لم أشهد بروفة واحدة قبل العرض، وتركت لنفسي فرصة الاستمتاع بالمجهول، فرغم متابعتي لكل عروض فرقة ولسة ومشاركتي معها أحيانًا إلا أن هذا العرض قررت أن أشاهده من مقعد المتفرجين.
جون ميلاد فنان مسرحي ولد بمحافظة الفيوم وقام بتأسيس فرقة ولسة المستقلة للفنون الأدائية، وتم تكريمه منذ عدة شهور من الرئيس الأمريكي أوباما في اجتماع بالأمم المتحدة في حضور عدد كبير من القيادات السياسية والاجتماعية والفنية دون أن يسمع عنه الكثيرون في مصر.
جون ميلاد مولع بالتجديد والتجارب المبتكرة.. يسير على خطاه الخاص الذي أعتقد أنه الوحيد من شاكلته في مصر، وقدم مؤخرًا عرض فني مستوحي من رواية العالم على جسدي من تأليف يوسف نبيل – زينب محمد مازجًا بين الحكي والرقص والمايم والمسرح التفاعلي في وقت واحد. قام جون ميلاد وفرقته ولسة بتنفيذ الكثير جدًا من الورش والعروض في كل محافظات مصر والعمل الاجتماعي بمختلف أشكاله الفنية، فالفريق يستخدم الفن في علاج المجتمع منفذًا تجاربه على مختلف فئات المجتمع من الفلاحين وسائقي التوك توك والشباب الجامعيين والنساء بمختلف الأعمار… إلخ، متناولا قضايا الإنسان والتحرير ومقاومة القهر الاجتماعي والسياسي.
لا يمر عام تقريبًا دون أن يغلق الستار على أحد عروض جون، وقد حضرت بنفسي إحدى تلك الوقائع، فجون صادم إلى درجة مفزعة ولا يمكن لأغلب الأماكن في مصر تحمل ذلك.
جلست على مقعد المتفرجين دون أن أشارك تلك المرة بأي دور في العرض، وترقبت فتح الستار… خفتت الإضاءة تدريجيًا وفُتح المسرح فإذا بالمفاجأة لأولى وليست الأخيرة: المسرح يحوي أكثر من ستين فتاة في نفس الوقت!
بدأت اللوحات الحركية مع الموسيقى والأغاني المختلفة لترقص أكثر من ستين فتاة في نفس الوقت أغلب مدة العرض على نفس الخشبة… قلت لنفسي في البداية: هل يمكن أن يحدث ذلك، وبدأ صراع عقلي وبصري وموسيقي محاولا أن أنظر اللوحات المختلفة، والتي كانت في أغلبها حركات تنقسم بين أزواج من الفتيات في كل بقعة على المسرح في نفس الوقت، وبعض اللوحات الأخرى اعتمدت على مجموعات أكبر في تشكيلات حركية مبهرة…
المبهر هنا ليس في المهارة الحركية أو الرشاقة الغير عادية، فغالبية الفتيات التي أدين العرض لم يكن أصلا ممثلات وفي غضون شهر ونصف استطاع جون وفرقته ولسة أن يخرجن منهن طاقة حركية مبهرة…
هل يمكن للعين أن تتابع كل ذلك الكم من الحركة على مسرح واحد؟! لقد كان تحد غريب، وظننت أن ذلك سيستمر لمدة بسيطة فإذا الدقائق تمر وتمر..
ملامح الحركة عند جون تبدأ وتنتهي عند الأرض، وكل محاولات للصعود أو الاستمرار ثواني قليلة دون الهبوط على الأرض تنتهي بالسقوط لتلامس الممثلات الأرض… هذه الجاذبية المفزعة التي تشد كل الممثلين في عروض جون المسرحية إلى الأرض تكشف لنا عن منهجيته الفكرية والحركية.
ما سبب ذلك الارتباط الشديد بالأرض؟ تقريبا كل الحركات تصمم بحيث يكون السقوط وملاصقة الأرض يحمل الدور الأكبر فيها… الإجابة تكمن في الجسد!
عرضت فتيات سان جوزيف في العرض المسرحي لكافة أشكال الانتهاكات النفسية والجسدية والاجتماعية التي تتعرض لها المرأة، وكمية الصراعات الداخلية والخارجية التي تمزق الشخصية من الخوف والهلع والأمل واليأس والانتقام والإصرار وميكنة الجموع والدعاية غير العقلانية لوسائل الإعلام وتأثيراته، والصورة الذاتية لدى كل امرأة عن نفسها، وكانت الإجابة في الحركة… عرضت آلاف الحركات المسرحية لفكرة واحدة تحكي لنا عن اكتشاف الشخصية من خلال الجسد، فجون ينطلق من وإلى الجسد، حتى الملامح الروحية والصوفية التي تتخلل عروضه ذات مذاق حسي شديد الوضوح، ومن هنا ارتبطت حركاته كلها بالأرض… إنه لا يطمع للوصول إلى السماء.. إنه في الأرض وفي صعوده يهبط معتبرًا تلك الحقيقة الوحيدة، ومنها يفهم المرء ذاته.
يتعامل مسرح جون ميلاد في الأساس مع فكرة القهر بمختلف أنواعه من خلال الجسد، فالتحرر كله يظهر في مذاق حسي يتصاعد باستمرار حتى وصل طموحه إلى الجنون في العرض الأخير..
لم يتوقف الرقص مع كل هذا العدد الهائل لحظة واحدة… رقص بكافة الأشكال الممكنة طالما هي تأخذ من الأرض قاعدتها وسماءها…
وفي ذلك الاتجاه الإنساني الحسي يتم التعبير عن كل شيء بالجسد، حتى الدين.. يبدأ وينتهي كل شيء عند الجسد.
مع إغلاق الستار لم يتوقف الرقص لحظة، وحتى عند تحية الجمهور تم ذلك من كافة فتيات العرض بشكل راقص .. لقد فجر جون طاقة ثورية جسدية فيهن ليس لها مثيل في قوتها… قدم جون المسرح الحركي بطموح يصل إلى الجنون.. لقد حاول فعل كل شيء في لحظة واحدة.. كافة الحركات والانفعالات.. قصص البشرية بأكملها في ترجمة جسدية لحظية في آن واحد، ويقلب الجمهور عينه من اليمين إلى اليسار إلى الأمام إلى الخلف في تتابع مجنون من مخرج لا يعترف بحدود ممكنة ضاربًا عرض الحائط بكافة تقاليد المسرح بلا استثناء.. إنه يؤسس لقواعده الخاصة.
جون ميلاد وفرقة ولسة صوت أصيل في مصر، ولأنه صوت أصيل فلا يسمع عنه الكثيرون.. ترى أحان الوقت لتأخذ هذه الفرقة مكانها الجمهوري والنقدي المكافئ لحجم التجديد الذي أحدثته في المسرح المصري؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وكاتب مصري