ثرثرات تافهة

abd alazeez diab
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد العزيز دياب

   لم تكن أغنيات شعبية أو نصف شعبية يكتنفها الضجيج، للمطربين “حمو بيكا”، “علاء فيفتي”، “طيخة”، “عمر حاحا”، لم تكن قصصاً وعظية تشنف آذان العامة، تكتنز البطولة للموسيقي وحنجرة المطرب عن حكاية “سالم وسالمة” أو “شفيقة ومتولي”، إنما كانت ثرثرة.

   الأمر يتعلق بتروسيكل رشيق بلون أزرق توقف عند تقاطعات الشوارع، أكياس البوظة بكل طراوتها ومذاقها الطيب على مَتْنِه. الغريب أنه مثلما كانت الرؤوس تتطوح من قبل مع حكاية السيدة “شفيقة” والسيد “متولي” كانت مسجلة هذا التروسيكل خرساء إلا من ثرثرات تافهة أتت في البداية بشكل متقطع رتيب. اشرأبت أعناق العامة والمقيمين عند النواصي وقارعات الطرق مع تدفقها وحضورها الكثيف.

   ولد مشاغب بفروة شعر مصبوغ باللون الأخضر، صَعرَ كاميرا موبايل رخيص والتقط صوراً وفديوهات تسرد الحركة الحثيثة لامرأة تتمتع بوزن ثقيل وهي تنفض حجرها، تصغي لما تبوح به مسجلة التروسيكل، صوت نسائي كأنه آت من بعيد، من وراء جدران شاهقة: هيا وصلت لكده؟ طب أنا مش حا اسكت، أيوه مش حا سكت.

   يضيع الصوت النسائي، بسلاسة يتلاشي، يأتي صوت رجالي جاف ومذبوح وفاضح: طب عليا الطلاق لرايح أشوف بنفسي إيه الحكاية، إيه يا جدعان إللي بيحصل من ورا ضهرنا؟

   انتبه الجالسون في المقهي، زحفوا واحداً وراء الآخر، كانوا في البداية خمسة، بعدها أصبحوا سبعة، وتسعة، إلى أن تجاوز عددهم عشرة، أصبحوا على مقربة من التروسيكل. كل واحد منهم طلب كيس بوظة إيحاءً منهم بأن حضورهم الكثيف كان طبيعياً، منهم من تقرفص أو جلس على الأرض، ومنهم من اتكأ إلى جدار، منهم من قدم لبائع البوظة سيجارة وأشعل له القداحة.

   ذهب الصوت الرجالي، تلاشي كأنه كان يتقهقر إلى الخلف ليحل مكان صوت نسائي خافت كوشوشة، خرجت امرأة من بيتها مسرعة، اقتربت كثيراً من مسجلة التروسيكل لتسمع: إنت يا بت مش حا تبطلي أسلوب السهوكة بتاعك ده، إيه إللي وداكي السيما امبارح…

   لحظة صمت…

   أتي صوت نسائي أكثر خفوتا وأكثر حدة: وإنتي مالك، إنتي إيه شأنك، أروح أي مكان أنا عاوزاه، إما عجاااايب.

   زحف خلق كثير، حاوطوا التروسيكل من كل جانب، كانوا قعوداً ووقوفاً، ولازالت الثرثرة مستمرة، انفلتت طبقة صوت واضحة: إيه إللى جابك يا ولية السعادي؟

   “اخرس خالص”

   “يعني إيه؟”

   “يعني تخرص وتروح تنادي عمك”

   “والله إنتي ما حا تجبيها البر”

   “غور قولتلك”

   ازدادت كثافة البشر حول التروسيكل، ينسحب الصوت، يعود بطيئاً، يسمعه آخر من انضم للحشد على بعد أكثر من عشرين متراً من موقع التروسيكل: أخرج أوعي أشوف وشك هنا تاني.

   “طب هاتي علبة السجائر”

   “روح لها وهيا حا تجيب لك السجاير وال… ولا بلاش نتكلم”

   بدأ المتزاحمين يشعرون بخنقة الجو، لوح رجل ميسور لبائع البوظة أن يضغط على المسجلة لعمل فاصل يقوم خلاله بتوزيع مشروب، زجاجات البيبسي والكولا بدأت تخرج من محل البقالة. كان الصمت هو سيد الموقف، امتد زاحفاً بعد أن أسكت بائع البوظة المسجلة.

   ارتوي القوم العطشي بماء الكولا والبيبسي، ضغط بائع البوظة لتشغيل المسجلة مرة أخري، انسابت الثرثرة بصوت له ذبذبات تضيع معها حواف الكلمات: عرفت إللي حصل؟

   “إيه؟”

   “صاحبك”

   “ماله؟”

   ” إيه، يعني إنت ما تعرفش؟”

   “أعرف إيه هوا انت قلت حاجة؟”

   “طب اطلب لنا شاي علشان نعرف نتكلم”

   “لأ… أتكلم الأول”

   “وأنا مش حا أتكلم غير لما تجيب لي شاي”

   انقطع صوت المسجلة، انفلت صوت من قلب الحشد المتزاحم: يا خسارة كنا عاوزين نعرف حا يجيب له شاي ولا لأه.

   رد عليه صوت آخر مؤنباً: كنت فاكرك حا تقول يا خسارة معرفناش التاني كان عاوز يقوله إيه؟

   انطفأت المسجلة، يبدو أن الثرثرة وصلت إلى نهايتها، برز أحد الحضور مستغلا ذلك الفراغ بعرض حكايته، هتف بصوت متضخم: “اسمعوني يا عالم…….”

   الكرة اقتحمت البيت طائرة من الشباك، أحدثت فوضي وارتباكاً وخسارة كبيرة: ارتطمت بالحائط، وارتدت إلى عين الولد الصغير الجالس على الكنبة، ارتدت مرة أخري إلى أم سيد التي كانت تحمل صينية الطعام وسقطت منها على الأرض: أرز، فاصوليا، ملوخية، شوربة، دجاجة.

   برز شخص آخر واستعرض مشكلة الضجيج بالشارع.

   وثالث استعرض مشكلة غلاء الأسعار.

   ورابع استعرض مشكلة طفح المجاري.

   ………………

   ………………

   يبدو أن استعراض المشكلات لن ينتهي، اندفع شخص إلى التروسيكل، وضع في المسجلة شريط كاسيت لأغاني “حمو طيخة”:

   هعمر رشاش القسوة هصفيكو كلمات

   إوعي تفكر إن إلى جنبك هيسندك يا غشيم

   كل إلى جنبك بيمشي جنبك لاجل صيت وحريم

 

 

 

 

 

  

 

مقالات من نفس القسم