العاشق

العاشق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أميمة عز الدين

قال لها: لن أبرحَ مكاني هذا - وأشارَ إلى قلبِها - حتَّى تُعلِّميني ما لمْ أُحِطْ به عشقًا.

يبحثُ عنها بين ركامِ الأسماءِ المُتعاقبةِ على لوحته الفسفوريَّة، يفتقدُها كي يُكمل بيتًا أو شطرًا ظلَّ طويلاً مُعلَّقًا بسماءِ حرفِهِ

هيَ لن تأتيَ الآن، فمازال قلبُها مُعلَّقًا بوَجْدٍ آخر يُناوشُها وتناوشُهُ

تتكئُ على ذكرياتِها القديمةِ، وتجتهدُ حتَّى تُكملَ شطرَ البيتِ المقسومِ بينها وبينه .

في الصَّباح تُعدُّ له قهوتَه وشطيرةَ الجُبنِ الأبيضِ الذي يُحبُّه، يقضم بضعَ لُقيماتٍ ويُراقبُها وهيَ تستندُ بكلتا يديها على مسند الكرسيِّ، تعضُّ شفتيها وهى تُحاولُ الابتسام، يرنو إليها وإلى ضعفِها الذي لم يحتملْه الكرسيُّ؛ فسقط بها، فأغمضت عينيها في سلامٍ، تُكابدُ ابتسامةً تُهديها له مع قهوة الصَّباح .

ربَّما يأتي يومًا ما ويهديها روحَه، يُردِّدُ في حزنٍ نبيلٍ وهادئٍ:

روحي ليست مِلكًا لي حتَّى أُهديكٍ إياها.

يُدركُ جيِّدًا أن حديث الشُّعراء الذي يسكنُه لن يُفيدَها ويفيدَه، مجرَّد تهويماتٍ وأمنياتٍ تسكن القوافي على مهلٍ، تطردُ الشرَّ بداخله وتجعله يستكينُ على حافَّةِ القصيدةِ، التي مازالت تهبه الحُلمَ وهو يُبادلُها الوجَعَ .

يستيقظُ كلَّ صباحٍ ويُعدُّ لنفسِه القهوةَ المُرَّة، في كلِّ مرَّةٍ يسهو عنها؛ حتَّى تبردَ ويسكبها على ورقهِ الأبيضِ الذي لم يُخالطْ قصائدَه .

هو الآن فقيرٌ، مِسكينٌ، ماتت مَن كان يسكنُ إليها وتركته وحيدا، حتَّى شجيراتِ الياسمين التي زرعتْها بنفسِها تطايرَتْ أوراقُها وحطَّت على أسطحِ الجيرانِ؛ الذين هرعوا لإنقاذها، لكنَّه لم يأبه لهم، ولم يسمحْ لهم بدخولِ البيت؛ فهو الآن وحيدٌ، مُهملٌ، حزينٌ ككلبٍ وحيدٍ لا يُحبُّه أحدٌ، ينام وحيدًا ويأكلُ وحيدًا، ويسيرُ وحيدًا حتَّى يموتَ وحيدًا. تسلَّل الكُرهُ إلى قلبِهِ، لم تعدْ ذكراها تُسعدُهُ، كان يشعرُ بالانزعاجِ كلَّما تذكَّرَ كيفَ كانت تُرتِّب أوراقَه وتُجهزُ له الطَّعامَ الذي يُحبُّ، تفرش ملاءاتِ السّرير البيضاءِ التي يعشقُها، ويُصرُّ عليها، رغم توسُّلاتها بأنْ يستبدلَها بألوانٍ أخرى من الملاءاتِ؛ حتَّى لا ترهقها في التَّنظيفِ والتَّغييرِ كلّ يومٍ، تسحبه من يده اليُمنى دائمًا، وتريه آثارَ قدميه الباهتتينِ، كوعْلٍ وحشيٍّ يُخربشُ بياض الملاءةِ ويترك أثرًا منه، يزعجها، ويدفعها لتغيير الملاءةِ كلَّ صباحٍ .

القهوةُ باردةٌ، سخيفةٌ، لم يتعوَّدْ أن يشربَها باردةً هكذا، عندما سقطت على الأرضِ، أراد أن يتوسَّدَ جسدُها منتصفَ السرير، مازالت دافئةً كعادتِها في ذلك الوقتِ من السَّنة (تعشق الشِّتاءَ)، لم يحاولْ أن يسعفَها بعد أن كفَّ القلب عن النَّبضِ، وشحبت الابتسامةُ على شفتيها، الغريب في الأمر أنَّه عندما أراد أن يُقلِّبَها ذات اليمين وذات الشِّمال حتَّى يأتي من يدفنها، وجدها باردةً وأصابعُها مضمومةٌ، حاول أن يفردَ الأصابع برفقٍ، فلم تسمحْ له، وكأنَّها قابضةٌ على شيءٍ ما / أيقنَ  وقتَها أنَّها كانت قابضةً على بعضٍ من روحِهِ، لم تشأ الرَّحيلَ وحدَها .

هو يكرهُها الآن؛ لأنَّها ليستْ وحيدةً مثله، بجوارها آخرونَ يُشبهونَها ولا يشبهونَه، الظُّلمةُ والوحشةُ تجمعُهم، لكنَّه رغم الضَّجيجِ والثَّرثرةِ التي تملأُ كلَّ مكان يشعرُ أنَّه وحيدٌ، بمفردِهِ يعيشُ، البرودةُ تجتاحُهُ معظمَ الوقتِ، كأنَّه على وشكِ الموتِ؛ غير أنَّه لا يموت .

كانت تدعوه بالعاشقِ، وتتدلَّلُ عليه، وتحسبُهُ عاشقًا لها، لا ينفي دعوتها على الإطلاقِ؛ بل جعلها تؤمن به، وخصَّها بحزنٍ لا ينتهي، في حضرتِها يغيمُ الفرحُ ولا يُعشِّشُ في قلبه، يعتقد أنَّها لم تمنحْه إلا القليلَ وأنَّه – بالذَّاتِ – يستحقُّ الكثيرَ . كثيرُها قليلٌ لا يكفيه .

في يوم غائمٍ  في أحد أيَّام الآحادِ القريبةِ رآها  وهيَ جالسةٌ في الشُّرفة ترقبُ المطرَ الغزيرَ الذي ينهمرُ على الزُّجاج كنقراتٍ حادةٍ، حتَّى صنع بركةً أمام الشُّرفةِ، قامت وغاصتْ بقدميها وهي تضحك، وقد نثرت بعض الحبوب على الإفريز، حتَّى تجمَّعَ حولها طيرٌ كثيرٌ، لم يره من قبل، طيرٌ عجيبٌ مختلفُ الأشكالِ والألوانِ، تجمَّع حولها كأنَّه يعرفوها، ترشُّ الحبوبَ على رأسِها حتَّى تأكلَ الطَّيرُ منه، تُدغدغها مناقيرُهم، وتُمعنُ في ضحكٍ خفيفٍ وتشعرُ بالانتشاءِ عندما ترشُّ الماءَ على وجهِها وترفعُ أكفَّها بالدُّعاء، لا يتبيَّن من دعائِها شيءٌ، حتَّى طارت الطّيورُ وقد غدتْ بِطانًا .

لم تشعرْ بمراقبتِهِ لها، وتراجعتْ خطوتينِ إلى الوراء وهتفت باسمِها، فابتسمتْ قائلةً: ها قد عدتَ إليَّ! .

لا يُطيقُ زيارةَ القبورِ، وهيَ تعرفُ ذلك عنه، فلم يزرْ أباه أو أمَّه مرَّةً واحدةً، كانت تتَّهمه بالقسوةِ، وأنَّ قلبَه قُدَّ من حجرٍ، ولم يستطعْ أن يبوحَ لها أنَّ دموعَه غاليةٌ، ولا يُريدُها أن تُذْرَفَ مدرارًا أمام بشرٍ .

ربَّما يحينُ الوقتُ للبكاءِ، لكن ليس الآنَ (قالها وقد عبسَ وجهُها) وتحاملت على نفسِها، وأخفت عنه أمر مرضها في الفترة الأخيرة، ولم تحاولْ أن تُلفتَ نظرَه إلى زياراتِها الدَّوريَّة للطَّبيب، كانت تتعلَّلُ بزيارة إحدى صديقاتِها بالمستشفى حتَّى تسرَّب الشَّكُ إلى نفسِه وآلَ على روحِهِ أن يُراقبها، لكنَّ قدميه لم تطاوعانه، وكذلك قلبه يُحدِّثه أنَّها مثل  طفلة ساذجة، تلهو بطين الذَّاكرة، وتعبثُ – ربَّما – برجولتِه كي تتثبَّتَ من عشقِهِ لها .

لا لم يكن عاشقًا لها، بل هيَ مَن سوَّلت له العِشقَ وصدَّقته، وهو يكذبُ عليها في كلِّ قصيدةٍ.

تناول القلمَ، ونظر إليه طويلاً، على مقربةٍ منه تربضُ قهوتُه الباردةُ دومًا، ظلَّ يكتبُ حتَّى مطلعَ الفجرِ، وآوى لفراشِهِ في الصَّباح، ينتظرُ الموتَ الذي يجعلُه يُشبهُهَا.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون