جثة امرأة قرب البيانو

أحمد هلالي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد هلالي

حين كانت كل كائنات الأرض تغط في نومها العميق، كنت لا أزال أتقلب في فراشي وأجهد نفسي للتخلص من أرق عسير. سـمعت ما خيل لي أنه أنين ينبعث من شقة جارتي الفلبينية في الطابق الأسفل. نزلت بسرعة البرق الأدراج العشر التي تفصل بيننا مزحلقا يدي على قفص السلم الـخشبي، وقفت أسترق السمع واضعا أذني لصق الباب فلم أسمع شيئا. فقط دقات قلبي وأنفاسي المتلاحقة وهي تملأ أرجاء المكان. لم أسمع طَرَقَاتِ حذائها الشديدة وهي تصعد الأدراج نحو شقتها منتصف كل ليلة. طرقات تشي بثقل جسدها وأنها على الأرجح أفرطت في احتساء الـخمر. ربـما خيل لي أني سمعت أنينا، قد يكون في الشقة المحاذية لبيتي، أو لعله أنين مشهد في فيلم رعب غير بعيد في أحد بيوت الحي، فالصمت الذي يعم الحي في هذه الحظة يمكنك أن تسمع أقل حركة وأدنى وشوشة.

عدت أدراجي إلى فراشي، وأشعلت التلفاز على قناة محلية في انتظار أن يداعب النوم جفونـي من جديد، كانت تبث وثائقيا عن أشهر القتلة عبر التاريخ يقدم فيه محللون نفسيون وخبراء مختصون في الجريمة تفسيراتهم وتحليلاتهم عن الدوافع والأسباب التي تجعل الإنسان يرتكب جريـمة قتل كائن آخر. يـبحثون في طفولاتهم وعلاقاتهم بـمحيطهم وسِيَرِ عشقِهم وطبيعة أحلامهم.

أنهيت الفيلم الوثائقي، ثم انتقلت إلى قناة رياضية تبث ملخصا لأهداف الأسبوع من البطولة الإسبانية. كنت أريد فقط أن أتخلص من صور الرعب التي علقت برأسي مثل بقع سوداء غير قابلة للمحو، فأنا لست من عشاق الرياضة. غير أن صوت الأنين عاد للظهور من جديد وأكثر حدة، قفزت مرة أخرى نحو باب الشقة عازما هذه المرة أن أطرقه وأتحقق من مصدر الأنين، قد تكون جارتي في وضعية صعبة، فأنا لم أشاهدها منذ مدة. كنت من حين لآخر أصادفها وهي عائدة من السوبر ماركت تجر قفة أغراضها. نتبادل التحية وينصرف كل منا إلى غرضه اليومي.  بل أكثر ذلك لم أسمعها صباح الإثنين كما العادة وهي تتدرب على البيانو صباحا أو تعتني بأرانبها التي أنشأت من أجلها حديقة صغيرة بشرفتها بجحورها ومتاهاتها. كان فطور يوم الإثنين مميزا إذ غالبا ما يصادف لحظة عزفها، فطور بخلفية موسيقية خفيفة من ربرتوار موزار أو بيتهوفن أو أي موسيقى أخرى. كانت كل مرة تأخذني بعيدا، بل أصبح فطور الإثنين طقسا أسبوعيا. فقد كانت بارعة في العزف، هذا ما بدا لي على الأقل بحكم ثقافتي الموسيقية المتواضعة.

وقفت مرة أخرى عند الباب مصمما على طرقه وإن في الهزيع الأخير من الليل، لكنني تراجعت في آخر لحظة مرجـحا فكرة أن الأمر محض خيال لا غير، فكثيرا ما كنت أسمع أصواتا غريبة وعويلا، بل أحيانا يحدث ذلك في حضرة أصدقائي أو أفراد عائلتي فيسخرون مني ويتهمونني بالخرف أو الجنون. أصوات تتخذ أشكالا مخيفة أشبه بمؤثرات أفلام الرعب أحيانا، وبأصوات شجارات عنيفة لا تنتهي أحيانا أخرى. أتخيل مثلا أن لصا تسلل إلى بيت جارتي وفاجأها وهي في مطبخها بطعنات غادرة واستولى على هاتفها ومجوهراتها وكل ما غلى ثمنه وخف وزنه، وتركها تنزف وأنسحب … مرة تهيأ لي أنها وهي تغادر الحمام لامست زر الإنارة فصعقها التيار الكهربائي. من أين كانت تأتيني مثل هذه التهيوءات والهلوسات؟ فأنا لم أكن مستهلك حشيش أو أي مخدر آخر ولم أكن مدمن أفلام رعب وجريـمة، غالبا لا أطيق الجلوس أمام التلفاز طويلا، أجد ذلك مـملا.

زجرت نفسي، وقفلت عائدا لفراشي بسرعة، فلم يكن هناك أنين أو صوت يصدر من شقة جارتي، هي شكوك وهلوسات ساورتني في تلك لحظة كما يمكن أن يحدث لأي رجل عاد من يوم عمل شاق مشوش الحواس مهدود الجسد. كأي رجل يتغذى الروتين على سويعاته في حي يقتله الصمت وتستبد به الوحدة. أخيرا تمكن مني نوم ثقيل، لم أستفق إلا وأشعة شمس الزوال الباردة تتسلل عبر فتحة بين ثنايا ستائر النافذة.

غادرت بيتي بعد أن أخذت حماما خفيفا يخلصني من مخلفات كوابيس الليلة وأحلامها السوداء، وينعش عضلاتي المنهكة من أجل يوم جديد. فاليوم عطلة وأنا وحيد في بيتي؛ فقد ذهب طفلي الوحيد في رحلة مدرسية وسافرت زوجتي لزيارة أهلها بالمغرب منذ أسبوع. جلست عند رصيف مقهى بروسيليا أتشمس وأزجي الوقت بقراءة بعض الأخبار القادمة من مختلف بقاع العالم. قبل العودة للبيت مررت عبر كارفور واشتريت خبزا وسلاطة وقطعة خيار وعلبة تون من أجل وجبة غذاء سريعة، فأنا لا أملك المزاج الرائق للوقوف طويلا في المطبخ.

وأنا أقترب من البيت غمست يدي في جيبي بحثا عن المفاتيح، فوجئت بسيارة الإسعاف بأضوائها المتراقصة تقف عند باب البيت، فيما رجال الإطفاء يمدون سلمهم الطويل عاليا نحو شرفة الجارة ورجال الشرطة بعضهم ينظم حركة المرور والبعض الآخر يستجمع المعلومات اللازمة للتحقيق. سكان الحي اشرأبت أعناقهم من الشرفات والنوافذ والأسئلة تراودهم. يتبادلون النظرات والإشارات والإيماءات مستفسرين عنما حدث.

قال لي أحد سكان الحي: “أنا من اتصلت بالشرطة، بعد أن شاهدت القطة وهي تتحرك بشكر غريب خلف زجاج الشرفة. لقد آلمني وضعها وهي تخدش الزجاج باحثة عن مخرج… لكن المفاجأة كانت كبيرة فقد وجدوا صاحبة البيت ملقاة على الأرض عند قدم البيانو، لم تكن هناك آثار عنف على جثتها حسبما أفاد رجال الشرطة، بينما أكد الجميع أنها كانت في صحة جيدة لكنهم لم يشاهدوها منذ أسبوع”.

وجدوها لصق البيانو جثة لا حياة فيها، ملابسها نظيفة وأوراق عليها نوتات لقطعة موسيقية تناثرت في الأرجاء. لا بقع دم تعلق بها ولا أثر لعراك أو خدوش. عثروا في جيب البيجامة على ورقة بيضاء مثنية بعناية من دون أن يكون مدوَّنا عليها شيء. بعثوها إلى مختبر لتحليلها، عرضوها لمختلف التحاليل ظنا منهم أن وصية أو سرا كتب عليها بحبر سري.

مقالات من نفس القسم