جمالية الخطاب الهامس وشعرية الصمت

قراءة نقدية في مجموعة «أترجّة عالقة في فمي» لروضة شاهين

rawda shaheen

عبدالنبي عبّادي

شهد الشعر العربي المعاصر تحوّلًا لافتًا في أنماط الخطاب من تراجع النبرة الخطابية العالية (في العمودي والتفعيلة، وبطبيعة الحال في قصيدة النثر)، مقابل صعود أشكال تعبيرية تقوم على الخفوت، والاقتصاد اللغوي، والتكثيف الدلالي. وأستطيع أن أقول لم يعد الصمت يُفهم بوصفه غيابًا للكلام، بل بوصفه بنية جمالية منتِجة للمعنى، وفضاءً تتشكّل داخله اللغة وهي واعية بحدودها وبهدفها، دون غياب للقصديّة الإبداعية.

تنتمي المجموعة الشعرية  «أترجّة عالقة في فمي» للشاعرة المصرية روضة شاهين إلى هذا الأفق الجمالي، حيث يتشكّل النص الشعري عبر ما يمكن تسميته بـ الخطاب الهامس كما ذكرتُ من قبل، وهو خطاب لا يشتغل على الإبلاغ أو الإعلان، بل على الإيماء، والانسحاب، وتعليق القول. وما زلتُ أسعى إلى مقاربة هذه التجربة من خلال ربطها بإطار شعرية الصمت والخطاب الهامس، بوصفها منظورًا نقديًا يسمح بفهم آليات الخفوت، والبياض، والاقتصاد الصوتي في النصوص.

 وفي ميراث موريس بلانشو  نرى أن الكتابة الحقيقية تنشأ من منطقة صمت، حيث تصبح اللغة في مواجهة عجزها عن الإحاطة بالمعنى. بينما اعتبر رولان بارت أن الصمت ليس انعدام الدال، بل تعليق حركته، بما يفتح النص على تعددية التأويل، ضمن هذا الأفق، يمكن النظر إلى الهمس بوصفه التجسيد الصوتي لشعرية الصمت، فهو لا يلغي اللغة، بل يخفض حدّتها، ولا يُقصي الصوت، بل يضعه في حالة توتّر دائم مع السكوت. والهمس، بهذا المعنى، ليس ضعفًا بل اختيارًا جماليًا وأخلاقيًا، يرفض فائض القول، ويقاوم البلاغة المستهلكة والإطالات المنهكة.

تتشكّل الذات في «أترجّة عالقة في فمي» بعيدًا عن نموذج الذات المركزية، الواثقة من صوتها، والمعلنة لمواقفها. إنها ذات متحفّظة، منخفضة النبرة، تحضر عبر آثارها لا عبر إعلانها عن نفسها، فتحضر الشاعرة ككائن أثيري هائم يستدعي الجسد أحيانا وينفلت منه أحيانا أخرى:

وأنتم تجلسون على عظامي
اضحكوا
وتشاكسوا
غنّوا

على ظهري
مرايا واستراحات

وفوق الطمي نركض
يا زهور اللوتس الزرقاء
لا ينهار جلدي..
ولا أُنسى..

الجسد هنا لا يُقدَّم بوصفه موقع صراخ أو احتجاج مباشر، بل بوصفه سطح كتابة صامت. إن الألم لا يتحوّل إلى خطاب، بل إلى علامة، وهو ما ينسجم مع شعرية الصمت التي تستبدل التعبير المباشر بالإشارة، والبوح العالي بالتكثيف.

ومن ثمّ يتجلّى الجسد بوصفه وسيطًا صامتا، لا يعود الجسد عنصرًا تصويريًا فقط، بل يغدو بديلًا عن الصوت. فحين تتراجع اللغة عن الجهر، يتقدّم الجسد ليحمل العبء الدلالي والهم الآمل في البوح.

«تفتحت بطني كزهرة ياسمين»

هذه الصورة لا تُنتج صدمة بلاغية، بل إحساسًا داخليًا هادئًا، حيث يتحوّل الجسد إلى مجال إنبات، لا إلى مساحة نزف. وهو ما يؤكد أن الهمس هنا ليس إنكارًا للتجربة، بل طريقة مختلفة لتمثيلها عبر دوال مُبتكرة في توظيفها. إننا أمام ما يمكن وصفه بتعطيل الوظيفة الإبلاغية للغة، وهو ما يظهر بوضوح في توجّه الخطاب داخل المجموعة. فالقصيدة لا تتوجّه إلى متلقٍّ خارجي واضح، بل تنغلق على حوار ذاتي:

«تعال يا صوتي نغنّي»

إن مخاطبة الصوت ذاته تضع اللغة في دائرة التأمل الذاتي، حيث يصبح القول فعل مصاحبة لا فعل توصيل. وبهذا، تتحوّل القصيدة إلى فضاء إصغاء، لا إلى منبر، ويتحوّل القارئ من متلقٍّ إلى مشارك في هذا الإصغاء.

كذلك يحضر البياض في النصوص بوصفه قيمة جمالية ودلالية، لا مجرّد فراغ طباعي. ويتقابل البياض مع الضجيج بوصفه امتلاءً صوتيًا زائفًا ترفضه الشاعرة وتهرب منه:

«أرني الضياء / فقد عميتُ من الضجيج»

الضجيج هنا يحيل إلى فائض الخطابات، وتخمة الأصوات، وادّعاء الامتلاء الدلالي. في المقابل، يصبح البياض شرطًا للرؤية، ويغدو الهمس آلية مقاومة جمالية لهذا الفائض. وهي مقاومة لا تقوم على المواجهة، بل على الانسحاب الواعي.

ثمة نزع للخطابية الوعظية حين تستدعي الشاعرة مفردات دينية، لكن هذا الاستدعاء يتم خارج النسق الوعظي كما قلتُ، تضيف الشاعرة:

«أهدأ من حمام المسجد النبوي»

المقدّس هنا تجربة حسية داخلية، لا خطابًا تعليميًا. وهو ما ينسجم مع شعرية الصمت التي تنزع عن المقدّس سلطته الخطابية، وتعيده إلى مستوى الطمأنينة الفردية، والإحساس العميق غير المعلن.

وقد يبلغ الخطاب الهامس ذروته النقدية حين يواجه الزيف دون أن يسمّيه صراحة:

“وجبّتي محشوة بالطبل

والونس المزيّف”

فالطبل يحيل إلى الامتلاء الصوتي الفارغ، والونس المزيّف يحيل إلى علاقات تقوم على الضجيج لا على المعنى. وهنا يُمارس الصمت فعل كشف، لا عبر الهجوم، بل عبر التعريض الهادئ، بما يمنح النقد قوة مضاعفة.

أمّا في نص الركض في البياض، تقول الشاعرة:
مُدوا سبيل الوصل
 قولوا لي هل تعرف الأطيار صوتي؟
هل ستشهدُ أن ظلّي قد سرى بي نحو ظلك؟
فاطمأن وصار أهدأ من حمام المسجد النبوي
 من صفصافةٍ أرخت جدائلها
 ولم تُرجم
من اليمّ المُبارك
 حين طالع أغنيات الزهر
فانسابت خطاه المخملية
 أرني الضياء فقد عميتُ من الضجيجِ
 وجُبتي محشوة بالطبل
 والونس المزيف
 فالحقيقةُ

 أرهقت روحي الشقية

يتجلى الخطاب الجمالي الهامس في النص السابق كحالة من المناجاة الوجدانية التي تستبدل صخب العالم الخارجي بسكينة صوفية عميقة، حيث يتحول “الظل” من مجرد انعكاس فيزيائي إلى رمز للروح المتجردة التي تسعى للفناء في حضرة المحبوب بحثاً عن الطمأنينة المرجوة. وتتعمق هذه الجمالية عبر استدعاء رموز القداسة والبراءة، مثل “حمام المسجد النبوي” و”اليم المبارك” و”الصفصافة”، لخلق فضاء مكاني يتجاوز المادة نحو المطلق، مما يجعل القصيدة رحلة كشف داخلي ترفض “الونس المزيف” و”ضجيج” المظاهر الجوفاء التي جسدتها “الجبة المحشوة بالطبل”.

أرى النص في جوهره صرخة خافتة تطلب “الضياء” لتجاوز عماها الروحي، معتمدة على أنسنة الطبيعة ورقة التعبير (كالخطى المخملية وأغنيات الزهر) لتقديم رؤية فنية تجعل من الحقيقة، رغم إرهاقها للروح، الملاذ الوحيد والنهائي للذات الشقية في بحثها عن الوصل أو تعلّقها في المسافة بين الدال والمدلول!

من المرصود أيضا أن العنوان ليس عنوانا لنص داخل المجموعة وليس مقطعا من قصيدة، بل تشكّل عنوان المجموعة «أترجّة عالقة في فمي» كمحطة تأويلية كثيفة؛ فالأترجّة تحيل إلى العطر والامتلاء، بينما كونها عالقة في الفم يحيل إلى الكتمان والتأجيل. العنوان، بذلك، لا يعلن المعنى، بل يعلّقه، ويضع القارئ منذ البداية داخل أفق شعرية الصمت ومغامرات الهمس الشعري!

 

.

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع