نور الدين كويحيا
الموت فن
ازرعوني قبراً،
هذه حياتي المريرة
وهذه يدي الشَّائكة
هاتان عيناي الشاخصتان
وهذه قُبعتي التي لا تفضي إلى سماءٍ،
ولا أرانب تتساقط منها كالمطر.
ازرعوني قبراً،
ورخامي الأبيضُ دعوا الأيام
تتكلَّس فوقه.. تراباً
وحين ييبس الزّرع فوقي
لا حاجة لي بالسُّقيا
سأنتظر كولدٍ مطيع أن تجود علي السّماء
كما انتظرت طوال حياتي حكمة النِّهايات.
بينما ألفظُ أنفاسي الأخيرةَ
اغمضوا عينيَّ
فالعتمة مؤلمة
والضوء متعبٌ إن كان ضوء النّهاية.
ازرعوني قبراً،
آلفت العتمةَ
أسماء الأشياء بعد نهايتها
ألوان السراب إذ لا يرى
أشكالُ الحزن
وصور الوحدة.
ازرعوني قبراً،
مدّدوا حوافهُ لأقصى ما تستطيعون
قد مللت من ضيق الإطارات
ضعوا جانبه ساقيةً
تُنجي الطّير من لحظاتِ العطشِ الأخيرة.
وعلى بُعد خطواتٍ منه،
ابنوا حديقةً.. أو إن أمكن مكتبةً عمومية
أريد لمن يأتي
أن يقرأني روايةً أو ديواناً شعرياً
ألا يذهب وقد كست عيناهُ حمرةُ الدّمع
أن يذهب وهو ٱخذٌ معه حصته من الدّهشة…
ارزعوني قبراً،
وفي شاهدتي البيضاء
تذكروا أن تكتبوا اسمي؛
هذا الاسمُ الذي لم يُحسن أحدٌ نطقه
وكم يشبهني في هذا:
إسمٌ مُستعصي تماماً كصاحبه.
ولو أمكن ضعوا اقتباساً لسيلفيا بلاث
ذلك الذي يقول:
الموتُ فنٌ ككل شيءٍ آخر وإني أتقنه تماماً.
*
لا صدى لكم.. لا مرايا
لم يكن الصَّدى مرآتنا،
حين تُهنا في صحاري الصمت.
كنَّا،
كلما شعرنا بشيءٍ من الوحدة
كلما أضجرنا الهدوءُ الذي يلملم
قمحه الغضّ من حقولنا،
قلنا: هاتِ يدك أيتها المسافةُ
سنعبر من خطٍ يقطع الطين نصفين
وحين نصل حافةَ الأشياء سنعوي
كذئابٍ تُركت متوحدةً مع خطياها.
لم يزرعنا الأهلُ في صور العائلة،
ولم يقولوا لنا قطفناكم من ربيعٍ بعيد
بل كلما حدقوا بتمعنٍ في عيوننا
أشادوا أن الهزيمة منذ البدء
تتقطَّر منهما…
آمنَّا بالمسافات
وبالحلمِ الذي لا يتحقق،
وحين نبلغ منتهى كل الطرق
نقف ونتأمل المدى
نصلي بخفوت؛
وفي دواخلنا يردد صوتٌ:
مهما صلَّيتم.. لن تبلغوه.
ازيلوا أحذيتكم الوعرة،
وتوهوا في الصَّمت
لا صدى لكم،
لا مرايا.
كنَّا بلا نجمةٍ تدلنا إذ نضيع،
كنَّا بلا أمل إذ يحط البؤس
برحالهِ في عتمةِ قلوبنا…
بكينا.. وبكينا…
وقالوا: البُكاء مهنتكم الوحيدة
البُكاء صوتكم المؤجل في السّراب.
هكذا،
هكذا دائماً نُمضي أعمارنا
وحين يطرق الموت
بيده الخشنة أبواب الروح،
نهبُّ من بعيدٍ كحشراتٍ تستجيبُ
للمعةِ الضياء.
*
نطفة ماء
بعضُ وجعٍ وكفى. والقيظُ الأحمرُ خيطُ دمٍ في كفي، وسلاسة الأنهارِ التي لم تنتهِ إلى شلال، ولم ترفعها مناقيرُ العصافير؛ ها هي ذي تحوم حول خاصرةِ الشِّعر، تُنكّس راياتِ المجاز، وتُردد على مسمعِ الأغنيات جفاء نشازها.
كلما جِئنا إلى القصيدة، ينكسرُ في حضننا غصن ثورةٍ، وكلما ركضنا على حوافِ الوجعِ الأسمر تعالت أصواتٌ من بعيد: لستم من هنا. هذه الصحراء لا تخصكم. هذا الرّمل الذي يجذب الموج إلى أقاصي شتاتهِ لن تدوسوه بأقدامكم. صدّقنا، صدقنا ما قيل، والتفتنا نحو كذباتنا.. مضينا مُترعين بماءِ الموجِ الشّفيف، وبِزرقةٍ مازالت بنفس اللّوعةَ تموج في أعيننا. إلى أين ننتمي إذن؟ وكل الجهاتِ تنبؤٌ بالسّراب. كل الأيامِ مسافاتٌ نقطعها نحو طيفنا الأوحد، نعبرُ من خلاله، مدركين أن أجسادنا هي الأخرى مدمَّاةٌ بالتّلاشي.
قالوا: إن لم تفروا من هروب الرِّيح، سنقتنص خوفكم ببنادق من خشب. قالوا: إن لم تجمعوا دموعكم من عتباتنا سنطلقُ كلاب وحدتنا المسعورة نحو قلوبكم الغضَّةِ كالبتلات، إن لم ترحلوا بقعاً عن سقف البيت، ناراً عن غصة الحطب، ملحاً عن ورد الشرفات.. حتماً ستنام هذه الرَّصاصاتُ في صدوركم؛ كهزيمةٍ أخيرة.
لملمنا كل ما يخصنا، نهبنا صور القدماء، لأننا آمن بأن وجوهنا وإن كانت ذاكرةً للانتحارات فلها انتماءٌ إلى من كانوا هنا وامَّحوا.
بلغنا منبت السّيل. قلنا: من هنا انطلقت مأساتهم، من هنا انطلق النّهر الذي يُبدي لأعينهم وجوهاً تشبه صور أجدادهم. أخذنا معولاً، حفرنا عميقاً، حتى وصلنا إلى النُّطفةِ؛ نطفة ماءٍ، قبضنا عليها.. أحلناها دمعاً، وككل الأجداد اليابسين، دفناها في عيوننا، قائلين برجفةِ الرّعد: صار لنا انتماءٌ، وها نحن على مقربةٍ من عتبة السُلالة، سُلالتنا. فكل سلالةٍ تبتدأ بالدّمع وتنقله من عينٍ إلى عين كاضطراب وراثي؛ كل سلالةٍ لا حزن متوارث فيها.. تنتهي شلالاً، قطرةَ ماءٍ في مناقيرِ العصافير، بُقعةً في سقف البيت، ناراً في غصَّةِ الحطب، ملحاً في ورد الشرفات، جثةً برصاصةٍ مغروسةٍ في صدرها.
آمنّا بحزنِ السلالة، نفضنا سجائر سعادتنا.. ومُتنا بأسماءٍ محفورةٍ في حَشدٍ من الشَّواهد.