جورج طرابيشي: ست محطات في حياته

جورج طرابيشي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم مشارة

قبل أن يترجل الفارس عن صهوة جواده  كتب الراحل جورج طرابيشي (حلب 1939/باريس 2016) مقالة طويلة نسبيا أحصى فيها محطات حياته التي تستحق الوقوف عندها ،والتي شكلت شخصيته الفكرية وحددت مساره العلمي ، وتعد هذه المقالة وثيقة تاريخية – فضلا عن قيمتها الأدبية – عن الثابت والمتحول ، والمواقع والمحطات في حياة هذا المثقف النقدي ، وهي مقالة هامة كذلك تبين حقيقة المثقف الذي لا يكتفي بقول ما قيل وتحصيل الحاصل، أو البحث عن التموقع والنجومية أسوة ببعض من اعتبروا الثقافة حصان طروادة لتحقيق مآرب شخصية، دون أن تتسم مساهماتهم بقيمة مضافة تهز شجرة العجز العربي لتسقط آخر ثمرة مرة ، أو تذيب سطح البحيرة الثقافية المتجمد فينساب الهواء والضوء إلى كائناتها الفكرية الدقيقة لتعانق الحياة وتمد أذرع الترحاب إلى الحاضر البهي الواعد، فتحدث بذلك قطيعة  مع مرحلة ماضية تاركة الفرصة لمرحلة راهنة يفترض أن تطمح إلى أنوار المعرفة وأفق الديمقراطية  والحداثة والتحرر الكامل للإنسان العربي سياسيا وثقافيا واجتماعيا من أسر الماضي الذي كان ذريعة لأسر الآخر (الغربي) لنا ، فالعقل العربي يحمل أسباب عجزه ونكوصه واستقالته  من داخله، لا من خارجه.

حياة حافلة بالقراءة العميقة والجادة في التراث العربي الإسلامي والفكر الغربي تكللت بأكثر من مائتين وعشرين كتابا بين تأليف وترجمة أشهرها على الإطلاق نقده لمشروع الجابري في نقد العقل العربي الذي امتد لحوالي ربع قرن ،مما  يجعله فارسا من فرسان الأنوار والتحديث والنهضة وينضاف إلى قائمة تضم زكي نجيب محمود ومحمد أركون والطيب تيزيني وفؤاد زكريا ونصر حامد أبو زيد وعلي حرب وحسن حنفي تمثيلا لا حصرا، وأن يستحق عن جدارة التوصيف الذي خصه به صادق جلال العظم كنهضوي قاوم بثقافة موسوعية ومراجعات نقدية للمناهج المعرفية والأدوات البحثية نزعات النكوص القروسطية وميول الاستغراق في الماضوية العقيمة كما قاوم توهمات وإغراءات المشاريع الكبرى لاستنباط الحاضر من التراث السحيق ولصناعة المستقبل من الماضي القديم.

تعكس هذه المقالة التي توقف فيها طرابيشي عند محطات حياته عن تواضع وعدم رغبة في تمجيد الأنا وتضخيمها في مقابل ذلك انصرف بكليته إلى العمل الفكري والنقدي تأليفا ودراسة وترجمة من موقع الإحساس بالمسؤولية أمام حالة العجز والحطام المفتوح ، فكان أن حلق في سماوات  الفكرين العربي والغربي بجناحي المعرفة والنضال من أجل الخروج بالأمة من حالة الاستسلام والعجز والنكوص والاستقالة الحضارية ، وهو يقدم نفسه كابن من أبناء الثقافة العربية الإسلامية – بالرغم من مسيحيته –  مما أعطى خطابه الوازن ومنطقه الصارم ومعرفته العميقة ومراجعاته النقدية مصداقية وقبولا في العالم العربي.

وإذا كان رحيله في آذار/مارس من عام 2016 قد مر مرور الكرام من دون أن تخصص له ندوات فكرية وحلقات تلفزيونية لمناقشة مجمل أعماله وأثره النقدي وأعماله الموسوعية فذلك لأن الثقافة العربية تحتفي بمن يجيد التحدث على الفضائيات ويعرف كل شيء ويجيب عن كل سؤال ،وهذه إحدى مآسي الثقافة العربية في صورتها الراهنة و صيغتها الحالية.

والمحطة الأولى التي توقف عندها الراحل في مغامرة تحرير العقل العربي من أسر التراث هي مولده في أسرة مسيحية متدينة ورث عنها التدين المفرط خاصة في طور المراهقة الأول وفي سن الرابعة عشرة كما يذكر انشغل بحديث الكاهن في مواعظه عن العذاب الأبدي الذي أعده الله للخاطئين، فالخطيئة في المسيحية مثلثة، فهناك خطيئة بالعمل وواحدة بالقول وأخرى بالفكر، فمروره ببيت تقيم فيه أسرة إيطالية أثناء عودته من الدراسة  ورؤية بناتها الثلاث الجميلات خطيئة بالفكر، وهي مميتة ومخلدة في العذاب، فالمأثور عن المسيحية “لا تشته امرأة غيرك” خاصة إذا كان مدار الخطيئة على الجنس ،فالشهوة الجنسية مميتة ولابد من الاعتراف للكاهن قبل الموت ليغفر الله هذه الذنوب، والكاهن لا يركز في مواعظه إلا على خطايا الفكر ولذلك احتار الفتى المراهق بين النظر إلى الجميلات الثلاث والخوف من عذاب الله مما أوقعه مريضا ،طريح الفراش ليومين تنتابه الحمى والهلوسات والهذيان، ومنذ ذلك التاريخ كف أن يكون مسيحيا(إن الله الذي حدثني عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد، ولا يمكن أن يكون ظالما إلى هذا الحد، ومن ذلك اليوم كففت أن أكون مسيحيا).

وأما المحطة الثانية فكانت حوالي سنة1955 حيث انتقل إلى المرحلة الثانوية وإلى مدرسة تابعة للدولة  بعد سقوط حكم الجنرال أديب الشيشكلي وكان تحالف الشيوعيين والبعثيين والإخوان هو الذي أسقطه، وكان مطلب الإخوان هو إدخال التعليم الديني إلى المرحلة الثانوية ،ولم يكن هناك تعليم ديني في المرحلة الثانوية ماعدا دروس الأخلاق والوطنية، ويذكر جورج أن أول درس ديني قدمه شيخ معمم  ما إن دخل إلى حجرة الدرس حتى تقدم إلى اللوح وكتب هذه الجملة “من لم يكن مسلما  فهو عدو للإسلام” جملة صاعقة  مربكة للفتى بين زملائه المسلمين، وستؤدي به لاحقا إلى إدراك حجم الضرر الكامن في العقل العربي  وأن تجليات هذا الضرر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية ما هي إلا تمظهرات لذلك الضرر القار في بنية العقل ذاته، فلابد من تغيير العقليات أولا، لا مجرد تغيير الأنظمة أو إدخال التحديث المستورد ما لم  يتحرر العقل العربي من حالة  العجز والعطالة بله والاستقالة.

وللأسف ستظل الطائفية والمذهبية إلى اليوم والتباغض والاحتراب إحدى الأوراق التي يلعب عليها الاستعمار والقوى الخارجية في تشتيت وتبديد الجهد العربي  وإغراقه في دوامة الاحتراب والتنابذ والإقصاء.

ولأن السجن هو قدر الأحرار فقد كانت تجربة السجن محطة ثالثة توقف عندها الكاتب فقد دخله كمعارض سياسي في نظام حزب البعث ،والذي استقال منه بعد ذلك لأسباب سياسية وأيديولوجية وفي الزنزانة التي ضمته وستة مساجين مسيحيين من جبل حوران جرى الحديث عن جريمة الشرف والتي تحمس لها  هؤلاء الرفاق وكان جورج  قبل تجربة السجن قد تزوج وأنجب بنتا “مايا” وتحمس هؤلاء الرفاق لجريمة الشرف، فالبنت كما قال أحدهم لابد أن تذبح من الوريد إلى الوريد إذا ارتكبت ما يخل بالشرف، في حين عارض جورج ذلك مما أدى بهم إلى وصمه بانعدام الشرف والنخوة وعدم الانتماء إلى العروبة وتمت مقاطعته حتى تقدم بطلب إلى إدارة السجن لنقله إلى زنزانة انفرادية، وهكذا أدرك أن القضية قضية عقلية لا فرق فيها بين مسلم ومسيحي، فطبقة المخ السطحية  يمكن أن تتحدث عن شعارات مثل الحرية والمساواة وحقوق المرأة بينما الطبقة العميقة من المخ رجعية حتى الموت ! فالموقف من المرأة كما كتب يحدد الموقف من العالم ، والكتابة الحقيقية هي التي تتوجه نحو الطبقة العميقة من المخ لا السطحية منه ، وسوف يكرس لاحقا دراسات نقدية حول الجنس والأنوثة والكتابة في الرواية العربية وفي الانفتاح على علم النفس التحليلي وفرويد تحديدا ثم مشروعه الفكري في نقد نقد العقل العربي دون إغفال ترجماته لفلاسفة وكتاب غربيين مثل هيجل وسارتر وسيمون دي بوفوار ودريدا وكازانتزاكيس  وغارودي وغيرهم.

في المرحلة الرابعة يعرج بنا الكاتب على لحظة اكتشاف فرويد بعد مرحلة القومية العربية والبعثية واليسارية والماركسية ،فقد كان من أعرق أحلام الإنسانية أن تجد مفتاحا لتفسير أحلامها  متوسلة تارة بالميثولوجيا وتارة بالدين وتارة أخرى بالفلسفة  قبل أن يتطلع إلى ذلك علم النفس التحليلي عبر مساهمات فرويد ويشير الكاتب إلى حادثة طريفة ولكنها ذات مغزى فطريقة تفتيته للخبز العربي أثناء الأكل أثارت امتعاض أسرته  وعلل ذلك بأنه فعل لاشعوري ولا إرادي حتى عثر على الجواب في مقال قرأه لأحد أتباع فرويد يربط بين تفتيت وتقطيع الخبز بتلك الطريقة والرغبة في تفتيت الأب(عرض عصابي) وكان جورج  على خلاف مع والده ، ومنذ ذلك التاريخ تصالح مع والده المتوفى وكف عن تفتيت الخبز بتلك الطريقة . فالفهم العلمي طريق إلى العلاج وأدى ذلك المقال بالكاتب إلى الانفتاح على علم النفس التحليلي وترجم حوالي ثلاثين كتابا لفرويد  عن الفرنسية لأنه لا يعرف الألمانية (وطبعا أنا خنت خيانة مزدوجة بالترجمة عن لغة عن لغة ولكني أعتقد أنني أسديت للساحة العربية خدمة ضرورية).وترجماته تتميز بالدقة والرصانة والسلاسة خاصة أمام مصطلحات جديدة فكأنه ينحت في صخر ،مما جعل من العربية  عبر تلك الترجمات الهامة لفرويد لغة معرفية.

وتأتي المحطة الخامسة وهي المحطة التي كرسها للحديث عن الجابري ومشروعه الفكري في نقد العقل العربي والتي منحها  زهاء ربع قرن من عمره حين اكتشف عام 1972 الجابري عبر مجلة “دراسات عربية “التي كان يرأس تحريرها في بيروت وكان الجابري يرسل بين الحين والآخر مقالا للنشر ثم أرسل مخطوط “تكوين العقل العربي” الذي قرأه جورج لتتم طباعته في دار الطليعة وقال بشأن ذلك الكتاب أنه  مدهش وأن من قرأه لا يعود كما كان قبل أن يقرأه ،وكان ذلك بداية الصداقة  بين جورج والجابري ثم حمل ذلك الكتاب ومعجم المنهل فقط من بين خمسة آلاف كتاب من مكتبته لما اختار الإقامة في باريس ليرأس تحرير مجلة الوحدة ويفر من جحيم الحرب الأهلية اللبنانية.

لكن النقطة الغامضة في هذا  الكتاب والتي سببت تحولا في موقف طرابيشي من الجابري والتحول من الإعجاب به إلى نقده ثم حدوث الفجوة والقطيعة بينهما ،مع تجاهل الجابري له ونقده له  وعدم الرد عليه إلى درجة أن وصف ذلك طرابيشي ذلك بأنه حوار بلا حوار وهو موقف إخوان الصفا من المنطق والفلسفة حيث يرى الجابري أنهم من ألد  أعدائهما وكان النص الذي اعتمد عليه الجابري هو النص الذي شك فيه طرابيشي وفي صدقيته وفي أمانة النقل ليكتشف ما يعده تزويرا وتدليسا وقد طال نصوصا أخرى لفلاسفة ومفكرين آخرين وسقط الجابري من  مصاف آلهة الفكر إلى خصم فكري بالنسبة إليه،  له عثراته وسقطاته بالرغم من إعجابه به وبضخامة الترسانة التراثية التي اعتمد عليها منقبا ودارسا ، وغني عن البيان أن الجابري يعتبر القصور في العقل العربي(العقل المستقيل) مرده إلى عوامل خارجية، في حين يراه طرابيشي لأسباب داخلية ،وقد كتب عن مشروع الجابري(أنه أفادني إفادة كبيرة وأرغمني على إعادة بناء ثقافي التراثية، فأنا له أدين بالكثير رغم كل النقد الذي وجهته إليه).

وأما المحطة السادسة والأخيرة فقد دعاها (محطة الألم السوري المتواصل )وهي المرحلة التي أصابه فيها الشلل عن الكتابة والانغلاق بعد مؤلفات تعدت الثلاثين وترجمات فاقت المائة ومقالات ناهزت الخمسمائة  فعلى امتداد أربع سنوات بعد ثورات ما يعرف بالربيع العربي كتب مقالة أولى يوم 12 آذار/مارس 2011 حول الثورة في تونس ومصر وليبيا والثانية يوم 28أيار/مايو 2011 بعد انخراط سوريا في معمعة هذه الثورات تحت عنوان “تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير” وهو يقصد بالتاريخ الصغير تاريخه الشخصي في حين يقصد بالتاريخ الكبير تاريخ الثورات العربية ولئن بدأ متحمسا في بدايات الربيع للتغيير والانتقال إلى فضاء الحريات والديمقراطية والحقوق والمساواة والكرامة والمعرفة فقد كان يتمنى أن تأخذ هذه الثورات مسارا غير مسار الثورة الإيرانية والتي استولى عليها الملالي (الأيديولوجيا الدينية )، لكن هذه الثورات فتحت أبواب الجحيم والردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة والغرق في مستنقع القروسطية الصليبية الهلالية حسب توصيفه ،ناهيك عن تدخل القوى الخارجية في الشأن السوري وتحول البلد إلى ساحة للصراع بين القوى العظمى ،قبل أن يحل النظام نفسه بنفسه أو تفكيك الدولة الأمنية حسب توصيف الطيب تيزيني.وقد كتب متأثرا (إن شللي عن الكتابة أنا الذي لم أفعل شيئا آخر في حياتي  سوى أن أكتب هو بمثابة موت ولكنه يبقى على كل حال موتا صغيرا  على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن).

مقالات من نفس القسم