها دون أن نخلع سماعات الموبيل من آذاننا ودون أن نوقف الشاب خالد عن الغناء.
أثناء مرورى بشارع رمسيس, ظهر إلى جوارى قرد ضخم, قرد حقيقى بشعر كثيف وجسد مثنى ومؤخرة حمراء, قرد كتلك التى تشاهدها فى الأفلام, فأنا لم أرى قردا حقيقيا منذ أكثر من عشرين عاما عندما زرت حديقة الحيوان لآخر مرة قبل أن يغلقوها ويحرروا الحيوانات مطلقين سراحها بالشوارع. قفز القرد عاليا ليلمس كتفى بيده المشعرة منبها إياى إلى وجوده, لم يكن محتاجا لفعل ذلك فوجوده كان لافتا بما يكفى, ولكنه بدا لافتا لى وحدى دون المارة المجاورين. كنت قد قرأت بالصباح خبرا عن هروب عدد من القردة من إحدى كليات الطب البيطرى, ضحكت ولم أهتم, كل الأخبار صارت تثير ضحكى دون اهتمامى. التفت إليه, فابتسم, ليست ابتسامته كابتسامتنا, ولكنك تستطيع أن تميز بوضوح أنها ابتسامة, ثم جلت بنظرى بين المارة فلم أجد بينهم متعجبا, ملتفتا, متأملا أو حتى ضاحكا. الكل يمشى بثبات محافظ على تقطيبة جبينه ونظرة تائهة رغم ثباتها, ويد تزيح من طريقها من يعترضها فى خضم الأجساد المتصادمة ببعضها البعض.
كان القرد أكبر وأطول من المعتاد, أو لعلى أقول كان أطول من تخيلى للقردة, مثل أولئك القردة بفيلم كوكب القرود, حيث كان طوله متخطيا لخصرى, قلت هامسا إنه يبدو كغوريلا غير مكتملة النمو, فضحك !!, سألته إن كان يفهمنى, هز رأسه وقال نعم, تلفت حولى متشبثا بأمل أن يرى غيرى ما أراه, ورغم أن ذلك الشاب المار بجوارنا بالتأكيد قد سمعه وهو يتكلم, إلا أنه لم يبد أية ألتفاتة ولم يتغير أى من ملامحه. أسرعت شاقا طريقى بين الجموع محاولا البعد عنه, ولكنه كان ماهرا فى اختراق الزحام عبر المرور بين السيقان تارة ومن فوق الأكتاف تارة أخرى. لحق بى ومشى إلى جوارى وكأنه ظلى, لم يتكلم مجددا, مجرد خيال يسير إلى جانبى.
فكرت أن أوقف أحد المارة المتجهمين سائلا إياه إن كان يرى بجوارى قردا أم لا, ولكننى خفت أن يعتبرنى مجنونا أو مستهزئا به ويصب غضب يومه علىّ, فصمت.
تعلق القرد بساقى وأشار بيده إلى اليمين, ساقنى خلفه فى اتجاهات متعرجة بين بنايات وسط البلد العتيقة. لا أعلم لماذا تبعته دون سؤال, ترددت نظراتى بين جسده كثيف الشعر وبين المارة غير المنتبهين. أشار إلى مقهى بأحد الشوارع الجانبية, قفز فوق أحد الكراسى الخشبية التقليدية, ودعانى لأجلس إلى جواره, صفق فأتى لنا القهوجى الذى لم يبد استغرابا, مثله مثل كل من رأونا اليوم, طلب منه القرد بمودة تليق بزبون معتاد أن يأتينا بكوبين من الشاى, سكر بره. كان كل رواد المقهى الممتد بمنتصف الشارع يدخنون الشيشة حتى غطتنا سحابة من دخان ذى روائح ممتزجة. كان يجلس إلى يميننا مباشرة رجل ميت يجالس شابين مقتولين, كنت أعرفهم جيدا, حضرت العزاءات الثلاثة, كانوا يجلسون دون كلام, فقط ينفثون دخان الشيشة, وعلى الجانب الآخر جلست فتاة جميلة وحيدة فى انتظار شاب لم يأت بعد, هو لم يأت قط, ولكنها تنتظر دون توقف, لم تكن فى جمال (حنان) ولكنها جميلة على أية حال. يقول بعض العابرين لنا بهدوء لا يتناسب مع قولهم أن حريقا نشب بمبنى حكومى قريب, لم يتحرك أى من الجالسين من أماكنهم, سمعناهم ثم استكملنا حواراتنا, أو على الأحرى استكملنا صمتنا. قلت للقرد إننى أعلم أن حنان قريبة من هنا, ولكنه لم يجبنى.
كانت رائحة الدخان القادم من حيث الحريق قد غزت جلستنا وامتزجت بروائح التفاح والأناناس والنعناع المنبعثة من الشيش, زاد تداخلهما من كثافة سحابة الدخان التى تغطينا, ولكن لم يدفعنا ذلك لأن نتحرك, لم نتحرك حتى بعدما سمعنا أن الحريق يمتد نحونا, سمعت صوتا يصرخ من داخل المقهى ( خليها تولع). القرد وحده اختنق وتقطعت أنفاسه, فانتفض من على كرسيه وهو يكح ويبصق. قبيل قيامه, شدنى كى أصحبه, حاول أن يقودنى خارج دخان الحريق المشتعل ولكننا لم نجد مخرجا.
لا أعلم كم كانت أعدادانا تحت ستار الدخان حيث أن لا أحد منا يرى أبعد من خطوتين, نتخبط جميعا ونمشى فى اتجاهات متعاكسة, تبادلنا الشتائم أحيانا والركل الأعمى أحيانا أخرى, واحدة فقط قالت لى (لا مؤاخذة) عندما اصطدمت بها, عرفتها من صوتها, حنان, سألتها ما الذى أخرجها من بيتها اليوم, قالت لى “ساقى كانت مكسورة, وخرجت لأجربها”. ابتسمت, قرفصت وحملتها على كتفى مثلما كنت أراهم يفعلون بالمظاهرات, كانت خفيفة مثلما توقعت, قبضت بيدى على ساقها التى لم تشف تماما, وأمسكت بيدى اليمنى القرد الذى تعرف وسط الجموع على أحد أصدقائه الهاربين, سرنا نحن الأربعة متشابكين باحثين عن مخرج من تحت الدخان. لا أعرف إن كان آخرون قد انضموا إلينا أم لا, ربما أصدقاء لحنان أو للقرد أو أصدقاء لأصدقائهم, إلا أننى لم أشعر إلا بجسد حنان الطرى فوق كتفى, ويد القرد الخشنة فى يدى, ورائحة الدخان تحيطنى, وضبابه يحاصرنا, يخنقنا ويعمى أبصارنا