ربما كان هذا هو السؤال الذي دفع ببطل رواية وحيد طويلة حذاء فلليني إلى أن يروي حكايته مع التعذيب والمعتقل.
ففي فصول رشيقة وبلغة بسيطة وسهلة يقدم لنا الطويلة مائدة عامرة بشتى صنوف القهر الذي لايعد غريبا عن المواطن العربي حتى أنك تكاد تجزم أن أحداث الرواية يمكن أن تكون في مصر أو سوريا أو العراق أوأية دولة عربية لولا إشارات إلى بعض الأماكن في سوريا.
تماما كما حدث لأبطال الفيلم المصري “إحنا بتوع الأتوبيس ” الذي يحكي عن اثنين من المواطنين العاديين تم القبض عليهما بطريق الخطأ في الاتوبيس وتم إيداعهما أحد المعتقلات ليلاقيان مع مواطنين آخرين شتى صنوف التعذيب والقهر الجسدي والنفسي يحدث لمطاع بطل روايتنا الذي اختلف اسمه بعد دخوله المعتقل فاصبح “مطيع” وربما كانت فكرة تغيير الاسم لمحية تشير بذكاء إلى مدى القهر الذي يمارس في تلك المعتقلات فبدلا من شخصيتك واسمك الذي منحه لك أبواك لتكون مطاعا عليك أن تصبح مطيعا للسلطة وللنظام وكم من مطيع يسير في الأرض ظانا أنه مطاع حتى دون أن يدخل المعتقل
لكن بطلنا الذي ترك التعذيب علامات بجسده ووجهه وطال روحه كان يعلم جيدا أنه صار مطيعا فالكهرباء التي تعرض للتعذيب بها في السجن صارت أكبر مخاوفه حتى انه يخشى أن يطفئ نور الغرفة لكي لايلمس زر الكهرباء .
تأتي إلى البطل فرصة عمره لتعذيب الجلاد لكنه في النهاية طبيب يتصارع في داخله الإخلاص للمهنة والرغبة في الانتقام ويتدخل حبه لفن فلليني ليزيد الحكاية تشويقا باستخدام تقنيات السينما
وقد اعتنى وحيد الطويلة بإبراز تقاطع الرواية مع عالم فيدريكو فيلليني لا بلجوئه الى اقتباس عناوين فصولها من السيرة الذاتية للمخرج الإيطالي أو بظهوره كشخصية روائية فحسب، وإنما كذلك في رسم تفاصيل عالم فيلليني المميزة خاصة ملامح نساء الرواية الشبيهات بنساء فلليني .
يحدث الانتقام في النهاية لكنه أيضا لايحدث .
تطوف بك الرواية في عقل البطل وفي عقل جلاده وفي عقل امرأة الجلاد لنتعرف على نفوس كانت سوية وأجبرها التعذيب على الانحراف وأخرى تغرق في بحر من لعنات الضحايا والأشباح ففي القبو يركل المعتقل بالأحذية العسكرية ويهشم أنفه وفكه وينتف حاجباه ويغلف رأسه بالبلاستيك حتى يشارف على الاختناق، ثم يدفعه إلى الثلاجة ليتجمد، ويؤمر يوميا بكتابة سيرة حياته بالتفصيل للاعتراف بأشياء مضحكة ولا عقلانية.
لا يمل الجلاد من تعذيب الضحايا حتى حين يعود لبيته ينتقم من زوجته في الفراش ويعذبها تلك الزوجة المقهورة التي انتظرت لسنوات حتى يشعرها ولو لمرة بآدميتها –تماما- كما تنتظر الشعوب من جلاديها وحكامها الأغبياء أن يفيقوا يوما ويشعروا بمعاناتهم لكن حبه للتعذيب الوحشي وقهر الآخرين أبى أن يمتعها بتلك اللحظة
وكأسطى محترف من اسطوات الكتابة السردية يتمكن الطويلة من جذبك لقراءة روايته إلى النهاية ليفاجئك مشهد الختام بما لا يمكنك التكهن به وتلك هي مساحة الإبداع في عقل الكاتب وأبطاله معا ثم يأتيك في نهاية الكتاب بأسماء المقاهي التي كتبت عليها الرواية لتشعر وكأن أبطالها كانوا يجالسونه يحتسون معه الشاي ويدخنون الشيشة ليبثونه عذاباتهم ومرارات ضمائرهم وأشواق نفوسهم للحرية وللحب ولشهوة السلطة المغرقة في التهام الضحايا واعتلاء أجسادهم وأرواحهم.