إسكافي الأندلس

لؤي حمزة عباس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لؤي حمزة عباس

كان المحّل ضيّقاً وطويلاً، مثل ممرٍّ بين جدارين، قادتّنى إليه لوحة ضوئية، أعلى مدخله: ورجعت خطوتين لأدقّق فى الحروف وأتأكد، رأيت، هذه المرّة، رجلاً بزى عسكرى، أعلى الزاوية اليسرى، يصوّب سلاحه نحو هدف غير معلوم، وليس بعيداً عن قدمه ساعة يد زرقاء المينا، عقاربها، كالعادة، متوقفة على العاشرة وعشر دقائق، تقابلها.

وفى الجانب الآخر، حقيبة يد رمادية مبقّعة الجلد، رميت نظرى إلى آخر الممرّ المضاء بقوّة، فى قاعه البعيد، كان الرجل الجالس إلى ماكينة الخياطة بصدريّته الرمادية، يؤكد سعادتى بالعثور على إسكافى لن يكلّفنى الوصول إليه غير ثلث ساعة مشياً أو خمس دقائق فى الباص.

وأنسى الخوض فى زحام العشّار للوصول إلى سوق الهرج، حيث الإسكافيون فى محالّهم الضيّقة التى بالكاد تسع المكائن، أو يجلسون على الدّكك الإسمنتية العريضة وقد نصبوا فوقها عددهم، وعلّقوا خلفهم، على امتداد الجدار، كلَّ ما يُصنع من الجلد: يُخاط أو يُكبس أو يُلصق أو يُدقُّ.

اقرأ ايضاً | أ. د. محمد ابوالفضل بدران يكتب : حكايا الحب فى التراث
سعادتى بالعثور على الإسكافى، وجه صريح من وجوه علاقتى القديمة غير المطمئنة بالحذاء، فلطالما مثّلت مناسبة شراء حذاء جديد إحدى مشقّات صباي، أنا الذى لا تقنعنى الأحذية اللامعة المعروضة فى الواجهات إلا بعد تفحّص طويل، حذاءً بعد حذاء.

ويلفت نظري، فى العادة، حذاء نظيف فى رجل أحدهم، طالب أو أستاذ أو ضيف أو أيٍّ أحد آخر تضعه المصادفة فى مرمى نظري، قبل أن أتوجّه لسوق حنّا الشيخ وأقف أمام كلِّ واجهة من واجهات مَحال الأحذية فى السوق المسقّف، بارد الهواء، فى دورة لا تنتهى يقودنى كلُّ محلٍ منها إلى سواه.

وتأخذنى الواجهات إلى واجهات، غالباً لا يقع اختيارى على حذاء شبيه بما يشغلني، لكننى أسمع حذاءً يناديني، ويخلب لُبّى مثل كلِّ شيء، حى أو جامد، ينادى صاحبه من وراء زجاج، ويخلب لُبَّه.

قرّرت، اليوم، أن آخذ الحذاء إلى إسكافى الأندلس.. ووضعته فى كيس نايلون أسود، وقطعت المسافة بين الحكيمية، حيث أقيم، وسوق الجنينة، حيث المحل، على قدمى.

ولم يكن الحذاء قديماً مهترئاً، كما قد يترائى لأحدنا، ولم يكن بحاجة لنعل خارجى أو داخلي، كان نعلاه على أفضل حال، الخارجى المطّاط، والداخلى الاسفنجى المحبّب.

وما كان يُقلقنى فى الحذاء لونه البُنى الباهت المحيّر، لا هو غامق بلون القهوة، ولا مشرق جليّ بلون الرطب أول الصيف، بسببه لم ألبسه إلا مرّات قليلة، وكنت ألمح أخاه، فى قدمى صديقى أبى زياد، كلّما لبسه، متسائلاً، فى أول الأمر، إن كان يطليه وأيَّ لون يختار؟

ولكن حذاءه ظلَّ، طوال عام أو أكثر، بعيداً عن كلِّ طلاء، أسوة بحذائى.. وكان حذاؤه يتهاوي، أمام ناظري، لبسةً وراء أخري، حتى تشبّع جلده بالتراب، وصار لونه أقرب إلى لون جذع شجرة محروق منه إلى البُنّى الذى أُعجبنا به حالما رأيناه فى مجمّع المودّة فى الكرّادة.

وكنّا وقتها مبتهجين بشمس نهارات الشتاء البغدادى الرائقة، لكننى لم أرغب بأن يكون لحذائى المصير نفسه، وشغلتنى مسألة تغيّر لونه وقلّلت من ارتدائى له، ولهذا عزمت على الذهاب به إلى الجنينة، بعد عثورى على إسكافى قريب، لأترك له تحديد لون الطلاء، وطلائه بيد خبيرة، والانتهاء، أخيراً، من قلق الحذاء.

وسررت بين جدارى الممرّ اللذين ثُبتتْ عليهما رفوف معدنية طويلة، صُفّت فوقها هدايا جصّيّة، وبنظر سريع رأيت فيلةً ونموراً، شعراء قدامى ومحدثين، ولاعبى سيرك، أنوفهم فاقعة الطلاء مثل وجناتهم، إلى جانب نسخ عديدة من ثور آشور المجنّح ذى الخمسة أقدام، وأسد بابل الذى بلا عينين، ومسلّة حمورابى السوداء، فضلاً عن آلات موسيقية مصنوعة من أسلاك معدنية صقيلة ولامعة.

مساء الخير

قلت بهدوء، وأنا أضع الكيس على حافّة منضدة الماكنة، ناظراً لإبرتها التى تنزل وتصعد بسرعة خاطفة.

أهلا، مساء النور

ولما طال انشغالى بالإبرة، قال: تفضّل..نظرت لوجهه الشاب وعدت للحكاية، من أولها: عندى حذاء، اشتريته من الكرّادة

معلومة لا داعى لها، قلت لنفسي، فردّ عليّ مترقّباً الأهم: نعم.. محتاج صبغ تريد تغيّر لونه؟استغربت لسؤاله، وقلت: لونه محيّر، وصار أكثر من سنة ما صابغه.يبدو أنه فهم المراد، مدَّ يده، وهو يقول: انطينى إياه فتحت عقدة الكيس متمهلاً، وكانت ملامح الإسكافى الجميل تملأ ذهني، وضعت الفردة اليمنى فى يده، متسائلاً: أيَّ لون يناسبه، برأيك؟

ووضع فردة الحذاء على طرف منضدة الماكنة، من جهته، بعد أن نظر مدقّقاً فى جلدها، ثم استند إلى عكازين ليقوم، فزّزنى مرأى العكازين المعدنيين بمقبضيهما البلاستيكيين، توجّه إلى رفٍّ قريب وهو يقول:

عندى أكثر من لون معجون، واسفنجي، وسائل.. قلت، كأننى أتخفّف من ثقل: أيَّ لون مناسب.. فتح علبة دائرية صغيرة بمعجون بنى غامق، وهو يقول: هذا النوع، تركى ممتاز

خشيت دكنة اللون وكثافته حالما رأيته، لكننى فضلّت أن أترك له حرية الاختيار، فاكتفيت بهزّ رأسى. عاد إلى كرسيّه مستنداً إلى عكازيه، وبأصبعه اغترف من الطلاء الكثيف ووضعه على الحذاء، ثم مسح أصبعه بطرف الحذاء وعاد ليغترف مرةً أخري.

كان القلق يملأ نفسى وأنا أرى المعجون على الجلد، سحب جرّار الماكنة وأخذ، من داخله، قطعة قماش ملوّثة بالأصباغ، وبدأ يدعك الطلاء فى حركة دائرية، كان الجلد، مع حركة الأصبع، يفقد لونه ويتحوّل إلى الأسود، انتبه الشاب لتغيّر اللون، فتباطأ أصبعه، سحب الجرّار مرّةً أخرى وأخذ قطعة قماش نظيفة بللها ب الماء.

من قنينة بلاستيكية خلفه، فى محاولة لمعالجة ما حدث. انسحبت إلى الممرّ كاتماً قلقى الذى بدأت أشعر تحوّله إلى غضب، وعدت إلى رفوف الهدايا، أتفحّصها عن قرب بتأنٍ هذه المرّة، وهالنى أن أرى أحد لاعبى السيرك مثلوم الأذن.

انتبهت ودققت بها أكثر فرأيتها جميعاً تعانى نقصاً ما، كسرةً أو ثلماً أو خدشاً أو اعوجاجاً، وسمعت نداءاتها فى ضوء الممرّ، نداءات كائنات صغيرة غير مكتملة..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون