محمد عبد النبى
أشعل صانعُ الدُّمى قنديله، قبلَ أن تغيب الشمس تمامًا، رغمَ أنَّ قبو منزله الذى يتخذه ورشةً لصناعته، لم يكن ينتفع بضوء النهار إلا قليلًا، فهو مساءٌ دائم، وربما كان هذا من الأفضل له، ولتلك الدُّمى التى تولد فى شبه عتمة، قبل أن يكتمل نموها وتخرج إلى أنوار العالم الضارية، لتُعرض على أرفف وفى واجهات متاجر لعب الأطفال، فتبقى هناك زمنًا يطول أو يقصر، قبل أن تبدأ رحلة حياتها الحقيقية مع أسيادها الصغار، وتعيش معهم زمنًا يطول أو يقصر، إلى أن تنتهى رحلتها وتتفكك وتتهشم، قطعة بعد أخرى. لكنَّ تلك خواطر حزينة، لا تلائم لحظته هذه، حيث انتهى أخيرًا من صُنعَ كتيبة جديدة من جنود الصفيح، وتراصَّت أمامه مِثل جيش صغيرٍ جميل.
الآن يمكنه أن يُشعل غليونه وأن يهنأ باستراحةٍ قصيرة، قبل أن يصعد إلى شقَّته ويتناول عشاءه مع زوجته. صباح اليوم التالى سوف يأخذ هؤلاء الجنود اللامعين إلى مَتجر الدُّمى، ويتسلَّم ثمنهم ويشترى لوازم البيت وبعض الأخشاب والخردة والطلاء وما يحتاج إليه لصناعته. نفخَ دخانَ غليونه فى وجوههم النظيفة الباسمة، وجفلَ مأخوذًا عندما سمعَ بعضهم يَعطس. لم يكن يقصد أن يصنعَ دمًى حيَّة، لكنّه سُرَّ لهذه المفاجأة الصغيرة، ولم يشغل باله إن كانت هذه هى المرَّة الأولى والأخيرة، أم أنَّها معجزة تتكرّر بين حينٍ وآخر فى عتمة ورشته. رأى بعض الجنودَ يتحرَّكون فى قلق، وسرعانَ ما يستعيدون وضعهم المشدود ويعدلّون بنادقهم المستندة على أكتافهم. شعرَ الصانعُ أنَّ مِن واجبه عليهم الآن أن يمنحهم فكرةً عمَّا ينتظرهم ففعلَ، كأنَّه يحدّث نفسه، كأنَّه يودُّع طفله، كأنَّه يقرأ مِن كتابٍ مفتوح. ثُمَّ سألهم:
“والآن، وقبلَ أن نفترق فى الصباح وتخرجوا إلى العالَم، هل يودُّ أحدكم أن يقول شيئًا؟”.
لم يكن ينتظر منهم رَدًّا، ومع ذلك فَلَم يُفاجأ كثيرًا عندما سمعَ أحدَ الجنود يتنحنح ويغمغم بشيءٍ ما، كأنَّه يكتشف صوته، يكتشفُ الكلمات وقدرته على نَظمها معًا فى جملٍ تامّة ذات معنى. ولم يفهم الصانع ماذا قال، فسعلَ مواريًا دَهشته، وغافلًا عن التحوّل العجيب الذى أحاط بالقبو فكأنَّه صارَ حيزًا غامضًا خارج المكان والزمان:
“تكلَّم، ولا تخشَ شيئًا”.
“أرجو أن تغفر لى جرأتى يا سيدى، فأنت صانعنا ووليُّ أمرنا، لكننى…”.
هذه لحظةٌ جليلةٌ، فالجندى الوحيد الذى تَجرَّأ على الكلام كان هو آخر قطعةٍ يصنعها، ولم يكن الصفيح الذى صهره مِن المَغرفة القديمة كافيًا ليكمله، فتركه بساقٍ واحدة فقط. كانت لحظةً جليلةً للجندى أيضًا، فتلك هى المرة الأولى التى يسمعُ فيها صوته، ويستخدمُ فيها الكلمات، واقفًا أمامَ صانعه، مُغالبًا رَهبته. راق للصانع العجوز ما سمعه، «أنتَ صانعنا ووليُّ أمرنا…”، لو يسمع الآخرون ذلك، لو تسمعه زوجته على الأقل. مِن المؤسف أنَّه الوحيد الذى يشهد هذه المعجزة، ولعلَّها لن تتكرّر بعد ذلك أبدًا. كان على الصانع أن يضعَ هواجسه الشخصية جانبًا، ويرتقى لجلال اللحظة.
“قلتُ لكَ تكلَّم ولا تخشَ شيئًا، أحبُّ أن أسمعكَ حقًّا”.
“إننا يا سيّدى الصانع، أبناء كتيبة واحدة من خمسة وعشرين جنديًّا صفيحيًّا صغيرًا، أتممتَ صُنعنا -ولك الشُكر- فى هذا اليوم نفسه، فجعلتنا متماثلين فى كل شيء. اللون والطول والهيئة، السلاح والزى ولون الأعين والشَّعر…، لكنّى… أقصد… أننى…”.
فكَّر الصانع أنَّ الأمر يبدو، فى الظاهر فقط، كأنه نوعٌ مِن الاستنساخ، وصَبّ القوالب وإعادة إنتاج النموذج نفسه فى كل مرَّة. هذا ما يبدو، هذا ما يشكو مِنه الجندى ناقص الساق، لكنَّ الصانع وحده يعرف، الآن فقط، أنَّه ما مِن قطعتين متطابقتين تمامًا. حَتَّى لو حرصَ هو على ذلك، لزوم إتقان الصَّنعة، وهو لا يحرص، فلا بدَّ أن يُفلتَ مِن بين يديه شيءٌ ما، شيءٌ أدق مِن أن تلحظه النظرة العابرة، النظرة المعتادة على التكرار والتناسخ، شيءٌ قادر، على ضآلته، أن يبدَّل مسارَ القطعة وتاريخها ومستقبلها. أمَّا الاختلافات الواضحة الظاهرة، والتى تراها كل عين، مهما تبلغَ مِن الخمول وقِصر النظر، فهى قليلة، مِثل حالة هذه القطعة التى تخاطبه الآن، التى تنقصها ساق، بسبب نفاد الصفيح، ونفاد صبره وشدّة احتياجه للنقود مع اقتراب موسم الأعياد. كان الصانعُ، مِن جديد، يقرأُ مِن كتابٍ مفتوح، بلا صوت، لكنه انتبه للجندى يتطلَّع نحوه مُتلعثمًا، فشجَّعه مبتسمًا على مواصلة الحديث، وهو ينفض غليونه على المائدة بصوتِ قرقعة ارتجَّ لها القبو وارتعدت أجساد الجنود حديثى الولادة.
“لكنّى الوحيد مِن بين رفاقى الذى لم يكتمل صُنعه، كَمَا هو واضح، فأنا بساقٍ واحدة. لذا وددتُ قبلَ خروجنا إلى العالَم، إذا كان لى هذا الحق طبعًا، أن أسألَ إن كان لهذا علةٌ ما؟”.
وضعَ الصانعُ غليونه، وأخذَ يَفركُ جبينه وهو ينعمُ النظرَ نحو الجندى الصفيح ذى الساق الوحيدة. اتخذ الصانعُ الآن ملامح فيلسوفٍ يواجه سؤالًا مثيرًا فى قضيةٍ معقّدة، أو شاعرٍ يطاردُ صورةً لا يجد الصيغة الجديرة بها. من ناحية أخرى، شعرَ بأنَّ عليه ألَّا يتساهل أبدًا فى إجابة سؤال هذا الجندى المُميّز، وبأنَّ عليه أن يُعوّضه -بطريقة ما- عن إعاقته. لذلك فقد تمهَّل، وحشى رأس غليونه بتبغٍ جديد، ثمَّ أشعله، وإذ يطفئ عودَ الثِّقاب بحركةٍ سريعة مألوفة مِن يده وجدَ الحل، عثرَ الفيلسوف على إجابة سؤاله؛ «بينما نمضى على الطريق نقابل معنى حكايتنا ونتعرَّف على وجوهنا”، وفى اللحظة ذاتها، اصطادَ الشاعرُ سطره؛ «اسفح دمَ القلب على أعتاب الحبيب، وردةً رخيصة لا ترجو جزاءً”. وجدَ الصانعُ الحلَّ، سوف يَهبه حكايةً تُميّزه عن رفاقه المكتملين، إذا ما صَدَّقها ثُمَّ عاشها فى حياته الدُّنيا سوف يفوز ويهنأ رغم كل عَناء، أمَّا إذا كذَّبها ونسيها بعدَ أن ينزل إلى ضجة السوق فى موسم العيد، فعلى الأقل ستمنحه الحكاية عزاءً مؤقتًا هُنا لليلةٍ واحدة.
“اسمع يا بُنى، العِلّة الظاهرة هى نفاد الصفيح اللازم عند صَب قالبك، لكنَّها مجرّد مصادفة، وهِى تسمية أخرى لما يسميه البعض القَدَر. وكنتُ مُخيّرًا بين أن ألغى فُرصتكَ فى الوجود تمامًا أو أن أصنعكَ منقوصًا، فما رأيكَ أنت؟ ألا تحب وجودكَ رغم نقصانك؟”.
“رُبمَّا فيما بعد، يُتاح لى الوقت اللازم لأن أحب وأكره وجودى ونقصانى، لكن الآن أودُّ انتهاز فرصة وقوفى بين يديكَ لأفهمَ، لأعرفَ مغزى اختلافى عن الآخرين، نتيجةً لما يسمَّى المصادفة أو القَدَر. وما دامتْ هناك علة ظاهرة فلا بدَّ أنَّ هناك أيضًا علةٌ خَفية. تلك العِلة هى مُرادى ومقصدى الآن”.
حدَّث الصانعُ نَفسه بصوت خفيض: «إنّه مختلفٌ حقًّا”، لكنَّ جنديًّا مكتملَ الصُّنع كان يتتبعَ حديثهما مِن بدايته، وسمعَ ما همسَ به الصانع، فاستجمعَ شجاعته واكتشف حدود وقاحته وهو يهمس لرفاقه فى الصف:
“طبعًا، هو مختلف. فهو بساقٍ واحدة، وسوف يعيشُ أعرج. إنَّه ذو عاهة منذ الآن، فماذا لو خاضَ حربًا ذات يوم؟”.
وجَّه الصانع نظرةً قاسية نحو المتبجح، فأسكته. والتفتَ مِن جديد نحو ابنه المميز، وسأله:
“هل ساءك ما قاله زميلك هذا؟”.
“لم يقل إلَّا الحق، فأنا لم أَخُضْ حربًا بَعْد لأفقدَ ساقًا”.
“يُولد البعض أبطالًا بلا حروب”.
“ويُولد البعض معاقين بلا حروب”.
كانَ عبيرُ أسئلته يتطاير مع دخان التبغ، ويثيرُ الصانع ويستفز الفيلسوف ويُنعش الشاعر.
“بين البطولة والإعاقة شعرةٌ رفيعة، الفرق بينهما يصنعه صاحب الحكاية بينما يعيشها. فبينما نمضى على الطريق نقابلُ معنى حكايتنا ونتعرَّف على وجوهنا”.
عبسَ الفيلسوف إذ سُرقت فكرته هكذا بلا حياء أو استئذان، فغادرَ المكان حانقًا. ثُمَّ تنحنحَ الجندى الكامِل الفخور بنفسه، متأهبًا للتدخّل فى الحديث:
“هل معنى هذا أننا سنكون بلا حكاية، نحنُ مكتملو النمو الجديرون بالبطولة والمجد؟”
فأجابه الصانع مِن غير تردّد، مؤجلًا نهاية يوم عمله لأقصى حدٍّ مُمكن:
“قد تتشابه حكاياتكم كَمَا تتشابهون تمامًا، تعيشون حياةً طيّبة، تحبون وتكرهون، تقتلون ولربما تُقتلون، لكنَّ أحدًا مِنكم لن يتساءل عن عِلةٍ خفية وراء وجوده أو نقصانه”.
“لا بأس عندى فى هذا، ما دامت الحياة طَيبة وحافلة، فلا حاجةَ إلى الأسئلة ووَجع الدماغ”.
ساد بعض الصمت، وكادَ يختفى صفُّ الجنود مِن وراء دخان التبغ. لكنَّ صوت الجندى الصفيح عادَ مِن جديد، متردّدًا:
“أفهمُ من هذا أنَّه ستكون لى حكاية مختلفة عن الحكايات المتشابهة للآخرين. وأنَّ ثمنُ هذا هو عاهتى هذه. ألا تبدو لكَ مقايضة مُجحفة؟ كأننى أقدّم جزءًا منى، سَلفًا، فى مقابل ما لا أعلم”. “اسفح دمَ القلب على أعتاب الحبيب، وردةً رخيصة لا ترجو جزاءً”.
ابتسم الشاعرُ عند الاستشهاد بقوله، وغادرَ المكانُ راضيًا.
“سيكون لى حبيبٌ إذنْ؟”.
“دُميةٌ راقصة، بديعة الحُسن، هى أيضًا تقفُ على ساقٍ واحدة، وهذا ما سيربط بينكما فى البداية، وسوف تمتزج بها فى قلب نيران المدفأة فى النهاية، وما بين البداية والنهاية مغامراتٌ رهيبة وأحداث كثيرة، لا أريدُ أن أكشفها لك”.
صمتَ الجندى الصفيح أخيرًا، وبدا كأنه يبتسم ابتسامةً داخلية راضية. فى هذا الصمت، سمعَ الصانعُ العجوز دقَّاتٍ ثلاث من أعلى سقف القبو. إنَّه نداء زوجته، فلا بدَّ أنَّها أعدَّت العشاء وتنتظر صعوده الآن. عليه إذنْ أن ينهى يومَ عمله الغريب هذا، وأن يضعَ الجنود الصفيح فى صندوق ملائم. كَم كان يودّ أن يتمهل قليلًا، هكذا يدخّن فى صمت، ويرنو إلى جنديه المميّز وقد عاد دُميةً خرساء مِن جديد. كَم كان يودّ أن يمكثَ قُبالته، لا ليخاطبه أو ليسمعَ منه، بل ليتبادلا النَّظَر فقط، هكذا، إلى ما لا نهاية.