طارق إمام
تبدو المجموعة المسرحية ( جزمة واحدة مليئة بالأحداث ) لباسم شرف ، و الصادرة مؤخراً عن دار ” ميريت ” تجربة صادمة تماما لقارئ المسرح التقليدي ، و ذلك بدءا من عنوانها الغريب الذي يزاوج بين مفردة عامية هي ( جزمة ) تحتل صدارة عبارة فصيحة ، و هو ما تؤكده النصوص القصيرة التي ينتظمها الكتاب ، و التي يبدو سؤال القطيعة فيها مع التراث المسرحي السابق عليها على نفس الدرجة من الأهمية مع سؤال التواصل .
النصوص ـ مبدئيا ـ لا تبدو معنية بالتأكيد على مفردات المكان أو الديكور أو الإضاءة أو الشكل الخارجي ـ الفيزيقي ـ للشخصيات .إنها تستبعد مفردات كثيرة تبدو جوهرية لتقدم العالم النفسي الداخلي لشخوصها . الشخصيات تبدو وفق هذا الطرح أصواتا أكثر مما تبدو شخصيات حقيقية و هو قدر من التجريد يقرب هذه النصوص من العالم الشعري لقصيدة النثر العامية التي قدمت منجزا هاما منذ تسعينيات القرن الماضي .ربما لهذا السبب يبدو الحوار ، أو المونولوج ، مفارقا للشخصيات بشكل متعمد .. ذلك أنه لا يخضع لقانون المحاكاة الواقعي بقدر ما ينحو نحو تكثيف الواقع : (غرفة بسيطة الأثاث و لكن تبرز منها مرآة كبيرة بها كسور واضحة يقف أمامها شخص و يقول : أكتر واحد بخاف أقابله هو أنا . لما أشوفه في مرايا أو جوا حلم ، لإن عنده قوة غريبة قوي في إنه يكسرني و يخليني قاعد خايف ، و أحس ان وجودي ملهوش معنى غير بإرادته هو حتى و إن كانت غلط ، علشان كده لازم أكسر المرايا ، و أقطع النور عنِّي في الحلم . ” ثم يكسر المرآة ” . إظلام تام ) . إن هذا النص على سبيل المثال ، و المعنون ب ” مرايا مشروخة ” يبدو نموذجا دالاً على ما أسلفت من اختزال للشخصية في الخطاب و اتكاء على الجانب الفلسفي من المشهد اليومي العابر المتاح و استبعاد لتفاصيل المكان و الزمن بمنطقها المُدرك الإتفاقي .
النصوص أيضا تتألب على منطق التصنيف الضيق لتنفتح على أشكال مختلفة في التعبير ، و هو انفتاح يسم الكتابة الجديدة إجمالا بحيث تتنوع مفاتيح قراءتها ، بما يجعل من مفردة ( نص ) تعبير مثالي على حالة هي جماع من القصة و الشعر و الفن التشكيلي . و الكثافة هي السؤال الجمالي لهذه المجموعة : كيف يمكن استحضار عالم كامل في نص قصير قد لا يتجاوز سطراً واحداً و يكون قادراً رغم ذلك على فتح إحالات ميثولوجية و رمزية بلا حصر ؟ و لننظر مثلا إلى النص الإفتتاحي في المجموعة ” المهدي المُنتظر ” : ( المهدي المنتظر : أنا مش جاي . إظلام مفاجيء ). إن سطرا واحدا يغدو نصا مسرحيا ، في شطط تجريبي يدفعنا للتساؤل بشدة عن التصنيف اللائق لنص كهذا ، و إمكانية تمثيله مثلا ، فحتى الشخصية الإفتراضية هنا غير موجودة ، هي شخصية مستقبلية تمثل أحد رموز نهاية العالم .
ربما يمكن رد التأثيرات الرئيسية في هذه النصوص لمنجز مسرح العبث أو اللا معقول ، و الذي نشأ في شروط افلاس العقل البشري و هزيمة الإنسان الحديث الذي أنهكته الحرب ، و التي يرُدَّها باسم شرف هُنا لسياق اجتماعي و اقتصادي و نفسي خربته الديكتاتورية و نخره الفقر الذي امتد للروح فخلق حالة من الخواء و اللامبالاة عند الفرد العادي ، و اختصره لشبح فقد أهليته . ربما لذلك يختفي ( البطل ) من النصوص ليحل محله ( اللابطل ) أو البطل الضد ، الذي تم تجريده من أية ملامح تخصه ، المنفصل عن أي سياق ملحمي . هكذا ستعثر على العديد من النصوص التي تتبنى منطق ” البارودي ” ـ المحاكاة التهكمية ـ في التعليق على الواقع المعاش و مقاربة أبعاده السياسية و الاجتماعية في كوميديا سوداء ، تعيد استخدام حتى تقنية ” الكورال ” المسرحي بطريقة جديدة ، مخلصة إياه من مهابته التقليدية كصوت للضمير الإنساني . كذلك تحضر دائما المفارقة ـ المنسجمة مع عنوان الكتاب ـ بين عناوين النصوص الفصيحة و حوارياتها العامية ، و العكس .
إجمالا ..هذه نصوص لن تعثر فيها أبدا على شخص منتصر أو نهاية سعيدة ، نصوص تدور أحداثها داخل أذهان شخوصها المتوحدين و المنفصلين قسرا عن إنسانيتهم : ( جوا المترو الناس بتمارس العادة السرية بملامح وشوشهم لما يشوفوا بنت واقفة و ساندة ضهرها على الباب ).
جزمة واحدة مليئة بالأحداث .. نصوص طالِعة من الواقع السفلي ، الهامشي، بلا رتوش و لا ماكياج ثقيل يجمل وجهها .. و ربما كان هذا ـ بالذات ـ سر جمالها ! .