مراحل الإبداع الروائي عند نجيب محفوظ.. قراءة أخرى(3 من9)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.خالد عاشور

ما زلنا بصدد عرض لجدل نقاد نجيب محفوظ حول إشكالية مراحل الإبداع الروائي عند الرجل، وقد عرضنا في الحلقة الثانية من هذه الدراسة للمرحلة الثانية التي اصطُلح على تسميتها “المرحلة الواقعية”.

أما بالنسبة للمرحلة الثالثة والأخيرة (المرحلة الفكرية) من مراحل الإبداع عن نجيب محفوظ، فتشهد هى الأخرى خلافاً ليس أقل من سابقتها، وإن زادت حدته قليلاً. وأما موطن الخلاف هذه المرة فليس فى عنوان المرحلة، ولا سماتها الفنية بقدر ما هو فى حدودها الزمنية وأعمالها المكونة لها.

فابتداءً تتعدد العناوين ـ ظاهرياً ـ كالعادة بتعدد النقاد،  بينما تدل عندهم فى النهاية على معنى متقارب. فنجد مثلاً: “المرحلة الفلسفية”([1])، و”المرحلة الفكرية”([2])، و”المرحلة التشكيلية الدرامية”([3])، و”مرحلة الواقعية الجديدة”([4])، و”مرحلة الاتجاه الإيحائى الرمزى”([5])، و”مرحلة الواقعية الفلسفية”([6])، و”مرحلة ما بعد الواقعية”([7])، و”مرحلة الواقعية الرمزية”([8]).

وهى كما نرى عناوين متفرقة لمعانٍ متقاربة، هى ما اتفق عليه النقاد من سمات هذه المرحلة فنياً، والتى تتلخص فى تجاوز نجيب محفوظ تصوير المشكلات الاجتماعية عند أبطاله، وانتقاله إلى تصوير المشكلات النفسية والفكرية لهم.

 أى انتقاله من العالم الخارجى بتفاصيله وإسهابه إلى العالم الداخلى بتجريده وإيجازه، وما استتبعه ذلك من أساليب فنية مغايرة لأساليب المرحلة السابقة، فتوسع الكاتب فى استخدام تيار الوعى، وارتفع أسلوب السرد إلى درجة الشعر، وأصبح الرمز حاضراً بقوة فى هذه الأعمال مما شجع على قراءتها فى أكثر من مستوى.

 كما تتسم روايات هذه المرحلة بسيطرة “الفكرة” كبطل رئيسى للعمل تتجسد فى شخص واحد تتجمع فى يده خيوط العمل، ولا تُفهم بقية الشخصيات إلا من خلاله؛ فسعيد مهران، وعيسى الدباغ، وعمر الحمزاوى، وصابر الرحيمى، وزهرة، هم أبطال روايات هذه المرحلة، يجسدون أفكاراً مجردة هى المحور الذى يدور عليه العمل من البداية حتى النهاية.

لقد كانت قضية البطل فى المرحلة السابقة تكاد تنحصر فى البحث عن وظيفة مثل محجوب عبدالدايم، أو الطموح الطبقى غير الرشيد مثل حسنين. أما قضية البطل فى المرحلة الجديدة فهى البحث عن المطلق، عن اليقين المراوغ، عن الحقيقة الملثمة، مثل صابر والحمزاوى والدباغ، مما أعطى أدب هذه المرحلة وجهاً إنسانياً أكثر منه محلياً.

يقول رجاء النقاش: “إن البطل القديم عند نجيب محفوظ فى مآسيه هو بطل شهيد، مقضى عليه من قوة خارجية، أما الآن فأبطال نجيب محفوظ يذهبون إلى المأساة بأقدامهم، ويضعون المشنقة بأنفسهم حول أعناقهم، إنهم فى كلمة واحدة ينتحرون، فالمجتمع القديم بظروفه التعيسة هو قاتل الأبطال فى مرحلة نجيب الأولى، أما الآن فإن جرثومة القلق والاضطراب فى داخل هؤلاء الأبطال هى التى تقتلهم”([9]).

ويحتدم الخلاف بين النقاد في المرحلة الجديدة بشأن أعمالها، وحدودها الزمنية. فنجد مثلاً من يضم “أولاد حارتنا” إلى الروايات من “اللص والكلاب” حتى “ميرامار” فى مرحلة إبداعية واحدة([10]). ونجد من يضع “أولاد حارتنا” فى مرحلة مستقلة، فاصلاً إياها عن بقية الأعمال التالية، ومن هؤلاء فاطمة موسى التى رأت أن الرواية نقطة تحول فى تاريخ الرواية عند محفوظ افترق عندها عن الرواية الواقعية إلى المرحلة التى تليها، دون أن تشير إلى صلتها بروايات تلك المرحلة، إلا أنها أشارت إشارة خاطفة إلى البعد الإنسانى الذى توفر فى “أولاد حارتنا” والذى سيعمُق فى الروايات التالية لها، مع إلحاحها على أن الطفرة الإبداعية عند محفوظ تمثلت فى “اللص والكلاب” وما بعدها حتى ميرامار([11]).

وهو ما ذهبت إليه أيضاً لطيفة الزيات؛ فهى تشير إلى “أولاد حارتنا” على أنها “الصورة الخام” لرؤية نجيب محفوظ للحقيقة، وهى تشير فى أكثر من مناسبة خلال دراستها إلى الروابط المتعددة بين “أولاد حارتنا” وبقية روايات المرحلة. غير أنها مثل فاطمة موسى تنظر إلى الروايات من “اللص والكلاب” حتى “ميرامار” على أنها حلقة روائية واحدة([12]). ويشترك معها أيضاً فى هذا ـ تطبيقياً ـ محمود الربيعى فى كتابه “قراءة الرواية” دون أن يتحدث عن مسألة المراحل على نحو خاص.  

ونجد من يضم “أولاد حارتنا” و”الشحاذ” و”الطريق” فى مرحلة فنية يصفها بالميتافيزيقية ذات اللون الغيبى التى تغرق فى رمزيتها، ويضم “السمان والخريف” و”ثرثرة فوق النيل” و”ميرامار” فى مرحلة فنية أخرى تتخلى فيه قليلاً عن ذلك، لصالح المجتمع، مما يجعلها فى رأيهم تمثل الاتجاه الاجتماعى الجديد([13]).

ويقف نبيل راغب من روايات هذه المرحلة موقفاً مرناً يجعله يتحرك بحدودها فى كل طبعة جديدة من كتابه “قضية الشكل الفنى”. ففى الطبعة الأولى سنة 1966 يقف بروايات المرحلة التشكيلية الدرامية عند “ثرثرة فوق النيل”، آخر روايات الكاتب فى ذلك الوقت. وفى الطبعة الثانية سنة 1974 أضاف إلى المرحلة نفسها الروايات التى صدرت فى تلك الفترة بين الطبعتين، وهى روايات: “ميرامار”، “المرايا”، “الحب تحت المطر”. وواضح ما فى هذا التصنيف من اعتبارات تتعلق بإعادة طبع الكتاب، أكثر مما تتعلق بعلاقة الأعمال الأدبية بمرحلتها الفنية.

ومن النقاد من يضم “أولاد حارتنا” إلى روايات المرحلة غير أنه يتوقف بها عند “الشحاذ”، معتبراً أن “ثرثرة فوق النيل” و”ميرامار” تمثلان مرحلة جديدة، وهو ما ذهب إليه محمود أمين العالم؛ حيث يرى أن “أولاد حارتنا” هى المعطف الذى خرجت منه الروايات التالية حتى “الشحاذ” فى متوالية فلسفية شارحة للمركب الفلسفى الذى حملته “أولاد حارتنا” والذى يتلخص فى “توكيد المعنى الإنسانى الصرف للأديان، توكيد أن جوهر الدين هو العدالة، هو الأمن، هو الكرامة، هو الحرية، هو المحبة، هو الخير، هو التقدم للإنسان”([14]).

وكل قصة من قصص المرحلة ـ فى رأى العالم ـ تشرح هذا المبدأ الفلسفى بطريقتها الخاصة؛ من “اللص والكلاب” وعدم جدوى التمرد الفردى، إلى “السمان والخريف” والاصطدام بالواقع، إلى “الطريق” والبحث عن الأسئلة الأبدية، إلى “الشحاذ” التى تؤكد المعانى السابقة، والتى تكاملت بها هذه المرحلة فى رأى الناقد. بل ويُقدر الناقد أن نجيب محفوظ يتأهب لمرحلة جديدة ـ ممثلة فى “ثرثرة”، و”ميرامار” ـ هى فى رأيه عودة إلى الحياة الاجتماعية التى بدأت تدب من جديد فى أدب نجيب محفوظ، لا كما عبّر عنها فى المرحلة الوسطى من أدبه، “وإنما نعود إليها مسلحين بخبرة المرحلة الفلسفية كلها، مطلِّين مع نجيب محفوظ على أفق جديد من التعبير الفنى، والرؤية الاجتماعية”([15]). ولكنه يعود فيقول ـ متشككاً ـ “ولست أزعم أن خصائص هذه المرحلة الجديدة قد ولدت مكتملة ولكنى أحس أننا فى مهب رياح فنية جديدة فى أدب نجيب محفوظ”([16]).

وقريب من هذا ما ذهب إليه صبرى حافظ، ومحمد حسن عبدالله، وحمدى السكوت. فهم يقفون بروايات المرحلة عند “ثرثرة فوق النيل” معتبرين “ميرامار” بداية مرحلة جديدة. وربما كان أسبقهم زمنياً فى هذه الرؤية دراسة صبرى حافظ عن “ميرامار” التى عدّ فيها الرواية انعطافاً بارزاً فى المرحلة نفسها على نحو يرشحها لأن تكون بداية مرحلة روائية جديدة.

أما مقومات هذه الريادة المرحلية التى تُرشح لها الرواية فى نظر الناقد فهى تتعلق: أولاً بالشخصيات، فقد مضى أسلوب رواية البطل الواحد الذى سيطر على رواياته السابقة، وقد بدأت مراسيم دفنه فى “ثرثرة فوق النيل”، ليولد أسلوب روائى جديد يتوائم مع المعالجة الروائية الجديدة التى اتجهت إلى قضية الوجود الاجتماعى بعد أن كانت منصبة من قبلُ على مأساة الوجود الفردى.

وتتعلق ثانياً بعنوان الرواية الذى ارتد فيه نجيب محفوظ إلى المرحلة الاجتماعية وعناوينها الدالة على أسماء أماكن بعينها، مما يعمق التوجه الجديد للكاتب الذى ينحو فيه منحىً اجتماعياً جديداً. وتتعلق ثالثاً بأسلوب القص الذى اختاره الكاتب وهو أسلوب الرباعيات فى رواية الأحداث دون أسلوب القص المباشر، والذى لا يحكى الحدث فقط، بل يؤكد انفصال الشخصيات الأربعة عن بعضها ودوران كل منها فى فلكها الخاص، فهى تتماس دون أن تتداخل؛ هذا الأسلوب يراه الناقد جديداً على نجيب محفوظ (سبقه إليه فوكنر وجويس فى الغرب، وفتحى غانم فى الأدب العربى) مما يؤهله لأن يكون بداية مرحلة جديدة([17]).     

أما دراسة محمد حسن عبدالله فترى “ميرامار” بداية مرحلة رابعة عند نجيب محفوظ تخلُف مرحلة الرومانس التاريخى، والعرض الواقعى،  ثم مرحلة “المزج بين الواقعى والرمزى” والتى تتجلى أكثر ما تتجلى فى روايات: “اللص والكلاب” و”الشحاذ” و”ثرثرة فوق النيل”. ثم تأتى  المرحلة الرابعة ـ ممثلة فى “ميرامار” ـ  بعد هذه التجارب التى جمعت بين المرحلى والطبقى إلى جانب الإنسانى والمصيرى فى رؤية واحدة. ولا يوضح الناقد طبيعة هذه المرحلة الجديدة بأكثر من هذا، فالرواية فى نظره لا تتعدى “أساس” مرحلة جديدة، تحمل معها ملامح من الروايات السابقة عليه([18]).

وربما كانت دراسة صبرى حافظ أكثر توضيحاً لطبيعة المرحلة المقترحة فنياً، ولكن توقيت هاتين الدراستين لا يجعلهما يخوضان فى تفاصيل المرحلة وأعمالها الروائية على نحو كافٍ؛ فقد صدرت الدراسة الأولى عام 1967،حيث كانت الرواية صادرة لتوها، والثانية عام 1969، حيث نُشر للكاتب عقبها بعض المجموعات القصصية. فلم تكن هناك إذن أعمال روائية كافية يمكن للناقد أن يتبين من خلالها تفاصيل المرحلة الجديدة التى رأى “ميرامار” مبشرة بها.

إلا أن دراسة حمدى السكوت التى كُتبت ـ كما يذكر هو فى هامشها ـ سنة1972 والتى اشترك فيها مع الناقدين: صبرى حافظ ومحمد حسن عبدالله فى النظر إلى ميرامار على أنها بداية مرحلة جديدة؛ لم تذكر أيضاً ملامح هذه المرحلة على الرغم من أن نجيب محفوظ كان قد نشر له حتى هذا التاريخ أربع مجموعات قصصية وكتاب “المرايا”.

 فهل كانت هذه الأعمال غير كافية لتحديد طبيعة المرحلة المقترحة؟

ربما يكون ذلك، ولعل هذا هو السبب فى أن الناقد لم يزد فى وصف هذه المرحلة على تسميتها “المرحلة الاجتماعية الجديدة”، حيث فاز فيها المجتمع مرة أخرى بنصيب الأسد (متفقاً فى هذا مع حافظ وعبدالله) قائلاً إن إنتاج هذه المرحلة الأخيرة كلها قصص قصيرة وعدد من المسرحيات يقول عنها الكاتب إنها تصوير فوتوغرافى للواقع على الرغم من إيغالها فى الرمز([19])

……………..

 ([1]عند محمود أمين العالم: تأملات في عالم نجيب محفوظ

 ([2]حمدى السكوت: The Egyptian Novel and its main trends، وإبراهيم فتحى: العالم الروائى

 ([3]نبيل راغب: قضية الشكل الفنى

 ([4]) يوسف نوفل: الفن القصصى، ويوسف الشارونى: الروائيون الثلاثة. وهو العنوان الذى أطلقه نجيب محفوظ نفسه على روايات المرحلة. انظر يوسف نوفل: السابق  ص105

 ([5]) محمد زغلول سلام: دراسات فى القصة العربية

 ([6]طه وادى: صورة المرأة، أمير الرواية

 ([7])  فاطمة موسى: فى الروية العربية المعاصرة ص40، ورشيد العنانى: عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته. كتاب الهلال. العدد 455، نوفمبر 1988 ص49

 ([8]فاطمة الزهراء محمد سعيد: الرمزية فى أدب نجيب محفوظ. مصدر سابق ص125

  ([9])رجاء النقاش: فى حب نجيب محفوظ. الطبعة الأولى. دار الشروق. القاهرة 1995   ص100، وانظر فى بيان السمات الفنية لهذه المرحلة: صبرى حافظ: الاتجاه الروائى الجديد عند نجيب محفوظ. مصدر سابق ص22 حيث يذكر خمس سمات فنية تختلف بهم هذه المرحلة عما سبقها، وهى: البطل الواحد، المونولوج الداخلى، الزمن الروائى، استخدام الضمائر الثلاثة، تقلص الأسلوب السردى.

 ([10]) فاطمة الزهراء محمد سعيد: الرمزية ص 131

 ([11]) فاطمة موسى: نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2001 ص108

 ([12]لطيفة الزيات: نجيب محفوظ ـ الصورة والمثال. مقالات نقدية. كتاب الأهالى ـ رقم 22 سبتمبر 1989 ص44

 ([13]محمد زغلول سلام: مصدر سابق ص331، 339

 ([14])  محمود أمين العالم :تأملات فى عالم نجيب محفوظ: مصدر سابق ص 85

 ([15]السابق ص129

 ([16]السابق الصفحة نفسها

 ([17]) انظر دراسة صبرى حافظ: ميرامار تراجيديا السقوط والضياع. مجلة المجلة عدد 126، يونيو 1967وأعيد نشرها فى كتاب “الرجل والقمة” مصدر سابق ص329.

 ([18]محمد حسن عبدالله: ميرامار بداية المرحلة الرابعة. مجلة البيان الكويتية عدد 39 يونيو 1969

 ([19]حمدي السكوت : دراسات فى الأدب والنقد: مصدر سابق ص 85

مقالات من نفس القسم