ثلاث قصص عن الآباء وواحدة بدأت بقِط فوقعت أيضًا في حِجر الآباء

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مالك رابح

أغنية حب

يُناسب أبي أن يكون نبيًا من العهد القديم؛ في المساءات مفرطة الحلاوة يحذرنا مما ستفعله الدنيا بعد موته (سنكون بُندقًا والحياةُ كسّارته) إذا مزحت معه لا يبتسم، إذا ضحكت أختي نظر إليها شذرًا وإذا رقصت ضربها، إذا لعبنا في الحديقة جرى يسُبنا، إذا دعونا أحدًا إلى المنزل لعننا أمامه والخطيئة الأعظم أن نثق في الجنس البشرى.

سهرتُ ليلة لمُشاهدة العراب فقيدني بسلك معدني ورماني في المرآب، رُبما فعل الشئ نفسه إذا كان غاضبًا وأصدرتُ صوتًا وأنا أشرب الماء. مرةً، طلبنا منه أن يبتسم إلى الكاميرا فاكتشفنا أنه لم يعُد يستطيع. لم نرجع لطلب ذلك منه أبدًا.

أحيانًا يضربُ أمي حتى يتغير لون جلدها، فقط لأنها أخطأت أثناء كي القميص أو أحرقت قطعة اللحم الخاصة به. وهو يخنق رقبتها في إحدى المرّات قذفته بزجاجة مياه غازية فارغة فوغّل وجهي فى البلاط. عندما أفقت، لم أنتبه إلى أنّي قد فقدتُ الرؤية بعينى اليُمنى لأنه كان يبكي.

لا زلتُ أتذكر هذه. لا زلتُ أتذكر هذه.

 

الچاكيت

أوقظنا أبي من نومنا. أوقفنا طابورًا في غرفة المعيشة ونحت أجسادنا بصراخه. وجهه أحمر وشنبه في غير محله يصيب غبار الحجرة بالذعر ووجوهنا. غادر الغرفة وعاد، توقف على مسافة مناسبة ونظر إلينا عبر ثقب في مقدمة الچاكيت.

صفقة جيدة صفقة رابحة، اعتاد أبي أن يقول وهو يضع الچاكيت على المشجب قبل أن يشرع فى عمل قائمة صغيرة بالمزايا؛ فبجانب صلاحيته لكل فصول السنة وملاءمته لكل الچينز والأحذية الملونة فإنه لا ينكمش من كثرة الغسل ولا يحتاج لفرد ثنيات، فوق ذلك فهو محصن ضد البقع، لا تحرقه النيران ولا يستطيع المطر العبث به. صفقة رابحة، يكرر أبي وهو يمسحه بالفرشاة، لم يكن يتخيل أنها تنتظره في سوق الملابس المستعملة.

كان يضع إصبعين من يمناه بين الخيوط المهترئة ويدوّرهما. النظر عبر ثقب يرتبط باكتشاف ما وهو ظلّ يوسّع بإصبعيه الثقب ينتظر تفسيرًا.

كنت أسرق الچاكيت وأخرج به في أثناء قيلولاته الطويلة؛ قبل يومين أفلتُّه من على المشجب ولبسته على تيشيرت أبيض وچينز بلون صباح النيل. مشيتُ في الشوارع الخلفية للمدينة وقابلت صديقًا قديمًا عائدًا من الجندية، قلت ربما ثقب حينها في غفلة منّي.

وقال أخي الصغير وأصابعه ترتعش أمام وجهه أنه كان يرتدي الچاكيت في أثناء تدخينه السيجارات الرخيصة أو مشاهدة الأفلام الإباحية. كزّ أبي على أسنانه فقالت أختي الكبرى أنها لبسته في موعِد مُخيب للآمال منذ أسبوع، هناك اندلقت قهوة بالحليب على طرفه أمضت ليلة كاملة فى مسح أثرها. التفت أبي إليها فقالت أختي الصغرى مختبئة في انبعاج في السجادة أنها كانت أيضًا ترتديه حين تزور أو تزورها صديقاتها. تهاوى أبي على الأريكة ورأسه بين يديه.

أمي قالت أنها أيضًا تلبسه متى استطاعت، بلا سبب. غرق أبي في يديه، كان الچاكيت فى حجره وساقاه تهتزان، فكّرت أنه سيقول خطبة ما، لم يقل شيئًا. وضع صفقته الرابحة على مسند الأريكة وانسحب إلى غرفته.

في الصباح، اكتشفنا أنه قد أخذ أشياءه وغادرنا إلى الأبد، تاركًا خوفه، يهتز مع قفل الأبواب ووخم الظهيرة، على مسند الأريكة، خوف عجائز تتساقط من على فرع يابس ملول في برد الشتاء بسبب نسمة لا تقدر أن تهز لهبًا أو من سأم عشاءات أخيرة وحياكة وداعات مناسبة.

اتفقنا بعد تفكير على مشاركة الچاكيت بيننا. مَرة في الأسبوع لكل واحد، على أن يُترك بلا لمس على مسند الأريكة في نهاية الأسبوع والعطلات. البيع في سوق الملابس المستعملة، الركن في الدولاب أو الرمي في سلة المهملات كلها كانت خيارات موضوعة على الطاولة لكن أحدًا منّا لم يفكر فيها بجدية. لم نكن نمتلك سيطرة على الأمر، كان الچاكيت هو الشئ الوحيد الباقى لنا من رائحة أبي.

 

سمك غريب

أعدَت أمي النوع نفسه من السمك. مرة تلو أخرى، لم تجلب سواه إلى الطاولة كأن أحدًا لم يخبرها بوجود أسماك أخرى في الماء أو كأنها أرادت أن توجه جريمتها إلى نوع واحد فقط.

في وعاء على الحوض، خلع الأموات لباس التجمد في الليلة السابقة، بينما الأقدام الساهرة تلمست البلاط لصنع القهوة، في الظلام، بالطبع، لأنه سيأتي يومٌ على السمك ويقرأ قصص ماركيز فيعرف أن الضوء مثل الماء.

اليوم، نائمة على فراش من البقدونس في الطبق وبمعاطف من قشور لوَّحها الزيت، لا تزال قادرة على إطلاق فقاعات في الهواء، على الرغم من أن وجوهها، التي تشبه وجه أبي، ليست هناك.

 

كيف دخل اللصوص إلى غرفة المعيشة؟

سربت أمي القط ثم قالت أنه مات.

لم أكن أعرف شيئًا عن الموت. أمام أسئلتي الكثيرة أدركت خطأها فعدّلت المسار. أخبرتني أنه ذهب ليعيش عند العم ك في المدينة. بعد يومين، حينما وجدته نائمًا على السجادة الصغيرة أمام الشقة متعبًا لدرجة أنه لم يعبأ بفرحتي الخانقة، كزّت أمي على أسنانها قائلة أني تأخرت على المدرسة.

عندما ماتت جدتي فكرت أنها ذهبت لتعيش مع أحدهم وإذا عاد القط إلى البيت من عند العم ك فإن جدتي ستعود من عند العمة ف.

حتى لا تضطر إلى الانتظار صرت أفتح باب الشقة في الليل.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال