قصائد من “ذاكرة بيضاء”*    

مؤمن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تحكي الأحجارُ في صندوقها كي لا تموت

يحبون الجلوسَ على سلالم البيوت وسلالم الساحات وسلالم المترو.. ثم يملكون فلسفةً لهذا الأمر.. يقولون إن السلالم أقدامُ طيورٍ تجمدت، كانت تضحك ثم مرت غيمات و غيمات فوق رأسها، فأخذ وجهها في التجهم حتى التقطَ القَدَرُ اللقطةَ هكذا.. إذن كان دورهم أن ينظر كل واحدٍ في قلب الآخر ثم يضحك، يضحكُ بعمق، إذ ربما تصحو مظلةٌ من ذاكرة إحدى البيوت وتحوشُ المطرَ من غير أن تنجرح كبرياء الدَرَجاتِ أو تحلمَ بأن تتوالى بلا نهاية.. أو ربما يفيق أسيرٌ عندما يتذكر ساقه المقطوعة التي سندوا بها الأحجار، كي تعدو الحربُ و تصعدُ وتهبط، كأنها طفلةٌ نَمَت لها جناحات..

قُبَيْل الفضيحة

بجوار ظلالنا، كانت تتمشى شحاذةٌ عجوزْ، يسحبها عُكَّازها الذي هو في المساء حبيبها وفي الصباح عيونها المتقدة.. صحوتُ اليوم مستثاراً بعد أن حلمتُ أني أطيرُ معها من النافذة.. انتظرتها و قلت لها إني حزين يا أمنا وخائفٌ من أطفالي وبلاط الغرفة و نظارتي.. أخبرتها كيف سافرتُ فجأةً ونسيتُ جسدي جوار النافذة التي في حافلة العودةِ و كيف تغيم عيوني كلما فكرت في شهقة أبي رغم أن الذي قتله ربه بينما كنا غائبين.. قلت كثيراً وحكيت وغنيت والشحاذة تسمعُ و تضحك و تبكي و تحلق.. قالت أنت جميلٌ لأنك كاذبٌ مثل هذه الدنيا.. أنت قريبٌ أيضاً، لأنك شبحٌ ولأنك في هذه الليلةِ الباردةِ هواءٌ دافئٌ.. هل تعلم أن يدي اليمنى تأخذ نقودكم وتطبخها في قِدري الضخم فتتمشى في عظامي روائحكم وأسراركم.. و أنَّ فمي لا يأكل ولا يشرب منذ سنوات، وعيوني لا ترى سواكم ولا تتنفس أنفي إلا من رئاتكم الغامقة.. حتى مرت الأزمان كلها على دخولي تحت جلودكم ورقودي و ملَّتنا اللعبة في النهاية.. إذن لا بد و أن تفكروا من الآن، في اليوم الذي سأختفي فيه من هذا الشارع وأظهر في شارع بعيد.. ساعتها ستحسون بوطأة الصقيع وتفهمون سر أحضان زوجاتكم المليئة بالديدان.. ستعدو من أمام أعينكم كل الأذرع التي ارتعشت في الصور والرؤوس التي اقتربت من البحر لتلهو فالتقطها السِرُّ.. حتى الغول الذي كان حبلاً رفيعاً وهو صغير، سيهربُ وهو يملأ بظهره الضخم جدران الحكاية.. كلما تذكرونني أختفي.. و يوم تنسونَ.. تضيئون..

صَفيرٌ يفضل بصدقٍ، ألا يتوقف

..وأخيراً رجعتَ من عِندها أيها القطار.. ماذا قالت وهي تودعك.. كم مرةً نَطَقت باسمي و هل كانت عيونها تلمع.. هل كانت الحروف ترتعش أم كانت عروقها كالأحجار.. و كل هذه الأشباح التي تحرك أحداقها داخلك، هل انتبَهَت للأمر أم أن الدراما التي تسعى كالحية بين المقاعد اقتَنَصَتْها.. ألن تخبرني يا أخي بأي شيء.. ألن توقف حتى صفيركَ الطويل الحزينَ الذي يجعلني أُجَنُّ.. ثم.. قل لي بصراحة.. هل كان باب مقبرتها مفتوحاً أم موارباً فقط؟

كَفٌّ تسبَحُ وحدها و تصيرُ فنانةً

كنتُ أتوقُ لسيجارةٍ لكنها كانت لا تريد، تقول حريقكَ صار قديماً، عجوزاً كأنهُ ماءٌ يخدعنا بالوَهَج.. هي لا تدرك أنني كنتُ أحلم بقاربٍ ينجيني من حصار عينيْ حبيبتي، القادر الذي جعل تنفسي ملتاثاً ويديَّ ترتعشان وهي تسلم الذكريات للحارس.. كنتُ أودُّ أن أُمَرِّرَ الأمرَ للسيجارةِ وأرتدي شجاعةً بألوانٍ زاهية، فيلتقطها البحرُ ويتركني أَمُرُّ.. كنا وسط الحربِ، و القائدُ  لم يسمَح إلا بمذبحةٍ صغيرةٍ ونحتاً خفيفاً على بطن الكف..

شقوقُ الحكايات

أشعلتُ سيجارتي فانطلق سربُ اليمام من الشقوق.. استيقظي يا أمي و أخبريني: متى قَرَّرَتْ الجذوةُ أن تَطِيرَ من قلبي وتَدُكَّ الطريق القديم للسماء؟ كلما هربتُ إلى السطوح يَظْهرُ ما يخبئهُ جنبي من ريشٍ وأعودُ إلهاً تملأ مكائده المدينة حتى يمرَّ دهرٌ ودهرٌ وينضُجَ الثوارُ ويمحونهُ من الذاكرة.. لكنني بعدما أسقطُ في دوامتي كالحَجَر أرى الأمور بشكل بسيط و جميل.. فأجهِّزَ سُمَّاً وأضعهُ في الطعام وأتركه يختمر.. الحل في هذا السديم إذن أن تظهر حبيبةٌ في الحكاية.. تُحَوِّلُ الرمادَ الأسودَ أشجاراً تبتسمُ وتفوتُ علينا و تُسَلِّمُ كلما رواغَ ذاكَ القَدَرُ أو حتى تَرَكَنا وهرب..

 

في تبرير الخوفِ و الخِفَّة

عندما زارني حكيمُ القرية انتهَزْتُ الفرصةَ وبَكيْتُ فقال إذن حان وقتكَ لتَعْلَم.. تهتُ قليلاً ثم أدركتُ أخيراً سر أنياب الشتاء التي تغزوني حتى في جهنم.. و كذا تلك الجدران العالية التي تصحو وتتثاءبُ كلما فتحتُ عَيْنَيَّ أو نسيتهما حتى.. السببُ كما رأى قلبي، أن كل الذين لضموا حياتهم معي وشطروا جسدي كالسِكِّين، طاروا في صباحٍ غامض.. و أن الذين زينوا جثتي بشرائطَ ملونةٍ، رحلوا كالنور.. لهذا صرتُ عارياً.. بلا ذكرياتٍ حيةٍ ولا أشواقَ و لا ضغينة.. فقط رياحٌ تُصَفِّرُ و تُصَفِّرُ وأنا أسيرُ في الشوارعِ غريباً، مرتاباً.. بلا روحٍ عفيَّةٍ أسنِدُ عليها رُكبتَيَّ ..     

ولا  ظِل..

ملوكُ الصناديق

كانت روحُ أبي تخرج من صندوقها لتزور السوق القديم، تصطادُ الخُبثَ من ضحكات العجائز وتُضيِّق ما بين حاجبيها و تتنهد.. تنطُّ في الأجولةِ و في حكايات اللصوصِ و الهارباتِ و حتى مواعيد الفيضان و رفرفة الحربِ في القلوب.. روح أبي التي كانت تُخرج لنا من جرابها أبواباً مسحورةً تضحكُ كلما صرخنا من التنينِ الذي يكحت الملامح.. ملامحنا التي اختارها أبي برويةِ راهبٍ راسخٍ فوق الجبال.. هذه الروحُ صخرةٌ، مسنونةٌ كأنها ماءُ بحرٍ ملتاث.. حيةٌ لها أجنحةٌ   و حبالٌ تشدُّ نظرتنا لحد المنتهى.. هذه الجافةُ كلما هدأ الليلُ أو عادَ كأهلهِ مسكيناً، تشبهُ غَيْمَاتٍ وعواصف ضالةً وعمياءْ.. كلما نبتت شجرة في الفِناء  الخلفيِّ، أو دقت ذكرى على شُبَّاكنا لتملأ جرة الماءِ، تشدُّ هي من الغابة ناراً وتفرُّ بها من الحنين.. هي روحٌ شكاكةٌ في الجانب الأعم، تظن أن الله ما أعادنا إلا لنَزُقَّها في الصندوق.. كأنها لا ترانا ونحن نغمض عيوننا، ونقول كل فجرٍ جبَّارٍ أوحشتَنَا يا أبي.. كأنها لا تراقبُ زفراتنا وهي تُحَلِّق في سماء الغرفة لترضى علينا روح أمي و تهمس من قلبها سأخرج الآن من صندوقي، بلا عصا لها زوائد تخدش لحمي و ترسم أسواقاً بعَظْمي و حوائطَ و متاهاتٍ ملونةٍ.. تقولُ، هذا بيتي الجميل، الذي تمرُّ عليه أيامٌ بحالها بلا رعشة.. و هذه أحضاني لأولادي الشجعان الذين يكبرونَ كلما تَبَخْتَرْتُ بين الممراتِ  و الظلالُ تنحني.. ثم يشكرون اللهَ لأنهُ أرسل فيهم مَلِكَةً مهيبةً.. يصيحُ ديكها في كلِ الحكايات..

حلمٌ غريبٌ عن الناحية

ليلة أمس، أمسكتُ حُلمي من قرنيهِ ثم دسستهُ بين وسادتين.. كي يغطس ويلهث ولا يصل أبداً.. هذا ما نصحني به أبي لأكون جَبَلاً كَجَدِّي وأَنْتَصِرُ على أقدارِ الليل الطوَّافة.. لكنَّ المسكين عندما سيرفع عينيهِ، لن يجد إلا رأسي المقطوعة تحاصرها الطبول وحزن الصياد المغدور.. الفارين كلهم هنا.. تجمعوا على السفح ونادوا على المُخَلِّصين و الكهنة.. كانوا يأملون أن تراهم الشمس على القمة وتكشفهم، فيعرفون أنفسهم.. هم ذاهلون منذ زمنٍ وذاكرتهم فارغة.. الأحلام الغامضة، الغريبة عن القرى و الكتب وعن جدودها حتى.. دائماً ما تنبت لها أقدام لتتسلق أشجاراً وتعدو في الصحاري و تحفر الأصوات على الحائط.. السيقان التي تنفع أذرعاً وراياتٍ للمراكب، تُخلَقُ كذلك للهروب و تغيير دفة الأحداث ودفع المسامير في قلب البطل.. لكنَّ حلمي أعمى، لا يدركُ أن الصباح وقع عليهِ، إلا إذا ذكَّرته الريحُ بأنهُ عجوزٌ منسيٌّ بجوار حانةٍ رخيصة.. فيكتفي ساعتها بمشهدٍ بعيدٍ عن العدسة.. و يترك قصاصةً من ملابسه لتهديني حتى مُقامي الجديد..

——————————————————

(*) ديوان قيد النشر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني