ثعابين الأرشيف

ثعابين الأرشيف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناظم مهنا

منذ سنوات وأنا أتحاشى المبالغات، ولا أستخدمها لا بالمدح ولا بالذم ،ولكن مع هذه الرواية أنا مذهول ومنفعل من بدايتها حتى آخر كلمة فيها، ومن ينظر إلى صفحات النسخة التي قرأتها سيجد أن هوامشها امتلأت بالتعليقات ،ولو جمعت التعليقات التي كتبتها لاحتجت إلى عشرات الصفحات، وتستحق هذه الرواية أن تُقرأ وأن يُكتب عنها ،وقد نجح أسعد كعادته في أن يخرجنا من حيادنا البارد، وأن يذهب بنا إلى حالين متعاكسين، أى ذروة الانفعال والانتشاء وإلى قمة التأمل في الوقت نفسه.

كنت قد قرأت كل ما كتبه أسعد الجبوري من شعر ورواية ،وهو صديق قديم، وكان لي شرف كتابة مقدمة روايته الأولة ((التأليف بين طبقات الليل )) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب. وعلى أهمية ما كتب، ورغم إعجابي بخياله الغرائبي المركب، وأنا شاهد على تحوله غير المتوقع من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، إلا أنني لم آخذ كتابته على محمل الجد مثل هذه المرة ومع هذه الرواية.

إنها ملحمة روائية وفتح جديد في السرد العربي، ولا تأتي أهميتها من مضمونها وحسب، وهو غايةٌ قصوى في الجرأة والتحلي بالبصيرة الفذة والتحليل المتماسك المقنع، ولا من الحوارات الشيقة والرشيقة، ولا من الشخصيات الغرائبية والشديدة الواقعية والتي تكونت في أرحام شديدة الغرابة !ولا من هذا المزج بين التراجيدي والكوميدي، ولا من التدفق في الأحداث الواقعية والمأساوية التي تُسرد بلغة تهكمية إلى حد القسوة، ولا تأتي أهميتها أيضاً من اللغة الوقائعية والفنتازية، كما لا تأتي أهميتها من الشكل المبتكر، وإدخال أطياف جديدة من ذاكرة العقل العربي الجريح والمُقَطع على مقصلة الإرهاب، أطياف تدخل فضاء السرد الواقعي والافتراضي على شكل فواصل أو خيوط تشكل المعادل المابعد حداثوي للعصر العنكبوتي، جنون وفوضى الأرشيف، وخروج الثعابين من مخازن الذاكرة.

إن قوة هذه الرواية تتأتى من هذه العناصر مجتمعةً لتشكل التناغم السردي الذي يهبط علينا من علوّ بعد الانسياب كهدير الشلالات.

يمكن أن نتحدث كثيراً عن الشكل  المبتكر لهذه الرواية،ولكن ليس هنا المكان المناسب لذلك، وكل  عنصر من العناصر السابقة يحتاج إلى وقفة طويلة، وتحتاج هذه الرواية إلى قراءات تواكب جدتها وجرأتها.

على الرغم من أنها فاتحة روايات مناهضة للإرهاب، وهجائية كبرى لزمن الإرهاب، إلا أنها تتجاوز موضوعاتها لتكون عملاً روائياً كبيراً ذا أبعاد كونية، في زمن الفوضى وزمن الروايات السطحية والألعاب الشكلية والفهلوية. إنها ((دون كيشوت عربي جديد )) .وفي الرواية إشارة إلى رواية دون كيشوت في الصفحة (43).

يقول الراوي طارق : ((عندما وضعني أبو قعبرة على ظهرحمار في تلك الساعة من ظهيرة ذلك اليوم الصيفي الملتهب بطقسه، وقادني  مربوطاً بحبل كان يمسكهُ بيده من على عل ظهر حصانه الهزيل،ذكرّتُ نفسي بـ (( سانشو)) تابع دون كيشوت.. فها أنا وغياه كأننا سندخل معركة طواحين الهواء ..)) .

رزاية تشكل ضربة موجعة للأدب السخيف الشعبوي والاستغرابي.

لا يكترث أسعد الجبوري هنا للروايات وللحكايات الكاذبة وللاختلافت وللخدع الإعلامية، إنه يكوّن رؤيته وقراءته الخاصة كصاحب مقولة مستقلة وغير تايعة، لا تخضع للمؤثرات ولا للإغراءات : ((لم تعد تلك العقول صلبة مثل الصلصال، ربما لأن تلك المرويات ،استطاعت إلى حد ما تفكيك عناصر ذلك المخدر الذي غيّب العقول عن دورها، ليعيش الناس على هامش الحياة كمجموعات قريبة من الدواب)) -ص 86- .

هذه الرواية كتبت والإرهاب في ذروته، فكانت ضد التيار.

المكان فيها ينبثق ويتعدد مثل الفقاعات التي تحركها الثعابين التي تطوف في المستنقعات. جحور الثعابين الصحراوية تخرج من كل مكان، من الرقة والأنبار والطوف.والزمن هو زمن الظلام الوهابي، والصحراء المجازية ليست فقط الخارطة العربية ،بل الجسد العربي أيضاً ،وقد تحول إلى صحراء ثانية!

ألم نُشر إلى أنها رواية هجائية ؟!

لقد قرأت رواية أسعد منذ صدورها، انتظرت حتى يخفت انفعالي الأول بها،وها أنا أعود بعد هذه الفترة التي تكفي لتبريد الانفعال، ولكن غلبت على دهشتي، وترك العمل الرائع أثره علىّ، وربما لا أستطيع التخلص منه بسهولة.إنني أرجو أن تقرأ هذه الرواية، وتنشر على نطاق ،وتنال ما تستحق من الاهتمام.

مقالات من نفس القسم