حبل الوداد

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

لم أكن لأصدق يوما؛ أن مشاعر من الألفة، يمكن أن تنشب بين آدمي وحيوان، كان لنا جاموسة تقدمت بها الأيام، بلغت من العمر أرذله؛ وهنت خطواتها، تراها تدب على الأرض دبيب طفل يعرف طريقه لأول مرة، مع المساء وفي طريق العودة، اترك لها الحبل على الغارب، نُصِحَ والدي كي يستبدلها بأخرى عفية، يومها اكفهر وجه الوالدة، امتنع عليها النوم، تدير الأمر في رأسها، تناوبت تفقد الحوش، تقدم العلف والماء، تمسح بيد حانية جسد جاموستها، ريثما تعود لجلستها تكاد تنحل قواها، هكذا حتى أذنت رسل الصبح بالقدوم.

مع العشاء، جلست فوق المصطبة تمضغ قلقها، نظرت بعين الريبة لمن حولها، لتقول برجاء: “اتركوها حتى يأت أمر الله”، بدت وكأن يأسها قد أغراها لأن تلقي بنفسها في تلك النيران، ساعتها ضرب الوالد كفا بكف، نفض جلبابه وغادر من سكات، يؤمن أن الزمن لا يعرف الشفقة، فهو موكل بالتهام أبنائه، وتلك سنن الحياة.

 ذات صبيحة، تحققت نبوءتها، امتلأت الدار بحشرجة مخيفة، خوار أجش عميق النبرات، اقبلت تضرب صدرها بيدها، تترنح كلماتها فزعة، تشق الصمت في وجل: “لقد ماتت”

ظننت أن أستارا ضربت بيننا وبين حادث الأمس، لكنه الزمان العنيد يأبى إلا أن يعبث في الجراح المهملة، على فترات ينبش الذكرى المريرة، تصابحه وتماسيه عن جاموستها التي كانت، عن لبنها، سمنها وجنبها، عن البيت الذي هجرته من بعدها النعمة، في أمسية يوم صائف، ألقيت بكتاب كنت أطالعه، لف خاطري الحنين الموجع، يسد علي مسالك تفكيري، عاودتني بجرأة مشاهد بيتنا القديم، حمارنا البني القصير، جاموستنا المسنة، الوالدة في جلستها فوق المصطبة، ووجهها المطمئن بالسرور، رجعت للقرية في إجازتي السنوية، لأول مرة أحس بكل شيء ينكرني، يجحدني، يشعرني بالغربة، يدا تمتد غليظة تطبق على صدري، تغيرت الصورة، بهتت ألوانها، الجميع يشكو الغدر، لا أمان لبشر، بعد أيام عدت أدراجي أحتضن ما تبقى في صندوق الذكريات.

مقالات من نفس القسم