عالم باية: ألوان، خطوط وأشكال

باية محيي الدين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

غزلان تواتي

باية محي الدين واسمها الحقيقي فاطمة حدّاد (1931 – 1998)، الفنانة الجزائرية الأكثر شهرة، مخضرمة -بتعبير القدماء-، بدأت مسيرتها الفنية أثناء الاستعمار، وواصلت بعده، تركت أعمالا فنية تعرض في معارض ومتاحف جزائرية وعالمية، عرفها بيكاسو وشجعها ثمَّ عملت في معمل مجاور لمعمله الشخصي بين سنتي 1948 و1952.

         سُئلت باية مرَّة عن معنى رسوماتها أو ما الذي ترغب بقوله ردّت “إنني لأنزعج جدا من سؤال مماثل، أنا أرسم ومن يرى يفهم ما يريد”، شعرتُ أن باية تخاطبني تحديدا، لماذا يطلب من الفنان أو الأديب ما قصده أو نواياه أثناء فعله الفني؟ فالفن في الغالب هو إمّا تعبير عن نفسه أو عن صاحبه، أو ربّما عنهما معا، أو عن أحدهما متداخلا في الآخر أو منفصلا تماما عنه دون وعي أو قصد من الفنان. على امتداد 51 سنة من الألوان، الخطوط والأشكال، خبّأت باية الكثير من الأسرار الصغيرة متناثرة في هذه اللوحة أو تلك. سأحاول هنا أن أتحدث عن بعض ملامحها.

  تشكيل    يمكن تقسيم أعمال باية إلى مرحلتين أساسيتين وفق العناصر الآتية: اللون، وأقصد باللون التحولات التي حدثت في هذا المستوى، محاولة في كل مرة الإجابة عن السؤال الآتي هل تغيّرت الألوان وإلى أي تدرج مالت إلى الحار أم الخافت؟ هل اللون له دلالة معينة منسجمة مع المرحلة أم له تفسير آخر وبالتالي دلالة أخرى؟ ثم العنصر الثاني هو الشكل، سيتم فيه التركيز على الأشكال الجديدة في كل مرحلة، ما الأشكال المستجدة وهل لها ارتباط بحياة باية الشخصية أو لا؟ أما العنصر الثالث فهو الموضوع، ما المواضيع المحببة لديها؟ وما الموضوعات المستجدة؟ وهذا كله وفق تصور معيّن، تشكلّ فيه كل مرحلة مقدِّمة أو طبقة سميكة تبنى عليها الطبقة اللاحقة، لتستقر لونا وشكلا وحكاية.

1946-1962:

في بداياتها المبكرة، من الطفولة إلى غاية 1949، كانت الألوان ناعمة، يغلب عليها الأزرق السماوي، الأخضر الزمردي، الأصفر وتدرجاته إلى البرتقالي الخافت، في لوحات أخرى الأسود والبني وحدهما جنبا إلى جنب، ألوان لن تختفي لكنّها ستتراجع في الفترات اللاحقة، وستأخذ مكانا لها على الحواف في أوراق الشجر، كالأخضر الزمردي، والأسود في ثمار  لا يمكن التعرف عليها ما هي تلك الثمرات ذات اللون الأسود، أمّا الأزرق السماوي فسيختفي شيئا فشيئا, بينما الأشكال منذ البداية، كانت باية تمد الخطوط لتأخذ الأشياء أحجامًا أكبر من أحجامها، وشكلا يتجاوز صورتها الواقعية، وقد انحصرت في هذه الفترة في النساء والعصافير، نساء بتدويرات وأحجام مختلفة، نساء بأجساد كريمة، في الغالب مع عصفور أسطوري، لا ينسجم مقاسه مع التعريف العادي للعصفور، على الأرجح طواويس بحجم امرأة، وفي إحدى تلك اللوحات المبكرة طاووس يلاعب امرأة أو المرأة تلاعب الطاووس طولها بطوله ويمتد ريشه إلى ما يتجاوز حدود احتمال الطبيعة لذلك، هنا تتداخل خطوط الخيال السحري بالواقع، واقعية سحرية على طريقة باية، تميّزها الصداقة الوفية بين الطائر الغريب، ذي الشكل واللون العجيبين والمرأة، ارتباط الطائر بالتحليق والفضاء المفتوح بينما المرأة بالتراب وبالفضاء المغلق، المرتب والرتيب…. من بين المشاريع التي لم تكتمل أبدًا، أنّها رسمت لفائدة مجلة فرنسية حكايات شعبية، معظم أبطالها وعناوينها كانت من مثل: العصفور الأول، العصفور الأزرق الثاني، المرأة والعصفور، الحمار الأزرق والطير، وهي المرة الوحيدة التي يكون فيها حمار في لوحاتها، حمار بشكل ولون طفوليين…أما ما بين سنتي 1952 و1962 لا يعرف لباية أي عمل فني، تزامن ذلك مع زواجها وتفرغها لإنجاب ستة أطفال، هي نفسها تقول: “كان من الصعب مواصلة العمل في تلك الظروف، الحياة مع زوج أمر آخر، كان يجب أن أبقى في البيت وألَّا أغادره، فما جدوى الرسم[1]؟” هذه المرحلة مهمة على الرغم من خلوها من أي عمل فني، لكنّها مرحلة نضوج، واتجاه نحو النحت، ثم العودة إلى الرسم لتتفوَّق على النموذج الأول من شخصيتها الفنية، التي ستبدأ مع أول معرض جماعي ستشارك فيه بلوحاتها القديمة ما قبل 1952، ثمّ بداية مرحلة أخرى، وسأسميها مرحلة السمك والآلات الموسيقية.

1962-1970-1998:

من بين العناصر المهمة التي تلاحظ في الأعمال الجديدة لباية في هذه المرحلة على مستوى الأشكال، هو ظهور الأسماك، أسماك في محيطها الطبيعي وهو أمر نادر، بينما يتكرر كثيرا وجود أسماك خارج مكانها الطبيعي، سمكة بجانب امرأة أو اسماك في محيط عدد من النساء، أو في حوض ضيق صغير يبدو غير محتمل لحجمها… لا أعلم كيف يمكن تفسير هذا التواجد المكثف لهذه المخلوقات، حتى أنه في بعض اللوحات قد أخذت مكان الطيور التي تراجعت من وسط اللوحة إلى أطرافها أو اختفت تماما، هل السمك المتواجد خارج الماء له دلالة معينة؟ ربّما هو تعبير شخصي لا شعوري عن وضعها الذي كان بعيدا عن وسطها الأول السعيد، وأصدقائها، الابتعاد، ومغادرتها نحو عائلة ومحيط جديدين، ربّما هو الغياب؟ أسماك باية، لا تختلف عن طيورها ذات الأشكال الممتدة والألوان الزاهية.تشكيل

عنصر آخر جديد خاص بهذه الفترة هو الآلات الموسيقية الوترية على وجه التحديد، في بيت باية الجديد مع زوج موسيقي، مؤكد أن الآلات الموسيقية تواجدت بوفرة وهذا التفسير التلقائي، التبسيطي والأولي، لكنّني عند ملاحظة تلك اللوحات التي تظهر فيها الآلات إما في أيدي نساء أو آلة تتوسط اللوحة منفردة ضمن ديكور بيتي بسيط، أوتارها البارزة أكثر من أي شيء آخر تشبه قضبان باب سجن، أو نافذته أو قفص صغير، لم أستطع رؤية شيء آخر، غير حالة السجين خلف تلك القضبان، ربّما هو مبالغة من طرفي، لكنّها مبالغة قد تكون مقبولة بالنظر إلى حالة العزلة، إما اضطرارية أو اختيارية، التي عاشتها الفنانة. من جهة أخرى الألوان في هذه الفترة تبدو أكثر نضوجا، أكثر حّدة، وليس بالضرورة بهجة، ظهور الوردي الهندي بتدرجاته أولّا ثم بعده الأزرق الفيروزي والأرجواني أو الخبازي من الخفيف إلى الحار، إلى جانب الاحتفاظ بالأخضر الزمردي والأسود، واختفاء شبه كلي للبني والأبيض.

أما من حيث الموضوع، فإنّ الفنانة لم تغيِّر كثيرا موضوعاتها، إذ شكلت النساء وحياتهن، مركز لوحاتها، النساء وحدهن، دون وجود لأي رجل، ما عدا واحدا شبيه ببهلوان في رسوماتها التي كانت سترافق الحكايات الشعبية والتي لم تنشر أبدا. بينما توجد النساء بكثرة كمحور، مخلوق آخر يغيب كليًّا من أعمالها هو الأطفال، على الرغم من أنّها عاشت كامرأة أنجبت الكثير من منهم وتكفلت بهم بعد وفاة والدهم، لكنّ هذا لم يشعرها بضرورة أن تحولهم إلى موضوع لأعمالها، وكأنّها تريد عالمًا للنساء به الكثير من الحدائق العجيبة والطيور الطيبة، بمنتهى الهدوء، عالم يخلو من المتاعب أو الانشغال بالغير وتحمّل المسؤوليات، لكنّهن نساء تبدين كأشياء تزيِّن المكان، تخلوا وجوههن من التعابير، فلا تدل على حزن أو فرح أو اكتئاب أو غيره ما عدا لوحة واحدة ربّما من آخر لوحاتها إن لم تكن الأخيرة على الاطلاق (رسمت في 1998، سنة وفاتها) أين تبتسم امرأة متربعة كامل اللوحة. طيور موضوعها الثاني الأثير، وفي مرات فراشات أي مخلوقات طائرة، تملأ المكان بالتساوي مع النساء، طيور في أقفاص، أو خارجها لكنّها دومًا قريبة من المرأة، وهي في معظمها تشبه طير الهدهد على الأقل في عرفه وبعض ألوانه. في إحدى اللوحات يتداخل الهدهد والمرأة كما تتداخل في الأساطير القديمة أجساد الحيوانات ورؤوس البشر، المرأة التي ترتدي ثوبا بلون ونقوش ريش طائر الهدهد وعلى رأسها عرف يشبه عرفه تصبح وكأنّها المرأة الهدهد، طير الأخبار السارة والجمال والحماية كما في الثقافة المحلية.

في الأخير، عالم باية عالم ألوان بالدرجة الأولى، عالم الخطوط والأشكال اللامحدودة، فضاء لا يتداخل فيه الخيال والواقع فحسب، بل إنَّ الخيال فيه يصبح هو الواقع الوحيد الذي يمكن رؤيته وفهمه، وربّما لم تهتم باية يوما إلّا باللون كموضوع أساسي لأعمالها، وكان الشكل بالنسبة لها مجرد فضاء، أو حيز أو مكان يمكنه احتواء اللون، بينما لم تسع إلى إدخال عناصر جديدة وتناول مواضيع مختلفة في كل مرة، بل كانت تغيِّر وتلعب باللون بدل الموضوع، ولذلك بدا الشكل ممتدًا ولا يستجيب لأي واقعية محتملة أو متصوَّرة، ممتد بقدر حاجتها وعطشها إلى اللون. كانت باية شهرزاد على طريقتها كما وصفها الطاهر جاووت في مقال له عنها وبعبارته البليغة والصحيحة جدا أنهي هذه الرحلة الصغيرة في عالم باية وألوانها: “قلبت خطوط الفن، مدّدت العصفور ليصبح أفعوانا، وجعلت الأشجار تنمو والأكواخ منحرفة، والمزهريات تتفرع لتصبح شجرية مثل ذيول أو أعراف الطيور. في هذا النوع من قرى الأصول حيث تتشابك الأكواخ والأشجار والطيور، وتنغمس المناظر الطبيعية والأشياء في انعدام الشكل وفي عالم من الحرية المشيمية[2]…”.

………………………………………

[1] من رسائلها إلى مرغريت مربيتها.

[2] Tahar Djaout, Shéhérazade aux oiseaux, dans Algérie-Actualité n1146, 1er octobre 1987

مقالات من نفس القسم