جماليات المنظور وفلسفة المكان في لوحات عادل ثروت

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عكاشة

الإنسان دليل المكان.. والمكان جغرافيا حية ترسمه تضاريس روحية جمالية كفيلة بخلق حياة تجذب كل عابر مهما تعددت السبل وتغير الزمن. فللطير والحيوان والنهر بصمته تماما كالإنسان الذي دون وخط وهندس حتى أتاه اليقين. هذا المكان الذي مازال يحمل الكثير من الخفايا من المستحيل أن تفصله بكل أبعاده عما يحيط به، أو عما بداخله من أحداث، ماضيها وحاضرها. ولوحات الفنان عادل ثروت لها رؤية فلسفية تبحث في هذه الخفايا، بل تحاول إعادة صياغة واستحضار الزمن المعبأ أصلا ببوح إنساني وحوادث جمة. كل هذا برموز تشكيلية تأويلية قادرة على خلق عوالم غنية بدراما حية لا تنفصل عن مساراتها القديمة بقدر ما تحكي عن مستقبلها بأصوات هي في الأساس غارقة في الموروث بكل مايحمله الموروث من معنى ـــ فلسفيا وأدبيا واجتماعيا، ومشاهد تزخر بها الذاكرة لها مفعول السحر في السيطرة على الوعي

الذاكرة المضيئة دائما في خلفية المكان

مشاهد كانت تزخر بها الحوائط القديمة من نقوش وأحرف وزخارف بكل تجلياتها في المكان المحيط، وقد تحدث الفيلسوف اليوناني (ليوقبوس)عن المكان بأنه واقع في حركة دائمة ومستمرة، والوجود عنده قائم على مجموعة من الذرات، ويؤكد في الوقت ذاته وجود خلاء*1

وعادل ثروت ينظر للمكان على أنه فراغ يعيد تشكيله، في محاولة لدمج مناظير مختلفة في مساحة صغيرة جداً داخل اللوحة أو في مساحتها ككل، إذ طوع الأبعاد وحركها بشكل جمالي مراوغاً عين المتلقي ومحركاً لمناظير خفية من الوارد أن يساهم في رسمها المتلقي ليرى بعينه أثار وبصمات من سبقوه في تلك المساحة الصغيرة المقتطعة من فراغ اللوحة ومن مساحة الزمن، فاستنطق الرموز التشكيلية لخدمة الرؤية البصرية واستحضار الزمن للحظة الراهنة لطرح دلالات فلسفية إجتماعية تراوغ المتلقي في مسافة محددة من المكان، وأيضا من عمر ومساحة اللوحة ككل التي تحمل الإثنان معا الزمان والمكان.

وقد بدأ الأخوان الإيطاليان (جيوتو.. 1267_1337)و(دوتشو1255-1319)في استكشاف فكرة العمق والحجم في الفن وذلك باستخدام التظليل وذلك لخلق وهم من العمق. *2

تلك النواة لعلم المنظور في بداية معرفتنا به، وما يشغلني هنا في لوحات عادل ثروت هو استلهامه للمنظور بشكل جمالي مختلف لم تتحكم فيه مساحة اللوحة كإطار كلي لعالمه، بل تتحرك في الفراغ بعدة مناظير متعددة ولكن في الوقت ذاته تجمعها وحدة جمالية كلية مكونة من مجموعة وحدات جزئية. كل وحدة من خصائصها إنارة هذا العالم الروحاني الخفي في المكان والزمان اللذان يستنطقهما، فداخل الفراغ فراغات أخرى أصغر وأدق. عالم داخل عالم أخر أصغر وأدق، تماماً كتوالي الأزمان، والمنظور هنا يقدم قيماً جمالية فطرية أشبه بخيال طفولي لم تحده القواعد الصارمة بقدر مايشغله خياله الداخلي ومعرفته الباطنية للأشياء تماما كالبلاط الذي يشبه أرضية الشطرنج في بعض اللوحات والتي تتراص متجاورة بوضوح، وأحيانا تظهر غير واضحة محطما خط الأفق ليضع أكثر من خط أفق في اللوحة الواحدة. وكما ذكر (ليوقبوس) أن الوجود واللاوجود يحملان كلاهما دلالة الإيجاب.3*ورؤية الفنان في الحقيقة رؤية تصوفية تحتفي بالروح واستحضارها ودمجها مع كل الأشياء الساكنة، أو إحياء الروح في الساكن وإقامة حوار معها ربما يرسم العالم بشكل مختلف هدفه إحياء الإنسان من جديد، بل المزج بين ماهو حاضر وماهو غائب.

وللألوان شاعرية مفرطة انسجمت مع الأشكال الهائمة دون ملامح، رغم صراحتها ووضوحها ولكنها تتشكل لتكمل المشهد بحسابات دقيقة أثرت تكوين القارب والقطعة الأشبه بأرضية الشطرنج، وأثرت مجموعة الشخوص المجردة بحركات هائمة في الأطراف والرؤس، وانصهار الأحرف مع الخلفية مع الشخوص مع القارب مع الشخصية الرئيسة والتي دائماً ماتحتل المساحة الأكبر للوحة وكأنها الرمز الذي يحمل الكثير من الدلالات _بصرحيتها ورقبتها الممدودة كوطن حاضر دائماً في كل هذه الأحداث.

والفراغ يؤكد على حالة الهيام تلك، وكأن الفراغ هو المكان الأصلي للروح تنبعث منه وتترك للعين بأن تساهم في رسم ما تتخيله كمشاركة بصرية وجدانية تؤكد على أن للفراغ أيضاً حيويته وحضوره، بل هو الغائب الحاضر، الساكن والمنير داخل النفس، بل الوجد ودلالة الوجود.

الوجود الموقع بإيقاعات موسيقية تراها في رسم الحروف بدرجات لونية متعددة كسلم موسيقي، أو بحركات في الجسد والأطراف وكأنها رقصات فرعونية قديمة أو شعبية فلكولورية، تكوينات تحمل بداخلها حساً موسيقياً هادئاً يدعو للسلام، وأشخاص تتحرك داخل اللوحة دون وعي، بل مسالمة تماماً كبقية العناصر مثل القارب والحروف والجدران والشجر. يتراصون في تكوين ويتفرقون لعدة تكوينات بخطوط وتهشيرات أشبه برسوم على جدران تركت الطبيعة وتقلابتها بصمتها عليها، وذلك بفعل مرور الزمن.

بل توجد دراما جغرافية-بطلها الغلاف الجوي والفراغ وفرشاة الطبيعة التي شكلت المكان والإنسان بصور تتحدى فعل الزمن، وإحياء ما بها من قيم مازالت داخل النفس وفد تحدث( أبيقورس 341-271ق. م.) عن أن مجموع الموجودات في الكون من الأجسام والمكان أي الخلاء الذي تحمل فيه، وإلا لاستحال عليها أن توجد أو تتحرك وراء هذه الأجسام والخلاء الذي تتحرك فيه لايوجد شئ قط *4

فتجد لكل عنصر داخل اللوحة فراغه وعالمه المحيط حتى إذا تحركت تلك الأشكال في اللوحة وتجمعت في تكوينات لشخوص أو لأحرف-تجدها تخلق عالمها ومحيطها والذي يكمل رؤية اللوحة ككل.

تشكيل

وإذا حاولنا إيجاد عدة نقاط توصل تلك المجموعات ببعضها بخطوط ربما نجد أشكالاً هندسية معشقة ومتداخلة مع بعضها البعض كتعاشق الحضارات في هذا المكان. ترسم عالماً منظماً يخلق تواصلاً بين الأزمان والأحداث في هذا الفراغ

ومازلت أؤكد على أن فلسفة اللوحات معنية بإبراز جماليات مكانية وزمنية بأشكال مرسومة بحس روحي وهي إبنة هذا المكان بكل مايحمله من تواريخ معبأة بأحداث وحكايات ساهمت في تشكيل حضارات متعددة وغنية في هذا الإطار المحيط مؤكداً على مقولة (الأمريكي ريتشارد هارتشون 1899/1992)أن لايمكن فصل دراسة الإنسان عن بيئته. *5

أما الأشكال في معظمها قد تحررت من وظيفتها الأساسية. فنجد القارب على أرضية بلاط مقسمة ومن خلفه زخرفة لرسوم تراثية، والأشجار بأشكالها الزخرفية تجلس على أغصانها إمرأة مضطجعة والشجر ينبت من فوق قبة لمبنى والثور ينتقل من مكان لأخر وكأن وجوده يكمل المشهد ولكن بأدوار مختلفة.

وثمة علاقة ما بين الثور بأبعاده المتعددة والأحرف والمرأة الشخصية الرئيسة في كل اللوحات. علاقة مشحونة بدلالات وإيحاءات تشير للثور كرمز لحضارة أخرى وعلاقتها بحضارة هذا المكان وثمة صراع ومراوغة رصدتها حركة الثور والمرأة أو الثور ورموز أخرۍ مفتوحة التأويل.

وهناك أشكال يخلق من تحريكها أسطورة مشحونة بحكايات عن الأرض والنهر والجدران والناس، ولكن لاتني أن تبرز لنا عشق الفنان لأرضه والأشكال ربما تتسريل بحس مغاير عن سريالية (أندرية بريتون 1896-1966) وسريالية (سلفادور دالي 1904-1989)والرواد الأوائل لتلك الحركة في النصف الأول من القرن العشرين بل سرياليته لم تلفظ الموروث ولم تنفر منه بل كان من شأنها البحث عنها وإبراز إنسانيتها وروحها المسالمة التي تنسجم مع المكان وتتألف مع الأزمان، وإذا كان هناك ثمة مقاومة فالمقاومة هنا هي مقاومة القبح بقيم جمالية يحاول عادل ثروت إظهارها بحلول تشكيلية مبتكرة وبرؤى معمارية غنية ببصرية حسية تحاول دائماً المزج بين كل عناصر اللوحة ليقدم لنا بانوراما أشبه بسيمفونية موسيقية تعبر عن المكان والزمان بحاضره وماضيه

وقد حاضر أفلاطون (347-427ق. م.) وأشار أن عالم المحسوسات يتألف من أفكار ميتافيزيائية كالدائرة والمثلث، ومن أفكار غير إفتراضية كالحذر والعدالة والجمال وأشياء أخرى تلك التي تشكل فيما بينها نظاماً متناغماً.*6

يتجلى هذا التناغم اللوني والتكويني والفراغ بحساباته والمناظير المتعددة، والزخارف والأشكال والحروف والشخوص في لوحات عادل ثروت تناغم تحس أنه موجود أصلاً وقد قام هو بإكتشافه عن طريق حسابات ميتافيزيائية جمالية محسوسة في جوهر كل هذه الرسوم فالدائرة تتحرك بأحجام مختلفة ككوكب أو كدف أو ربما تستنبطها من بين الخطوط، وكذلك المثلث والمربع ربما ترسمهما العين وتكمل أضلاعهما، وربما تظهر الأعمدة ماهية الخطوط المستقيمة، أو تبرز الحروف جوهر اللغة وحيويتها ومدى توغلها في الأشكال والألوان ورساخة وجودها منذ نشأة هذا الإنسان على هذه الأرض، وكان من شأن العمارة في اللوحات-هو إبراز الأشكال والشخصيات والأماكن بحس تراثي تجعلك أمام أيقونات تعبر عن المكان وكل تجلياته ومايحمله من حكايات عن الإنسان الذي عاش فيه، بحلول هندسية متقنة وبحسابات جمالية ناعمة ومتناغمة.، يعرف كل شكل من الأشكال دوره في الفراغ المحيط وأيضاً دوره في إبراز من حوله.

…………………………………………………

*عادل ثروت: فنان مصري. أستاذ دكتور ورئيس قسم التصوير بكلية التربية الفنية بالزمالك. جامعة حلوان. له بصمة تشكيلية خاصة ومثل مصر في عدة محافل دولية

*1 ليوقبوس.. فيلسوف يوناني مؤسس المدرسة الذرية. وقد تأثر بفلسفة برمنيدس ولد وتوفى في القرن الخامس قبل الميلاد. ولم يحدد بالضبط تاريخ مولده ووفاته

*3

أبيقورس

العنوان /المكان وسلطة الوعي، مجلة أقلام الهند ديسمبر 2020مجلة إلكترونية علمية محكمة، العدد الرابع، السنة الخامسة، الباحث. م. م. جعفر الشيخ عبوش، 1و3و4.نفس المصدر

*2

فنانان إيطاليان هما أول من إكتشفا فكرة الأبعاد عن طريق الظل والنور

*5

الكتاب. نظرة في طبيعة الجغرافيا، ترجمة وتحقيق. عبدالعزيز أل الشيخ عيسى بن موسى الشاعر، الطبعة الأولى، تاريخ النشر 1يناير 1988

*6

جمهورية أفلاطون، الناشر. مطبعة المقتطف والمقطم. مصر، تاريخ الإصدار 7إبريل 2020، المؤلف. أفلاطون. فيلسوف يوناني، الترقيم الدولي. 8799776541702

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم