ثلاث قصص

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

يوم اختطف كلبنا

في غبش الصبح المتسلل في تراخي، اصطدمت أذني بأنين متقطع، كنت قد هرعت للزير الماء أغب منه بعد عشاء دسم، امتدت يدي لعارضة الباب الخارجي، فما إن رفعتها ؛حتى انزلق، يرتجف مفزوعا، انتابني خوف شديد، سريعا تمالكت شجاعتي، في ونس أثارني لونه البديع، شعر أبيض متموج، ورأس صغير منمنم،وذيل قصير ينش في ضعف، مجهدا استقر ينهج أسفل مني، لا يزال في عوائه يئن،ما إن امسكته حتى هدأ، اخرج لسانه الأحمر، مد أنفه يتشمم في هزال، خرج الوالد من غرفته يتثاءب  في كسل، انفرجت شفتاه مستغربا، قال في ترحاب :” من أين أتيت به، إنه جرو ريان احتفظ به يلزمنا”، منذ اللحظة أصبح للصغير محضن دافئ يرعاه،تناوبت الأيدي على إكرامه،كناسة الطبلية، ولا مانع من نسيرة لحم تمرر خلسة، اشتد عوده، يجرح  نباحه سكون الليل، زاحم الأرجل في جد،وسابق صغار الماعز، يفتر ثغر الوالد لرؤياه عن ضحكة حانية، يمسح ظهره العريض بكف حانية، يردد ممتنا :” حلال فيه اللقمة “، وفي فورة أحادث الصغار المشعشعة بالحماس، يقصون في تعال، كيف طارد كلبا كبيرا، أرغمه على الفرار والعودة من حيث أتى،  عندها ضحكت أمي في نهنهة غام لها وجهها وهي تحمل طبق العدس، مسحته بعين رحيمة، ألقيت إليه بما في يدي، زام الوالد مؤنبا،قلت في تلجلج :” إنها قطعة من العظم ليس إلا “، لا غنى للبيت والغيط عنه،حتى أمي أمنت جانبه، لم يعد يغريها تحريض جارتنا ؛ بأنه لن يترك دجاجاتها في سلام،مضت الأيام على هذه الشاكلة، وفي ليلة سهر قمرها يترقب وصول الفجر، استيقظت الدار على وقع طرقات يد قاسية،” محروس ” الخفير، رجل شره النظرات غليظ، طالع الوالد بخبث وقد ضيق عينيه :” لدي إشارة من المركز،لابد من قتل كلبكم، لقد سعر”،هبطت كلمته كالصاعقة،دقت الوالدة صدرها، هز الوالد رأسه، ابتلع ريقه ولم يتكلم، كان هواء الغروب يلوي شعور أشجار الصفصاف، يغرقها ويخرجها من بطن الترعة، عندما هبط “بوكس ” أزرق، ثلاثة عساكر بادروا بالسؤال :” أين الكلب ؟”، امسكوا به، ظل يناوش داخل الشبكة والقلق يطفو بعينيه،حملوه على عجل، حملق أخي الصغير في ذهول وقد عضه الحزن، توسل كي يطلقوه، كان الوالد على أشده يكاد الدم ينبثق من وجهه من الغيظ، زمجر محرك العربة وهي تعرج وفق الجسر، حتى اختفى نباحه، ذلك المساء لم اقرب الزاد، انطويت على نفسي، يتأتى صوت الوالدة على فترات منكسرا؛ أن ينتقم الله من أبناء الحرام، لم أذق طعم النوم، أخذ الليل يخطو في عجالة نحو الصباح، أيقظني أخي الصغير يختنق بالدمع، يقول :” متى سيعود كلبنا؟”، أصابني الخرس،لأعاود التوجع من جديد.

***

وهزمتها الأقدار

 هو هزمه الحب، أما هي فلا تضاهيها فتاة في الجمال ورجاحة العقل، كانت الشمس في ذلك الصباح لينة على غير العادة، تغالب برودة الجو القاسية، عندما توقف إلى جوار القنطرة، اشعل سيجارة وغاب في ذهول بين سحبها البيضاء المتلوية كثعابين صغيرة،وبين الفينة والأخرى يرمي أممه ببصره يرقب الطريق، يقول في همس المكروب :” من هنا ستأتي، هذا أوان قدومها كل صباح “، تعمل ” سمر” موظفة بإحدى المصالح الحكومية في المركز، بعد أن طلقت من زوجها، عاشت معه فترة طويلة لكنها لم ترزق منه الذرية، تتهلل وجهها وهي تحمد الله، أن حرمها هذه النعمة، لم تكن تطيقه،عاشا على غير وفاق، يكبرها بأعوام كثيرة، هو تاجر غني موفور المال، أجبرها والدها على الزواج منه لغناه، لتبدأ فصول معاناتها انتهاء بالخلاص، تغلق الباب في استماتة في وجه الذكرات المشؤومة، ينتابها الفزع كلما تواردت في خاطرها، يبدو وجهها الباسر كجمرة مشتعلة،ورائحة القلق تفوح من ثيابها.

طالت وقفته، يبدو أنه بكر على غير العادة، انحرف بعيدا حتى لاصق شجرة الجميز الكبيرة، هنا تتوقف سيارات الأجرة،ألقى ببصره يتحسس في عبش البكور، انفرجت أساريره في ونس كطفل غرير وجد أمه، تتقدم في شموخ تشق رطوبة الصبح، يهتز جسدها الغض في أنوثة تأخذ بالعقول، لم يجد من بد غير أن يتكلف ابتسامة فاترة،لكن نظراتها الناعسة من عينين مكحولتين، ومشيتها المتأودة، تنبئ بجرأة مبالغ فيها، يرن صوت أمها ساعة معاتبتها، بعد أن ألقى والدها ورقة الطلاق في وجهها في حنق، لحظتها قال في تهدم :” الآن أصبحت مطمع كلاب الطريق، عورة لابد من سترها”، لطمت ولدتها وجهها في فزع، وهي تندب قائلة :” أصبحنا تسلية القرية، المرأة ليس لها أن تختار، فإما بيت زوجها أو القبر “، هزت رأسها بقوة،وكأنها تطرد عنها هذه الخيالات، واصل السير وهي تتحسس حقيبة يدها، ثم رمت بنظرة سريعة ناحية ساعتها،ألقت رأسها في سهوم ناحية الترعة التي أخذت تخلع عنها ردائها الأبيض الجميل، أبخرة بيضاء تتصاعد في هدوء وحذر مع سكون الفضاء الوليد، تبدو الصورة رائعة، كل شيء يغب في غفوة تحت وخز البرد المتكاثف القادم من كل مكان، انفرجت أساريره بابتسامة مترددة، يبحث عن ريقه ليبتلعه، قد اغرورقت عيناه من لسعة الهواء، تنحنح في افتعال، يستجمع قواه وهو يحملق في صمت وخشوع، شق الصمت شجار احتدم  من فوق شجرة قريبة بين الطيور،تعالى صراخ فراخ مهولة، تناثر في المكان فتات أعشاشها، تجمدت قدماه،تظن في رأسه الهواجس، تمالك شجاعته، ليقول :” صباح الخير يا مدام سمر، هل تسمحين بلكمة ؟”، قلبت بصرها فيه بضيق،مشوشة بعض الشيء، تلفتت في وجل،مسح أنفه المبلل برشح خفيف :” أريد الارتباط بك، هل توافقين على الزواج مني، كل طلباتك مجابة “، بعدها أحكم قناع الغرور من حول وجهه المغضن، كمن يثق في قبولها،يهمس شيطانه يخفف من ثورة نفسه :” المطلقة تجارة كاسدة، لن تجد من يمد يده إليها،أين ستجد مثيلك؟ “،اهتز نور سيارة قادمة من بعيد تعرج فوق تراب الجسر، مالتها بوجهها المحتقن إليه في غضب، وهي تغالب نوبة من الغضب :” أنا لا افكر في الزواج، وإذا فكرت فلن اقبل بك، لقد تجاوزت حدودك معي “، بدى عليه الارتباك، لقد ظهرت الفتاة على غير ما توقع، شرية، عنيدة، تعتد بنفسها، تصده بعنف دون خشية، هذا ما لم يحسب حسابه.

ألقت بنفسها في سارة الأجرة وهي تتميز من الغيظ، بدرت إلى خاطره سريعا بعض الهواجس، كيف يذيب الجليد الماثل أمامه، أن يهد السور الفاصل بينهما، أفاق سريعا على أصوات مزعجة لضجة الصباح،تتقاطر فلول الفلاحين حتى امتلأ الجسر بالحركة،كان ميزان النهار قد تحرك قليلا، وبدت خيوط الشمس تشب، تقتحم الفضاء الغائم في إصرار،تدريجيا تعانق الأفق بنور محقق، وبرز النهار من جهة المشرق، فارتعشت لمقدمه الطبيعة وصاحت مرحبة مستبشرة في استسلام،تلألأت قطرات الندى في عناقيد براقة من فوق أشجار السنط، وتكاثفت مجاميع الطيور تلهب الجو بأجنحتها، تتسابق في طلب أرزاقها.

عاد صاحبنا يجر أذيال الخيبة، يلعنها، يلعن الحب والضعف، كان قد عقد العزم، ضحك في نشوة من نجا بروحه من مفازة في صحراء لا نهاية لها،من بعدها جاهد كي ينزوي بنفسه بعيدا عن أحزانه،لكنه فشل، لم يستطع تحجيم نفسه وترويض مشاعره المنفلتة، ها هو يراقبها في كل صباح، ينتعش روحه وهو يرى ابتسامتها تتراقص عذبة فوق محياها،ألهبه الاشتياق، تحول لكائن مختلف عن ذي قبل، تجرأ على غير مألوفه،يواصل زحفه إليها، يحاصرها في غير هوادة، لابد وأن ينتقم منها، أن يقتحم الكائن المتصلب، أن يكسر أنفها، لابد من أن يتعلم كيف يعزف على أوتار عاطفتها، أن يغزو قلبها، أن يحتويها، تتراءى له في أحلامه، وهي مقبلة في ثياب غواية، في بهرج فتان، تطالعه في اشتهاء، ترتمي بين يديه منكسرة، متهدمة، تمد إليه يديها في تلهف كغريق أحاطت به الأمواج، عندها يرى نفسه وقد امسكها كدمية يتلاعب بها، يدنون على أوتار جسدها المسجى أمامه، المسربل في غلالة التلهف كعازف ماهر،ينتزع منها كل خلجة من خلجاتها، يستيقظ كل ليلة مبهور الأنفاس،ممتقع الوجه، يغالب وجدا،قد جحظت عيناه كالمغشى عليه من الموت، يقلب ناظريه في السقف الضيق،يفرك وجهه في تأس، إنه يعلم في قرارة نفسه أنها مجرد أحلام، بل هي أضغاث أحلام،إنه انسحاب من كبيرة تتسع دوائرها لتبتلعه، لكن الحقيقة غير، فصدودها وهجرها، وعنادها، قد يقوده للاعتقاد الجازم بوجود غريم، رجل استقل بقلبها يمسك مقوده، حبيب تعلقت به، منحته عقلها، تحبه ويحبها، يتجرعان سويا كؤوس العشق، هناك في المدينة، حيث الصخب في مجاهل لا يطرقها أحد، لا يصل إليها أحد من أهل القرية،وأن ما يربطه بها خيال جامح، حتما سيقوده للجنون.

أما هي فقد صدق ظنه فيها،فمشاعرها قد انحرفت لحبيب، تتأتى صافية من كهوف بعيدة، ترتعش كشعاع رقيق، يهتز في إخفاق سرعان ما يعوج مجروره يضرب بعنف،أحبت بكل جارحة منها زميلا، ربطتهما مشاعر فوارة، التقته بعيدا عن أعين الرقاب،تغلغل هذا الحب ونمت جذوره في تربة خصبة، احتضنت البذرة فنمت وترعرعت،امتلكها صاحبها أيما امتلاك، طلبته منه يوما أن يوثق هذا الحب، أن يصبغه بصبغة الخلود،يتقدم لخطبتها، يحطم كل القيود ويحررها من عناد الوالد، الذي كان ينتظر على جمر انتهاء عامها الأخير،كي يزوجها من  الحاج ” مدبولي ” الثري المشهور بائع السيارات، ت غافل الوالد عن زيجاته الثلاث، وأبنائه الذين يفيض بهم بيته، فالرجل سيضمن لها بيتا مستقلا، وحياة ما كانت لتحلم بها،مرت الأيام ثقيلة عليها، لكنها تحررت من ذلك القيد، تنفست هوائها بعيدا عن الجدران التي فرضها العجوز الغيور، عادت ثانية تشعر بالحياة، تستمع لإيقاع هذا النبض يجتاحها ثانية،تأنس لزحفه الطاغي في ظمأن لا يقاوم، يهزها تياره الساري، يهزها كشجرة مثمرة، تساقط طرحها في غزارة.

إنها تأمل أن يعود إليها حبيب الأمس الذي حرمت منه،أن تمتد إليها يده ينتشلها من فضائها المحترق بالحيرة، ففي كل يوم تبدو كقطعة من الثلج تذوب تحت الوهج،يتعظم بداخلها شعور الفقد، الاحتياج، الهروب من سجنها المفتوح، في لقائهما الأخير ألحت عليه في الطلب، أن ينزع عنه تسويفه، أن يعلن في صراحة موقفة وألا يتلكأ،هي تخشى غدر الأيام، في عزلتها تتبعها أشباح الماضي المخيفة،  لم يكن صاحبها يقدر عاطفتها حق قدرها، تشيح بوجهه عند حديثها الجاد،يبتلع ضحكته، ثم يعقبها بصوت متكلف النبرة، يقول في تراخ :” نعم، بالتأكيد سأذهب لخطبتك عما قريب، أمهليني بعض الوقت “، عندها ترتسم على محياها الشاحب ظلال من القلق،لا يتوقف صاحبنا عن تأففه وانزعاجه، أما هي فعادت من جديد تغالب هواجس الأمس المسعورة، تكذب ظنونها، تطمئن نفسها ؛ بوعوده المريبة،ضاقت ذرعا بلجلجته،لم يعد في القوس منزع لصبر، ترن كلمات أمها تنغص عليها حياتها، تنتزعها شماتة زوجات أخوتها وتمنيهم أن تفشل،وصبر الدها الذي شارف على النفاد،باتت تخشى جرأة صاحبها وتهوره يترصد خطاها، بعدما نشط يتتبعها في كل مكان، تخافه، تفور نفسها بالحزن تشقى به آناء الليل وأطراف النهار.

ضرب لها موعدا، ذهبت إليه على مضض، تداعبها أحلام الزواج والبيت والاستقرار مداعبة لطيفة،لعل الفكاك من سجنها قد اقترب موعده، بدت هذه المرة باذخة الأنوثة، يتهدج صوتها بانفعال طفيف،ظلا على صمتهما بدت قلقة في تأفف، تنظر من حولها في ريبة، تطالعه بعين واجفة، تضحك أمامها الهواجس في تبجح، تخرج لسانها في استفزاز،جذبت إليها خيوط الثقة الواهية، عاجلته بطلبها :” متى ستأتي لخطبتي؟”، أجال بصره في الوجوه العابرة، تزايد اضطرابه، شرع يفرك كفيه منزعجا،، يقول بنظرات منفعلا :” عما قريب،ألا تثقين فيّ؟! لقد كرهت إلحاحك “، عندها سحبت أنفاسها بصعوبة، وكأنها تجمعها من جوف بئر عميقة،حدجته مرتابة بطرف عينها، عاد ثانية لحديثه الباسم وإن ظللت وجهه غلالة من الغضب، لكن هذه المرة أكثر حماسا، بدأ يتغزل في محاسنها بكلمات الاشتهاء الصارخة،امسك يدها، مرر شفتيه فوقها، سرت مع أنفاسه قشعريرة اختزت لها في تهالك،هزت رأسها بقوة لتسترجع تماسكها، لكن قواها خارت ثانية لم تطق لمسات يده المتسللة تغزو ثمار جسدها، انتفضت فجأة من غيبوبتها همت منتصبة تلملم خصلات شعرها، لا تعلم كم مضى من الوقت وهما على هذه الحالة، عاجلتها ذكرى الأمس تنز بالتعاسة والخذلان، حاول تهدئتها لكنه فشل، انفلتت في جنون لتغادر المكان

في غرفتها، خانتها دموعها تساقطت في حرقة،بكت وكأنها لم تبك من قبل،هي وإن كانت قد احبته، لكنها ليست رخيصة، يتم تسويقها بهذا الدعاية والوضيعة، رفضت التنازل عن كبرائها، وفي الصباح خايلها وجه صاحبها، لكنه بدى جادا منقبض الأسارير رمته بنظرة تنضح الألم، لحظات واقبل ناحيته، يقول في إيجاز :” لا زلت على عهدي “، انتصبت قامتها، تزايل وجهها ابتسامة باهتة، لترد عليه في حسم :” وأنا قبلت “.

**

ومن الحب ما فشل

تعجبني روحه الحلوة المحبة للجمال، المتتبعة للطافة، المحررة بعض الشيء من قيود العادة الخانقة، بنفس رضية ينطلق نحو الحسن، لا اعرف سبب تعطشه المحموم ؛ لتعقب الجميلات بهذا العزم،ولا متى سلك طريقه الوعر، لا بتغير طبعه، حتى وإن بدى في أسمال فقره، تكسو الفاقة معاشه،ينبئك وجهه الطافح بالرغبة، المملوء بالنشوة، أن صاحبه داهية عظمى في فنون الحب وأحابيل الغرام، لا يمل جلساؤه أحاديثه الخادشة، فهو لا يتورع عن إبداء شغفه بالنساء في صبوة فاضحة، يصف انحناءات الجسد فيحسن الوصف، ويعدد مزايا كل عضو فلا يخيب وصفه، يدلي كمجرب عتيق بدلوه، يعدد المزايا ويسرد العيوب، البياض والسواد، السمن والنحافة،يهتف في خشوع برأيه وكأنه راهب قديم، يرتل تعويذة معبوده، يرن صوته بصدى لازج، تصافحه الوجوه في اشتياق لا يرد، تستأنس لكلامه الموصول بخيط من الدعابة أحيانا، يعرفونه عنه نهمه في نبش بيوت القرية بيتا بيتا، يبقر بطونها، يتعقب الفتنة النائمة خلف الحيطان، كصائد كنوز محترف، وما بين لهفة وتمنع يختلف الناس إليه ؛ يقضون شطرا من فراغهم، حتى وإن اظهروا زورا وبهتانا، تحفظهم المصطنع لأحاديثه المنفلتة، لكن في  صدر كل واحد منهم ذئب خبيث، مراهق، يسيل لعابه في نهم مع نسمات الجنس اللطيف، اتفقوا على أنه ثعبان خبيث، لا يستأمن على عرض، ولا يصون العيش والملح، ولا يقدر للأصول حقها.

لكن رأي الناس فيه لا يعنيه، وكلامهم لا يحله عن تعلقه، بل يثير شهيته  أكثر ؛لأن يتجاوز المدى في عنفوان مخيف، نفض أهله أيديهم منه، قالوا ليس منا، ولا نعبأ لأمره، لكن بقية وجدت فيه مرادها،بعد ان أصبحت مغامراته النسائية، شمعة مضيئة يخشى عليها أن تذوب، تقول ” عبلة ” بائعة الملوحة، وبريق أخاذ يشع من عينيها الولهة :” مدكور ذيله نجس، لكنه مثل الطير، حر طليق، هو كنور الصبح يتسلل للدنيا دون إذن، كالسم والمصل “، في مرات كثرة يحكم قناع الغرور  حول وجهه النحيف، يمصمص بشفتيه، تبك الغريزة منه،يغيب في أنفاس الدخان وبرد الراحة ينساب في قسماته المتصلبة، يعمل فيها فتتراخي، يغالب نزعات الفحيح اللاهث المتصاعد في نبراته، يهتز في نشوة عارمة كمبتهل، يغمض عينيه المنداة  برشح خفيف، يميل بجسده الناحل، يزعم في تفاخر، بأن علاقة ملتهبة نشبت مؤخرا بينه وبين جنية من بنات الإنس، تعلق بها بعد اتصال هاتفي خاطئ، تدفق منه تيار عشقها وتسللت لقلبه،  سحره صوتها الأنثوي المشعشع بالغواية، هو دليل يقطع به، على أن صاحبته مهر جامح، تتعالى أيمانه في ثقة وهو يقول :” اتصل بها في جوف الليل، لا أمل ابتسامتها المتراقصة كنسمات الصبح الطرية، حاولت مرارا انتزاع موعدا  لكنها تتمنع ابنة الأبالسة، تتعلل بأنها تخشى تهوري، ألقيت  من حولها شباكي، قريبا ستسقط السمكة “، ليغيم وجهه في ضحكة مشروخة، يغالبها سعال رطب يغالب أنفاسه المتلاحقة في حشرجة، يهدأ قليلا ريثما تلمع اساريره بالرضا والاطمئنان، أصبح حديث محظيته الجديدة  لا يخل منه مجلس، حتى هؤلاء الذين افترشوا جذع التوتة، عجائز لفظتهم الحقول لتهالك صحتهم وانتهاء صلاحيتهم، جذبهم حديثه المسلي، أثار في بعضهم صبابة من طيش قديم، تتعالى النكات، تسفه طيشه، وتهون من جمال الحبيبة المجهولة، فقد يجره السراب لما لا تحمد عقباه، لكن مظاهر التأثر  تغلف وجهه النحاسي، تكذب زعمهم، وترد حسدهم، يقول في ارتياح :” الأذن تعشق قبل القلب أحيانا، أنا لا أكذب ظني أبدا “، لم يعهد على مثل حاله من قبل، فأحاديث صيده الجديد لا تبرد، لم يعهد مثل هذا الحب الذي تلف قلبه،أصبح نهبا للأحلام الوردية التي يؤملها منذ تكاشفا، يقضي سواد ليله في أحاديث العشق الموصول، انهكه السهر، وانحرفت صحته، بدى مؤخرا هزيلا مصفرا، منهوك الوجه  كغصن ذابل، انقطع تدريجيا عن مجالسة القوم،فإذا تواجد فوجود والعدم سواء، يسبح في هدوء خامل.

مؤخرا أصابه الخبل، قوي قلبه فامتدت يده لمؤون البيت، باع أردبا من القمح ” لعويس الدكر ” شكته زوجته لخاله، ذهبت إليه ذات ضحى تجر أولادها في مزقهم البالية، أبدى الشيخ تأسفه، تعلم يقينا بأنه قد تبرأ منه، لكنه لم تجد قلبا يتسع لشكواها غيره،يهتف الرجل بنبرة يخنقها الدمع لحال الصغار، تتوالى كلماتها المحمومة تفضح رعونته، وتسفه طيشه، وتبدى اهماله أولاده وتعديه على قوتهم، كيف أن الجوع عض صغيرهم، وأضعف كبيرهم، تكفكف دمعها السخين،  تذيع عليه وهي تنهنه، تنتح عن عينيها الدمع،  تعدد مخازيه،كيف هجر المتلاف عمله،وتفرغ لعربدته، يحوقل الشيخ والغضب ينضح منه،لكنه في الأخير يقطع صوته الجهوري وصلة الشكاية، يغيم في انزعاج؛ فيأمر على الفور أحد أبنائه ؛ أن يحمل للمسكينة ما يكفيها وأبنائها من الغلال، ثم يدس يده في محفظته المنتفخة بالنقد، فينفحها ورقة منها، تخبئها في صدرها، لتهجم على يده تقبلها في خشوع.

 في صباح مشمس اجترأت شمسه وحمي ردائه، بدى مجنونا على غير مألوفه، واصل الحديث عنها في ثورة عارمة، يغالب فورة في عواطفه، قال في جدية :” غدا اسافر للقاهرة، سنلتقي هناك، سأصحبها إلى شقتها، لنقضي أشهى اللحظات “، هز رأسه الدقيق في طرب، قد كست وجهه ضحكة طفولية، كان عليه أن يدبر مصاريف الطريق، جنيهات تلزمه في مغامرته التي قد تستغرق أسبوعا، كلما اقتربت الساعات يتعاظم بداخله شعوره الملتهب  بالفقد والاحتياج كمراهق غرير، لا يقدر على كبح عاطفته، هداه تفكيره أخيرا لأن يبيع حماره الوحيد، قال بصوت مرتعش :” الحمار يمكن أن يعوض، أما سميرة، فإن ذهب فلن تعود “، باعه بثمن بخس جنيهات معدودات ” لخليفة” الحمار، ومع رغوة الفجر سلك طريقه لمحطة القطار،وأثناء  سيره اشتبك خياله بصور منوعة، افترضها للقائه المزعوم والحسناء المنتظرة، يتقافز في عينيه السرور، يتمنى لو يطوى الطريق طيا، فيلقي بجسده المجهد بين يديها،ابتلع ابتسامة لم تكتمل، ليتأتى صوتها من بعيد يرن في خياله بالطمأنينة، لوعود كانت قد قطعتها على نفسها، تحمل الرغبة والاشتياق للحبيب المحروم، كفيلة لأن تنسيه بقية النساء،اقتربت ساعة اللقاء، هبط أخيرا محطة مصر، توجه من فوره لعربة الفول، لم يأكل منذ الأمس، اتصل بها يخبرها بوصوله، ردت عليه مطمئنة، إنها على بعد أمتار منه، تنفس أخيرا الصعداء، طلب منها أن تعلن عن نفسها وسط الزحام، فستان أحمر، ولفافة صفراء حول العنق، ويد مسرعة تلوح إلى جوار محل الهاتف،تأتى صوتها، تجعر قائلة :” أنا هنا هل تراني، أين أنت ؟!” تجمد في مكانها،والشرر يقدح من عينيه،تشكلت ودموع الخيبة بين أهدابه،صمت طويلا وكأنه يحتضر، وفي المقابل ظلت تردد في حيرة :” ألووو…أين أنت، لماذا تصمت هل تسمعني؟!”، شيعها من بعيد بنظرة هشة، ملئت بالكآبة، حفرت عليها تعابير عنيفة، لم تكن صاحبة الصوت حسناء كما توهم،ولم تكن أنوثتها ملتهبة ما زعمت،  بل فتاة شوهاء، غيب معالم وجهها طلاء فاقع  من الأصباغ، صورة قبيحة ركبت في جسد نحيل  ضامر،أغلق هاتفه، جلس منكسرا يجتر أحزانه فوق الرصيف،أسند رأسه بين كفيه في انهيار،تطوقه أنظار المارة، قبل أن يطلق ضحكة عالية مجلجلة، يغالب غضة في حلقه بدأ يستشعر مرارتها، مضى الوقت كئيبا بطيئا، بدى كشجرة عجوز تهدلت فروعها،وتآكلت جذورها،ولفح الهواء أوراقها،تبخرت في لحظة أمانيه، كربان تحطمت سفينته،شعر بوخز الأسئلة تنخر رأسه، تنعق في تبجح كالبوم  :” كيف انجذب لهذه  الملعونة ـ ووقع في حبائلها بتلك السهولة وهو الخبير المجرب ؟!”، رماها  بصبابة أخيرة من عينيه،أغرق بها وجهها، وكأنه يوبخها، بل يوبخ طيشه، بدت الحمزة تزحف في وجهه المتوثب للحزن، لكنه لم يستسلم، نفض ملابسه بقوة، وألقى بنفسه في أول سيارة عائدة للبلد،كان النسيم المحمل برائحة الحقول، وهي تنفض عنها غلالة الندى، يرتعش رعشة خفيفة، مشى على الجسر يحمل بين ذراعيه بطيخة كبيرة،وبعض المشهيات التي يألفها الصغار، كان وحيدا في هاته الساعة من عمر النهار الوليد، حمد الله أن القرية لا تزال تحت غطاء النوم،طرق الباب برفق، وهمس بصوت خافت، انفلتت المرأة في تلهف، تطمئن عليه، تحمد الله أن جاء سالما، همس إليها بصوت كما المخمل، بعد لأي ابتلعتهما غرفة في آخر البيت، في تلك اللحظات ساد الهدوء، لا يجرح صوت المكان سوى زقزقة العصافير، وحداة قريبة تنتظر فوق الجدار القديم في ترقب، تلقي بنظرة جائعة، إلى قفص الجريد الممتلئ بالكتاكيت الصغيرة.

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

يوم الأحد