“تغريبة القافر” أسطورة قرية عمانية صغيرة (1)

تغريبة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يحبس الماء “سالم بن عبد الله بن جميل” ولقبه “القافر –لقدرته على سماع صوت جريانه تحت الأرض ومعرفة نقطة استخراجه- في كهفٍ تحت فلج (وادي ضيق) حفره بيده. أترقب وأتعجل الكلمات وأكاد ألتهمها لأصل للحظة نجاته…، ولكن عليّ الصبر حتى تنتهي زوجه “نصرا بنت رمضان” من غزل صوفها، على غرار زوج “أوديسيوس” بطل معركة طروادة اليونانية الشهيرة “بنلوب” ملكة “إيثاكا”، ولهذا لا أملّ الانتظار.

فأعود مرة أخرى لقراءة رواية “تغريبة القافر” للشاعر والروائي العماني (زهران القاسمي)، صدرت عن دار رشم 2022، وإحدى روايات القائمة القصيرة للبوكر 2023.

بداية الرواية

“غريقة.. غريقة”

تبدأ الرواية بنداء “الطارش” -مهمة من يدور في القرية ليخبر أهلها بخبر مفجع- فتقوم عجوز معمرة وتحاول اللحاق به وهي تتكئ على هراوتها، ويهب شاب قصير من استلقائه: “وسُمِعَ زعيق وصياح في طرف القرية، نباح كلبٍ في الحارة الأخرى، صرقعة دجاجات في ضواحي النّخل، ونهيق حمير في عمق الوادي”.

حركة المشهد الصاخبة أثناء القراءة الأولى تدفع الحواس لمعرفة من غرق وكيف وما هو موقعه في أحداث الراوية؟ ولكن أثناء القراءة الثانية، على خلفية معرفتنا بإجابة وافية ندقق في بعض التفاصيل، ومنها:

-كيف عرف الطارش “حمدان بن عاشور” أنّ الجثة المستقرة في قعر البئر لامرأة؟

فهذا المشهد قبل مشهد انتشالها من البئر، وقد أكد لنا الراوي قلق نسوة المدينة وبحثهن عن أولادهن الغائبين خوفًا من أن يكون الغريق واحد منهم، وأيضًا أن مُكتشف الجثة الشايب “حميد” الذي لقب بـ بو عيون لحدة بصره لا يعرف هويتها:

وأمعن النظر، فتيقن مما رآه، لكنه لم يستطيع معرفة هوية الغريق بسبب عُمق البئر وعتمتها؟. ص9

-لماذا اختلفت طريقة سرد الأحداث؟ فهناك نوعان من الرواة لنفس المشهد.

راوي ما قبل الفاصلة

أدرك الشايب عريق أن لا أحد يقدر على الهبوط إلى قعر البئر غير شخص يسمونه الوعري. فقال لهم: عليكم بالوعري“.

الوعري” مجرد شخص (يسمونه). فالراوي ليس عليمًا بأهل القرية، ثم يكمل: “كانت جثة مريم بنت حمد ود غانم… كان زوجها عبد الله بن جميل حاضرًا، فاقترب منها وبقي ينظر إليها غير قادر على تصديق ما حدث، فما الذي جعل زوجته التي تخاف الاقتراب من حدود الآبار، تقترب حتى تسقط وتغرق في هذه البئر العميقة؟”. ص 13

الراوي ليس عليمًا أيضًا بدوافع وأسباب الغرق بأسئلته الدائرة في عقل الزوج، التي تولد لدينا أسئلة أخرى، هل انتحرت، هل دفعها شخص ما؟

ولكنّ الحركة وسخونة الأحداث وتتابعها لا تمكننا هنا من الوقوف عند أية أسئلة: “وكما جرت العادة سارعوا بغسلها وتكفينها لتدفن في مقبرة القرية. وبينما كانت النساء يكفّن مريم صرخت خالتها عائشة بنت مبروك فجأة: في بطنها حياة.. في بطنها حياة“.

فينقسم أهل القرية، هل تدفن بجنينها حيًا، أم ينتهكوا حرمة جسد الميتة ويخرجوه؟ وتحسم عمة الغريقة “كاذية” الصراع بشق بطنها، لتبدأ سيرة “القافر” بخروجه حيًا من جسد أمه. عند هذه النقطة لا ينتقل الراوي إلى فصل جديد، يضع فقط ثلاثة نجوم كفاصلة.

الراوي ما بعد الفاصلة

يتحول السرد “فلاش باك” فنتتبع حياة أمه “الغريقة” لنعرف الإجابة على سؤال كيف غرقت ولكن من راوٍ عليم ملم بكل التفاصيل:

فقدت مريم بنت حمد بن غانم أمّها وهي صغيرة، فتربّت في حضن خالتها عائشة بنت مبروك… فعاشت الفتاة طفولتها تتنقّل بين بيت خالتها وعمّاتها الثّلاث اللاتي يسكنّ في الحارة نفسها، تنادي كلّ واحدة منهنّ بأُمّي“.

نعرف أنها أفضل من يطرز الثياب، وزواجها هادئ ولم يكن ينغص عليها غير تأخر حملها خمس سنوات، ولكن: “منذ أن حملت صارت تسمع داخل رأسها طرقات هائلة، زعمت أنها كادت تفلقه، وعندما تنام تحلم بزندين كبيرين يحملان مطرقة ضخمة ويهويان بها على صخرة صماء”.

وهذا ما دفعها لأن: “تهيم مترنحة وسط الضواحي وبين النخل، تئن وتتوجع ولا تدرك إلى أين تتجه، ولا كيف تعود… ولا تعرف حساب الوقت، فتعود أحيانا مبكرة، وتتأخر أحيانا حتى المساء، فيذهب زوجها عبد الله بن جميل للبحث عنها، أو تتكفل أمهاتها بذلك. وفي أحيان كثيرة يجدونها إما مغمى عليها بين النخيل أو جالسة بالقرب من شلال الفلج النازل إلى مزارع الحارة الجدرية، هناك تعودت أن تجلس وهي تمسك برأسها تحت شلال الماء...”.

وفي ظل معرفتنا الجديدة عن صاحبة الجثة وحياتها السابقة ينقلنا الراوي العليم مرة أخرى للحظة اكتشاف “عبد الله بن جميل” أن من غرق زوجه، فقد: “اقترب منها وجلس بالقرب من رأسها، وضع يده على جبينها، وقد أدرك في تلك اللحظة معنى الأحلام التي كانت تقصها عليه، وتلك الأصوات التي تضج بها جمجمتها وتشكو منها طوال الوقت، لا شكّ في أن تلك الأصوات اللعينة قد دفعتها إلى الهبوط في البئر، من دون أن تدرك مدى خطورة الإقدام على ذلك”.

التناقض واضح بين رد فعله هذه وما ورد من قبل في صفحة 13، إذ تختفي الأسئلة الاستنكارية وتستبدل بتصور واستنتاج واضح لأسباب وكيفية غرقها.

فجوات

الأمر لم يقتصر على مجرد نقل حدث واحد من قِبَل نوعين مختلفين من الرواة، ولكن هناك فجوات لم يحاول السارد ملئها، أو حتى اختار عدم حفرها من الأساس.

أولا: شخصيات مثل “عائشة بنت مبروك” خالة “مريم” أم القافر التي ربتها صغيرة، واكتشفت وجود حياة ببطنها أثناء غُسلها، لم يأتي ذكرها إطلاقًا إلا في هذين الموضعين اللذين ضمنتهما هنا في المقال، وكأنها تبخرت هي والعمتين أختيّ “كاذية” اللاتي تربت “مريم” في كنفهنّ.

فهل يعقل أن يتركنّ حفيدهن ولا يكنّ لهن أي وجود أو ذكر في حياته؟

لماذا من الأساس ذكرهن الراوي إن لم يكن لوجودهن معنى؟

ثانيًا: احتلال حكاية “آسيا بنت محمد” للمشهد، فهي مرضعة “القافر” التي فقدت بناتها الخمسة الرضيعة تلو الأخرى، ورحل زوجها وهو لا يدري بحملها ببنتهما الخامسة “شنّة”. تُركت وحدها تتخبط حتى تكاد تجن، وبعد يومين من وفاة “شنّة” يولد “القافر” فتلقمه ثديها لينساب مع حليبها كل عذاباتها فتخلق رابطًا متينًا مع ابنها وعوضها:

شبّ عود الطفل سالم بن عبد الله في رعاية كاذية بنت غانم وحنان آسيا بنت محمد التي أرضعته إلى أن أكمل السنتين، وحتى بعد أن فطمته لم تتوقف عن زيارته وكانت بين حين وآخر تأخذه إلى بيتها، فتغدق عليه من حبها وحنانها وتطعمه من طعام تعده له بنفسها“. ص45

و”عندما أكمل سالم السنوات الست، جاء إلى القرية بائع أقمشة ومعه رسالة يود أن يوصلها إلى آسيا بنت محمد…وأخبرها بأن زوجها في قرية تسمى الغافتين مريض ويطلب منها الذهاب إليه“. ص46

ظلت أسيا تبكي يومين متتاليين، … ولم تكشف لأحد ما كانت تعيشه من صراع مرّ يمزقها بين الذهاب إلى زوجها، … وبين مُفارقتها طفلها الذي لم تعرف عذوبة الأمومة إلا معه… ظنت كاذية أن شيئا حدث لزوج صاحبتها… وعندما أخبرتها بالأمر… شجعتها على الذهاب لزوجها والاهتمام به، وقالت لها إن سالم سيبقى في انتظارها حتى تعود…“. ص46

ولكن سالم لم يبقى في انتظارها ولا يرد ذكرها مرة أخرى وكأن كل البناء الذي بناه السارد عن علاقتهما لم يكن. فقط تبتر العلاقة المتينة فجأة برحيل آسيا بنت محمد إلى حضن زوجها إبراهيم بن مهدي، الذي تُسرد حكاية غيابه كاملة رغم أنها حكاية هامشية لا تتفاعل أو تضيف شيئا لحكاية القافر.

التغريبة

التغريبة أي الغربة القسرية الإجبارية، والنفي والإبعاد عن الوطن سمة لا تخص “القافر” فقط، وربما يفسر تغلغلها في كل الحكايات المروية سبب تضمين تلك الحكايات حتى وإن لم تتصل بحكاية بطل الرواية، مثلًا:

-يتغرب “عبد الله بن جميل” بالنفي قسراً عن حضن زوجه وحبيبته “مريم بنت حمد ود غانم” بموتها.

-فيتغرب ولده “سالم” منذ لحظة ميلاده عن حنان أمه، ثم عن حنان بديلتها “آسيا” برحيلها، ثم عن مجتمع قريته لاختلافه، ثم بحبسه في كهف تحت الفلج حيًا بعيدًا عن زوجه “نصرا”.

-وبدأت غربة “سلام ود عامور الوعري” أيضا منذ طفولته بعدما مرض مرضًا شديداً لأكثر من شهر ثم عاد باختلاف في طبيعته لم تستطيع أمه تفسيره إلا بأن: “الجميع كانوا ضدّها وقد تحالفوا ليخفوا عنها الحقيقة الجليّة، حقيقة اختفاء ولدها عند الجنّ، وأنّهم استبدلوا به الولد الجنيّ الّذي صار يعيش معهاص88

فطردته من حضنها وبيتها قسراً: “فصار يهيم على وجهه في طرقات القرية، ويلجأ إلى الظّلال فيندسّ فيها مختفيًا عن أترابه من الأطفال الّذين كانوا يركضون خلفه باستمرار، ويشدّونه من شعره ويرمونه بالحجارة ويصرخون عليه: ود الجن.. ود الجن“. 

-حتى “غانم” والد “كاذية” الذي لم يأتي ذكره سوى في عدة أسطر عرفنا فيها أنه كان يعشق الطبل صغيرًا، ومنعه أباه عنه فتغرب عن حلمه، كبُر: “تزوّج غانم وأنجب ثلاث بنات، ثمّ مات والده. وبعد أن دفنه عاد إلى البيت حزينًا صامتًا وجلس قبالة الطّبل المعلّق ظلّ ينظر إليه أيّامًا وأيّامًا، كان خلالها يسمع طرقاته في داخله تُرجِف صدره، وتناديه: تعال .. وفي صباح يومٍ مّا تناول غانم الطّبل من مكانه وأمسك بعصاه وخرج من بيته بلا رجعة“. ص77

ومثلهم تتغرب “آسيا” بوفاة بناتها ورحيل زوجها، و”كاذية” بفقد حبها، و”نصرا” بغياب أو موت زوجها، هكذا بلا توقف تتوالى وتتنوع أشكال التغريب التي يفرضها أحيانًا كثيرة المجتمع بتصوراته ومفاهيمه وملاحقته وتصنيفه، أو الواقع بثقله ومرارته، على كل شخص يختار “القاسمي” سرد حكايته مهما كبرت أو قلت مساحتها.

الخرافة لغة للعصر

تدرك منذ اللحظة الأولى مدى صعوبة أن تكون مختلفًا في قرية صغيرة يعرفك أهلها وتعرفهم بأسمائهم الثنائية والثلاثية وحكاياتهم وأصلهم وفصلهم كما نقول، فيترتب على هذا انتشار النميمة، والتصنيف للحط من قدر أحدهم، أو للإعلاء من شأنه من دون منطق مفهوم.

معلومات مغلوطة لا تبنى على فهم فكرة الاختلاف والتنوع وكأن البشر من المفروض صبهم في قالب واحد، ووفقًا للقالب المعهود لا نملك تفسيرا للاختلاف فنحقره أو نخشاه، فتنتشر الخرافة والاعتقاد في الماورائيات لدرجة أن تحاول “صبيحة” والدة “الوعري” خنقه صغيرًا، فهي لا تقتل ولدها، ولكن ولد من الجنّ استبدلته “أم الصّبيان” بولدها.

الفكرة أنّ الخرافة، والاستعانة بعوالم غرائبية غيبية لتفسير ما لا نفهم، ليست نمط تفكير بدائي يقيد عقلية سكان قرية عمانية صغيرة.

ولكنه نمط تفكير يتم تدجينه والتبشير به في كل لحظة من لحظات حياتنا الحديثة، على التلفاز أو في مواقع التواصل الاجتماعية عن مفاهيم جديدة انبثقت من مفهوم البرمجة اللغوية والعصبية كتدفق الطاقة…وغيرها، فالعالم كقرية صغيرة وفق لغة عصرنا الحديث يشترك في كل ما ينتقد لبعض تصورات أبناء قرية صغيرة عمانية: (يلفظ المختلف، ويمعن في أذيته، وتصنيفه، ويتجه إلى الخرافة والماورائيات لتفسير أزماته النفسية والاجتماعية…وغيرها).

وعلى العكس هذا العالم الواسع المتسلح بالعلم وكل أدوات التمدن، لن تجد فيه بسهولة عذوبة وفرادة شخصية القرية العمانية الصغيرة، التي نحاول استخلاص سماتها من أحداث رواية “تغريبة القافر” الدائرة في منطقة بكر لها قوانينها ومفاهيمها الإنسانية المتجاوزة، التي تدعو للتأمل في مقال لاحق.

يتبع

مقالات من نفس القسم