الصورة الكلية والإغلاق المعكوس في أسلوبية “لحظات هاربة” لمحمد شيا
الفلسفة وسيلةً لتحقق الجمالية الشعرية
د. حمزة قناوي
يعرّف (جورج مولينيه) الأسلوب بأنه: «طريقة متميزة وفريدة وخاصة بكاتب معين.»[[1]]، وبالنظر من منطلق هذا التعبير إلى «أسلوب» (د.محمد شيا)، نجد أنه يرسم صورته بطريقة التشكيل الكلي، وكأن القصيدة بالأساس مقالٌ فلسفي، تمت إعادة صياغته بنحو من مخاطبة الأحاسيس والمشاعر والانفعال، فيبدأ القصيدة بمقدمة افتراضية خيالية، تدخل القارئ في حالة موازية مهيأة لتلقي الموضوع الذي يرغب في طرحه، ثم في ثنايا القصيدة يقدم الموضوع الذي يرغب في التركيز عليه، ثم تأتي خاتمة الصورة الكلية بختام القصيدة عن طريق نهايةٍ تقوم بإغلاق هذه الصورة، وتكثيفها في ذهن المتلقي، هنا نجد الأجداد الذين أخذوا نعمة البعث من الموت، وصاروا أحياء بين ظهرانينا، وليس من بعد ذلك نعمة، إذ بهم من شدة سوء الواقع الذي شاهدوه، يفضلون العودة مرة أخرى إلى السموات، رافضين العيش في هذه الحياة التي نحياها، تأمل قوله:
لو عاد/ من رحلوا/ وشاهدونا/ نخون/ ماضينا،/ والذي كان!/ لكانوا/ اختاروا/ أن يبقوا،/ أسرى السماوات،/ لا أسرى/ دنيانا! [ص38]
يبدو أن هذا الأسلوب الذي اكتشفه الشاعر الفيلسوف (د.محمد شيا) في ثنايا قصيدته، قد أصبح أسلوبه الأثير لمناقشة القضايا التي يرغب في طرحها، ففكرة الصورة الكلية، والإغلاق المقلوب بخلاف ما بدأ منه، وهو ما يذكرنا بالتقنية البلاغية القديمة المعروفة برد العجز على الصدر[[2]]، ولكننا هنا في حالة قلب العجز على الصدر، فليس هنا عودة لما تم البدء منه، وإنما العودة ونفي هذه النقطة التي بدأ منها.
وما يدل على اكتشاف عميد الجامعة اللبنانية أسلوبه الخاص، وأنه أوجد طريقة لتقديم الصورة الكلية صالحة لمناقشة قضايا صعبة، لم نكن لنظن أنه يمكن احتواؤها بهذه السلاسة في ثنايا القصيدة، ما ورد في قصيدته: «هو هو، هي هي»، خاصة أنه يعقبها بعلامة اقتباس توضيحية في ثنايا النص الشعري، يقول فيها: «هو هو مصطلح يستخدم للدلالة على مبدأ الهوية في علم المنطق» [ص49]، وهو أسلوبٌ جديد، كان مستبعداً من قبل أن تتسع القصيدة لمناقشة قوانين بهذا القدر من السلاسة الواضحة.
وتتبع القصيدة التقنيات ذاتها التي نعدها أسلوباً خاصاً به استطاع أن يؤسسه لنفسه، فيبدأ، وبشكل منطقي أيضاً، بالتأسيس للفكرة التي يتناولها في قصيدته، وبطريقة تمتاز بالسلاسة، مما يجعلنا نصنف هذه البداية تحت بند حسن الاستهلال، وبراعة التقديم، فيقول:
هو هو،/ هي هي،/ هو ليس هو،/ هي غير هي،/ حار صاحبنا،/ تساءل ما الصحيح!/ [ص 49]
بهذه الكيفية المبسطة يطرح فكرة الهوية، ويقدم لنا صورة فتى تدور في ثنايا نفسه أفكار مشحونة بكل طاقات الانفعال، متعلقة بالتفكير حول هويته، ونفسه وروحه، ولا يحدد لنا بالضبط ما دار في خلده من أفكار، مشيراً إلى الاستغراب الشديد والانزعاج الذي بدا على والدته من تمعن ابنها في هذه الأفكار، حتى ظنت أن الفتى جن، وربما هي إشارة إلى الانزعاج الشديد الذي يصيب الآباء والأجداد عندما يجدون روح الشباب تبعث على التفكير فيما لا يبدو مألوفاً، فكان حل الآباء والأجداد سرعة استدعاء الشيخ، ليدور هذا الحوار الفلسفي المبسط المشحون أيضاً بالمشاعر، على النحو التالي:
جن جنون/ الشيخ،/ انتابه الخوف/ صاح/ في الجمع الغفير!/ قابلت جنياً وعفريتاً؟/ وابئس من/ قابلت،/ بل/ بئس المصير!/ لا،/ ابتسم الفتى،/ قابلت/ سقراط وأفلاطون،/ قابلت/ أفلوطين وديموقريس!/ وقرأت أشعار/ هومير/ وهيراقليط،/ ثم زينون،/ وقبلهم/ طاليس! [ص53-54]
يختزل (محمد شيا) هنا الكثير من الحوارات الفلسفية ومدلولاتها الداخلية، وفكرة استحضار الشيخ الذي يحضر كأنه طبيب لديه ما يعالج به هذا الشاب الذي كل جريمته أنه قرأ الفلسفة، يستحضر لنا الصراع الكلاسيكي بين الدين والفلسفة، ونلاحظ مرة أخرى، أن الصورة يتم رسمها بالطريقة الكلية، في مجمل القصيدة، وليس بالاستعارات أو الكنايات أو التشبيهات الداخلية، ويأتي ختام القصيدة ليؤكد على تواري هذا الصراع ظاهرياً، لكنه سيستمر دائماً وأبداً، يصور ذلك بطريقة سلسة تسحب المعنى المراد، وتوصله في نوع من الكتمان إلى نفس القارئ، فيقول:
انصرف الجميع/ واطمأنوا،/ ابتسم الفتى،/ والشيخ،/ وتبادلا الصمت،/وتبادلا شيئاً/ من الأسرار!/ [ص 58]
إذن استطعنا هنا أن نحدد «الأسلوب» الذي يرسم به (محمد شيا) صوره وتعبيراته عن خواطره وأفكاره، وأوضحنا الكيفية التأسيسية للبداية الخاصة للقصيدة، ثم المضي في الفكرة والموضوع الفلسفي في ثنايا القصيدة، ثم الخاتمة التي تأتي مرتبطةً بالافتتاحية، سواء تأكيد لها، أو رد عليها، وفي خضم كل ذلك يحرص على سلاسة الأسلوب، وعلى تناسق الكلمات، وانسيابيتها في إيقاع خاص، لا يجعل القارئ يأنف أو يمل أو يستثقل الاستمرار في قراءة القصيدة، وكل قصيدة لها محورها الفلسفي ورؤيتها الخاصة بها، وتنطلق من فكرة أكثر مما تنطلق من شعور، ولكنها فكرة يتم استنفار كامل الطاقات الوجدانية الممكنة من أجل توصيل الصورة، ربما بلغت ذروتها الأقصى في قصيدة «غريبٌ مثلمَا كانَ»، والتي يفترض فيها حضور النبي محمد ﷺ في وقتنا الراهن، ويتخيل ماذا سيقول عن وضعنا الراهن وكيف سيكون وقع الأمر عليه، ونقارن مرة أخرى بين افتتاحية القصيدة التي يقول فيها:
هل يندم/ رسول/ على ما كان/ أنجزه،/ أو يندم/على النور/الذي كان! [ص24]
ثم تأتي خاتمة القصيدة بعدما تعدد سوءات الواقع الذي نحياه، فيقول:
… والله/ لو عاد/ رسول الله/ يمشي/ بيننا،/ عاد/ غريباً/ مثلما كان!/ [ص30]
إذن نحن أمام حالة أسلوبية لها تفردها الخاص، ورؤية شعرية تستمد قوام قصائدها من النظرة الفلسفية للواقع، وسمتها السلاسة اللغوية، والصورة الكلية، وتولي شطرها ناحية الإيقاع أكثر مما تيمم وجهها ناحية الصورة التقليدية من كنايات واستعارات وتشبيهات، ويجيد صاحبها تشكيل الكلمات عبر توازن دقيق بين حروف الهمس والجهر، مع استغلال للمد لتحقيق حالة التوازن والجريان مما كان له دوره في تيسير القضايا العميقة المطروحة، مما وفر تجربة شعرية فريدة شديدة التميز لمتلقٍ باحثٍ عن التجديد وعن جمال الصورة المعاصرة.
………………………………………….
[1] – جورج مولينيه: الأسلوبية، ترجمة وتقديم: بسام بركة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1999م، ص 66.
[2] – راجع: عبد العزيز عتيق: علم البديع، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2002م، ص 225.
